تشير أوراق باندورا الخاصة بالملاذات الضريبية إلى أحد أوجه عقم النظام الرأسمالي العالمي وتوحّشه ولا-عدالته. جاء نشر الوثائق بعد ستة أعوام من نشر أوراق بنما (2016) وخمسة أعوام على نشر أوراق بارادايس (2017). ونشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين قبل عدة أيام أوراق باندورا، والتي يمكن اعتبارها مكمّلة للوثائق السابقة، إذ عملت كافة هذه الأوراق على نشر بيانات تخص شخصيات وشركات تتعاقد مع جهات مزودة لخدمات تقع خارج الحدود الوطنية في بلدان تعتبر ملاذات ضريبية وسرية تشتري الممتلكات، وتوفر إمكانية إخفاء هوية المستثمر الحقيقي وأصوله، بالإضافة لسهولة التهرب الضريبي.
تتناول البيانات المسربة حسب الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين شخصيات عامة تضم نحو 330 سياسي و130 رجل أعمال، وشخصيات أخرى حول العالم كالمشاهير والمحتالين وتجّار المخدرات وأعضاء من العائلات الملكية وقادة دينيين، كما تضم قائمة البيانات شخصيات غير معروفة في مجال الحياة العامة كصغار رجال الأعمال وأطباء وأثرياء صغار.
جاءت أوراق باندورا نتاج أضخم تعاون بين الصحفيين الاستقصائيين من مختلف دول العالم، إذ اشتغل على التحقيق نحو 600 صحفي من 150 مؤسسة إعلامية مُوزّعين على 117 دولة. بُني التحقيق الاستقصائي على تسريبات سرية لوثائق تخص 14 شركة مزودة للخدمات خارج الحدود (offshores)، واستغرق عمل الصحفيين على الوثائق عامًا كاملًا. تتضمن التسريبات 11.9 مليون وثيقة، أي ما يعادل نحو 2.94 تيرا-بايت من البيانات التي تحتوي على مجموعة من الوثائق والصور ورسائل البريد الإلكتروني وجداول البيانات وغيرها، خاصة بالشركات المزودة للخدمات خارج الحدود، كما تتضمن السجلات كمية غير مسبوقة من المعلومات حول ما يسمى بالمالكين المستفيدين من الجهات المسجلة في جزر العذراء البريطانية وسيشيل وهونغ كونغ وبليز وبنما وجنوب داكوتا.
تعود معظم تلك الملفات التي راجعها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين (ICIJ) إلى الفترة ما بين عامي 1996 و2020، بينما يعود بعضها الآخر إلى سبعينيات القرن الماضي، وتغطي هذه الملفات مجموعة واسعة من القضايا، مثل إنشاء شركات وهمية ومؤسسات وصناديق ائتمانية، واستخدام جهات لشراء العقارات واليخوت والطائرات والتأمين على الحياة، واستخدامها في الاستثمار وتحويل الأموال بين الحسابات المصرفية، والتخطيط العقاري وقضايا الميراث، وتجنب الضرائب من خلال المخططات المالية المعقدة، وارتباط بعض الوثائق بجرائم مالية مثل غسيل الأموال.
تختلف تسريبات أوراق باندورا عن التسريبات السابقة من حيث السعة والشمول، فتسريبات أوراق بنما (2016) استندت إلى وثائق تشكّل نحو 2.6 تيرا-بايت من البيانات من خلال 11.5 مليون وثيقة، ومن خلال الاعتماد على مزود خدمات وحيد خارج الحدود، وهي شركة المحاماة المنحلة موساك فونسيكا (Mossack Fonseca)، كما اعتمدت تسريبات أوراق باراديس (2017) على وثائق تشكل نحو 1.4 تيرا بايت من البيانات من خلال 13.4 مليون وثيقة بالاعتماد على شركة محاماة واحدة تقوم بتزويد خدمات خارج الحدود وهي أبل باي (Appleby)، وكذلك شركة الصناديق الائتمانية "Asiaciti Trust" التي تقع في سنغافورة، وسجلات الشركات الحكومية في 19 ولاية قضائية سرية (Secrecy Jurisdictions). بينما اعتمدت أوراق باندورا على نحو 2.94 تيرا-بايت من بيانات لأكثر من 11.9 مليون وثيقة جاءت من 14 شركة مزودة للخدمات خارج الحدود، في 38 ولاية قضائية سرية على الأقل. وتضمنت أوراق باندورا أكثر من ضعف عدد السياسيين والمسؤولين الحكوميين المرتبطين بأنشطة خارج الحدود مقارنة بتسريبات أوراق بنما.
