أيام قليلة تفصلنا، نحن العراقيين، عن ممارسة تجربة انتخابية جديدة يشوبها الشك بادعاءات السلطة الحاكمة حول نزاهة الانتخابات، واليقين المطلق بقدرة قوى السلطة والميليشيات الحاكمة على ضمان نتيجة الانتخابات سلفًا، وأن هذه التجربة لن تختلف عن التجارب السابقة في شيء يذكر سوى تغيير بعض الوجوه!
وعلى الرغم من ضجيج الطبقة السياسية حول الانتخابات وأنها جاءت لتلبية مطالب انتفاضة تشرين، لكن واقع الحال يقول إن هذه الانتخابات لا تختلف عن التجارب السابقة التي تجرى كل أربع سنوات، تجارب شكلية ومحسومة سلفًا، ولم تنتج سوى الفساد والهيمنة على مقدرات الدولة والمال العام واحتكار الوظائف العامة وإضافة الآلاف من المعطلين عن العمل إلى رصيف البطالة!
بمعنى آخر، إن القوى السياسية الحاكمة، تمكنت من تصوير الانتخابات المبكرة وكأنها أحد مطالب انتفاضة تشرين، وتوافقت فيما بينها على موعد آخر يتناسب مع قدراتها وتصوراتها، وربط تحركاتها وقراراتها ومشاريعها بإنتفاضة تشرين وأنّها تأتي استجابة لمطالبها! وما يمكن أن يحدثه ذلك من زعزعة في الأوساط الاجتماعية والسياسية التي دعمت الانتفاضة ودافعت عنها ضد كل الهجمات الإجرامية والدموية التي نفذتها قوى السلطة والميليشيات بحق المتظاهرين وساحات الاعتصام ومطالب الانتفاضة التي استهدفت النظام السياسي الطائفي الفاسد قبل أي شيء آخر.
هل يمكن أن نعول على الانتخابات القادمة وما ستنتجه من طبقة سياسية جديدة تحكم العراق والعراقيين للأعوام المقبلة؟ شخصيًّا، لست من الذين يتوقعون الكثير، المفرح والمهم، أو الذي يمس حياة الناس، بعد الانتخابات المقبلة في العراق. ذلك أن القوى التي صممت النظام السياسي وكل تفرعاته، بما فيها النظام الانتخابي الذي يضمن هيمنتها ونفوذها، بأسماء وأشكال تنظيمية مختلفة، ستكون هي الحاكمة والمتنفذة، ومهما كانت نتائج الانتخابات والتصويت، فإنها محكومة بتوافقات سياسية لا يمكن المس بها: تقاسم السلطة طائفيًّا!
إن الانتخابات التي يتحول فيها رموز الفساد والطائفية من أمثال برهم صالح وهادي العامري ونوري المالكي ومقتدى الصدر إلى دعاة ينصحون الناس بالمشاركة في الانتخابات، من أجل إعادة هيبة الدولة، لا يمكن أن نتوقع أي شيء إيجابي ينتج عنها. هيبة الدولة التي يتحدث عنها القادة وزعماء المليشيات، العامري والمالكي ومقتدى الصدر وقيس الخزعلي، وكل القوى الميليشياوية والولائية، وأن الانتخابات القادمة ستكون فرصة لهذه القوى من أجل استعادة هيبتها، لم تكن حاضرة أبدًا في كل ممارسات القوى التي تدعي الدفاع عن الدولة. كان انتهاكها أبسط من جرة قلم أو تصريح بسيط لزعيم ميليشيا، كانت غائبة لأن كل طرف منها كان يعمل على تأسيس دولته الخاصة أو التابعة.
يقول رئيس الجمهورية، برهم صالح، في دعواته المستميتة عن الانتخابات: "أتمنى من المقاطعين التدقيق في خياراتهم والخيار الأسلم للبلد هو المشاركة في الانتخابات، لا خيار آخر، ولا نريد العودة للشارع ومسلسل العنف"، وأضاف: "الانتخابات لن تكون العصا السحرية لحل كل مشاكل العراق لكن هي الخيار الافضل والأسلم"!