إن استناد التحقيق إلى تسريبات من بيانات تخص 14 جهة مزودة للخدمات الخارجية في 38 ولاية قضائية سرية تعطي فكرة بسيطة عن حجم صناعة أكبر للخدمات الخارجية على مستوى العالم، إذ يصعب تقدير حجم هذه الشركات المزودة للخدمات عالميًّا، فجُزر العذراء البريطانية على سبيل المثال، حيث يوجد ستة من مقدمي الخدمات في أوراق باندورا، عملوا كوكلاء مسجلين هناك، وهم من بين ما لا يقل عن 101 شركة تعمل بهذه الصفة، وفقًا للجنة الخدمات المالية في جزر العذراء البريطانية. وفي مارس/آذار 2021، كان هناك أكثر من 370 ألف شركة نشطة هناك، أي حوالي 12 شركة لكل شخص من سكان هذه الجزيرة الصغيرة.
جاءت نسبة كبيرة من المعلومات المتوفرة لدى أوراق باندورا عن المُلكيات المنتفعة من تقارير تم إنشاؤها بواسطة مزودي نظام البحث الآمن للملكية المنتفعة في جزر العذراء البريطانية (Beneficial Ownership Secure Search System)، الذي تأسس أعقاب نشر أوراق بنما عام 2016، ونتيجة لذلك، قامت جزر العذراء البريطانية عام 2017 بإصدار قانون يتطلب الكشف عن أسماء المالكين الحقيقيين للشركات المسجلة هناك، وهذا ما أتاح للصحفيين الاستقصائيين في مشروع أوراق باندورا هذه المعلومات السرية المسربة من الجهات المزودة للخدمات الخارجية.
تتحدث التقارير عن شركتي "Alcogal" و"Trident Trust" التي وجد فيها أكبر عدد من العملاء السياسيين الحاليين والسابقين والمسؤولين الحكوميين، إذ يشمل عملاء شركة "Alcogal" نصف عدد السياسيين والمسؤولين الحكوميين المذكورين في أوراق باندورا، وبلغ عججهم 161 شخصًا، أما "Trident Trust" فبلغ 97 شخصًا.
لماذا يلجأ أثرياء العالم ورؤساء الدول لمثل هذه الجهات المزودة للخدمات خارج الحدود؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من معرفة طبيعة عملها. يشير موقع "Investopedia" إلى أن مصطلح "offshore" يُطلق على أي موقع خارج حدود الدولة الأم، وغالبًا يشمل القطاعات المالية والمصرفية، وذلك لوصف المواقع التي تتمتع بتنظيمات قانونية مختلفة عن الدولة الأم، وغالبًا ما تكون هذه المواقع الخارجية هي جزر تابعة لدول. بدورها، تنشئ هذه الجهات الشركات والاستثمارات والودائع. يستخدم أفراد وشركات - وعادة ما يكونون من أصحاب الثروات الكبرى - هذه الجهات، إذ ينقلون ثرواتهم للخارج لتوفر ظروفًا أكثر ملائمة؛ مثل التهرب الضريبي أو لوجود تنظيمات قانونية مخففة أو تتمتع بحماية الأصول. من السهل إنشاء الشركات في هذه البلدان أو الأقاليم الخارجية، إذ هنالك قوانين تجعل من الصعب تحديد أصحاب الشركات، بالإضافة لضرائب منخفضة على الشركات أو لا توجد ضريبة على الإطلاق، وعادةً ما توصف هذه المواقع على انها ملاذات ضريبية أو ولايات قضائية سرية مثل جزر كايمان وجزر الباهاما وجزر بنما وكذلك دول مثل سويسرا وسنغافورة. غالبًا ما تتحدث المواقع الإلكترونية عن فجوات في القوانين التي تسهل عمل هذه الشركات في الدول التي توفر ملاذات ضريبية في النظام العالمي الرأسمالي وغالبًا ما يتم الإشارة إلى سوء استخدام هذه الشركات المزودة للخدمات الخارجية في التهرب الضريبي أو غسل الأموال، إلا أن استخدام هذه الجهات الخارجية تعتبر قانونية بحسبهم.