لماذا يحدثنا برهم صالح عن معنى أن الانتخابات هي الخيار الأفضل والأسلم الذي يتوجب على العراقيين اتباعه، ولم يحدثنا كذلك عن فحوى أن الانتخابات لن تكون العصا السحرية لحل كل مشاكل العراق؟
من الواضح أن برهم صالح، رئيس جمهوريتنا العتيدة، يدرك، أن الانتخابات لعبة سياسية، لن تهدف إلى حل مشاكل العراق، لكنها سترحّلها إلى فترات قادمة، إذ يطمح سيادته للبقاء في المنصب للسنوات الأربع القادمة.
كل عاقل في العراق يدرك أن الانتخابات أداة لقوى السلطة لتدوير نفوذها وهيمنتها بأسماء مختلفة وأحزاب لم تألفها أذن إنسان ما! وكل عاقل في العراق يدرك، أيضًا، أن التلاعب بمشاعر الناس وعواطفها سيكون وسيلة مناسبة لتذكيرها بمظالم التاريخ الدموي السابق واستغلاله طائفيًّا، أو بما حققه الحشد الشعبي، الذي تخلى في أوقات سابقة عن الآلاف من المقاتلين، لكنه وفي لحظة صحو انتخابي أعاد فتح ملف عودتهم إلى وظائفهم مع التركيز والتذكير: أن الحشد تأسس بفتوى من السيستاني من أجل مواجهة داعش! وكأن هيئة الحشد الشعبي تقول صراحة: لا يمكن الحديث عن الحشد الشعبي وفساد قادته وإجرام فصائله والانتهاكات التي مارسها بحق العراقيين قبل غيرهم، لأنه تأسس بفتوى من السيستاني!
لا تختلف تصريحات برهم صالح عن غيره من الساسة وقادة الكتل والاحزاب السياسية في العراق. لا يختلف عن مقتدى الصدر وقيس الخزعلي وهادي العامري ونوري المالكي وحيدر العبادي أو خميس الخنجر، كلهم في الهم سواء. وكل واحد منهم يريد أن يمارس أكبر قدر من الاحتيال على العراقيين وإقناعهم بضرورة انتخابهم مرّة أخرى. مرّة تحت شعار إعادة هيبة الدولة، ومرّة أخرى تحت شعار الإصلاح!
لم يغب قادة الميليشيات والحشد الشعبي والفصائل الموالية لإيران عن مهرجان السيرك الانتخابي القادم، بل كان لهم حضورهم الواضح، ومن المؤكد أنهم سيحققون نتائج واضحة في هذا السيرك المحسوم سلفًا لصالحهم. وفي هذا السياق، قال هادي العامري، زعيم تحالف الفتح الذي حول تحالفه إلى القوة الوحيدة التي يمكنها أن تنقذ الدولة من قوى اللادولة ومن الانهيار: "نحن جادون في بناء مؤسسات الدولة وإعادة هيبة الدولة، لا يوجد أحد قادر على إعادة هيبة الدولة غير الفتح"!
ولأن هادي العامري يدرك جدية المطالبة بحل قوى الحشد الشعبي أو دمجه في مؤسسات الدولة الأمنية، الجيش والشرطة، فأنه يقرع جرس إنذار حماية الحشد الشعبي من محاولات حله أو دمجه، قطعًا، لن يتأخر هادي العامري في ذكر إسرائيل وأنها من الجهات التي تدعم حل الحشد الشعبي أو دمجه!
كل القوى الميليشياوية ترفع شعار استعادة هيبة الدولة تسببت في انحطاطها وفقدان هيبتها، نوري المالكي حكم العراق لثمان سنوات وكانت النتيجة خسارة نصف العراق لصالح داعش، ولكنه يتحدث الآن عن مشروع لاستعادة هيبة الدولة!
لا ندري، ولا نعلم، صراحة، عن أي دولة أو هيبة يتحدثون؟