يُطلق على البلدان التي تقدم خدمات ضريبية مخفضة أو حتى معدومة للأفراد الأثرياء أو الشركات المستثمرة على ودائعهم المصرفية في بيئة مستقرة سياسيًّا واقتصاديًّا، بالملاذات أو الجِنان الضريبية، وتتوافر في هذه الملاذات الضريبية إمكانية مرتفعة لإساءة الإستخدام من أجل التهرب الضريبي غير القانوني. كما يمكن استخدام الملاذات الضريبية بطرق غير قانونية عن طريق إخفاء الأموال عن سلطات الضرائب في الدولة الأم.
تضمنت أوراق باندورا أسماء عدد من رؤساء وملوك الدول وعدد أكبر من السياسيين والأثرياء ممن قاموا باستخدام جهات مزودة للخدمات الخارجية، مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ورئيس الوزراء اللبناني الحالي نجيب ميقاتي، وأعضاء من عائلة الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، وملك الأردن عبدالله الثاني، وأعضاء من عائلة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ورئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس. وشخصيات سياسية من الصين وباكستان والسعودية وقطر، وتضمنت القائمة عددًا من الشخصيات المشهورة مثل شاكيرا وكلوديا شيفر، إلا أن الغالبية العظمى من المالكين المستفيدين من دول أميركا اللاتينية وروسيا.
تركز أغلب التقارير التي وردت في أوراق باندورا على الكيفية التي استخدمت فيها هذه الشخصيات الجهات المزودة للخدمات الخارجية من أجل بناء ثرواتهم الاستثمارية أو شراء عقارات تتجاوز ملايين الدولارات في مناطق الملاذات الضريبية، دون أن تتحدث عن مصدر هذه الثروات المهولة التي تمتلكها هذه الشخصيات وطرق حيازتها وامتلاكها. وتظهر الصورة الموجودة في الموقع بأن أغلب هذه الشخصيات السياسية تعود لبلدان في العالم يسود فيها الفساد والفقر، وتنعدم فيها الحرية والعدالة الاجتماعية بين الطبقات، وتشهد غياب الديمقراطية والمساءلة.
تكشف وثائق باندورا بصورة مباشرة عن حجم الفساد والتهرب الضريبي لدى زعماء دول وشخصيات سياسية ورجال أعمال ونجوم شهيرة، لكن ما تكشفه بطريقة غير مباشرة هو بؤس ولا عدالة النظام الرأسمالي العالمي الذي يقدم تسهيلات لأصحاب رأس المال من أجل مراكمة صافي الربح، فلا أحد يسائل هذا النظام اللاأخلاقي، وهو نظام يفتقر إلى العدالة والإنصاف والمساواة، ليس في بلدان العالم الثالث وشعوبه المسحوقة فحسب، بل حتى في الدول المتقدمة كالولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، ولا تتعدى وثائق باندورا عن كونها عَرَضًا جانبيًّا لمرض الرأسمالية العالمي البنيوي الذي يسمح ويسهل مراكمة رأسمال يسيطر عليه قلة من البشر لا تتجاوز نسبتهم الواحد بالمئة، بينما تدفع الشعوب المسحوقة ضرائب لدول يتزعمها رؤساء يراكمون الثروات من مصادر غير معروفة ويلجأون إلى ملاذات التهرب الضريبي دون مساءلة.
لا شك أن تسريبات أوراق باندورا هدفت بشكل مباشر لكشف هذا الاعتوار في توزيع رأس المال كما فعلت تسريبات سابقة، إلا أنه يبقى على الشعوب في العالم أجمع أن تقوم بمحاسبة ومساءلة مسؤوليها وسياسيّها الذين يتشدقون على شعوبهم بشعارات الحرية والعدالة والديمقراطية ومكافحة الفساد التي ستبقى وصمة عار في تاريخ هؤلاء المسؤولين والسياسيين وصناع القرار.
في النهاية تشير تسمية أوراق باندورا بهذا الاسم نسبةً للصندوق الأسطوري في الميثولوجيا الإغريقية الذي يحمل كل شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد ووهن، وهو جزء صغير من هذه الشرور المسربة على هيئة وثائق.