يستقبل الإثيوبيون عامهم الإثيوبي الجديد 2014 في ظل أزمات داخلية وإقليمية تعصف بكيان الدولة الإثيوبية، يأتي في مقدمتها الحرب التي يخوضها الجيش الفيدرالي ضد مقاتلي جبهة تحرير تجراي منذ ما يقارب العام، فيما تمثل الصراعات الإثنية والعرقية المتصاعدة في أنحاء البلاد تحديات تهدّد بقاء الدولة الإثيوبية، أقلّه على شكلها الحالي. وتتوالى الدعوات بأن تضغط القوى الغربية الحليفة لأديس أبابا على رئيس الوزراء آبي أحمد لمغادرة السلطة لتجنب انهيار الدولة، وهو سيناريو إن تحقّق سيكون أكبر انهيار في العصر الحديث، وقد شبّه بهذا الخصوص مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى القرن الأفريقي، في مقابلة مع مجلة فورين بوليسي، أنّ انهيار إثيوبيا سيجعل حرب سوريا تبدو وكأنها "لعبة أطفال"، ففي حين كان يصل تعداد سكان سوريا قبل الحرب إلى حوالي 23 مليون نسمة، فإن عدد سكان إثيوبيا يبلغ، بالمقارنة، 110 ملايين نسمة.
يُلقي هذا المقال الضوء على التاريخ السياسي لإثيوبيا الحديثة، ويناقش التناقضات والتعقيدات العرقية والهيكلية والسياسية التي رافقت عملية تشكّل الدولة الإثيوبية، والتي لا يمكن فهم الصراعات الحالية بدونها؛ وهي تناقضات يُطلق عليها بعض الباحثون بمصطلح "الاستعمار الداخلي" (Internal Colonialism)، فعلى الرغم من أن إثيوبيا حسب السردية الرسمية لم تشهد استعمارًا من القوى الأوروبية، إلا أن تشكّلها الحديث قام على إخضاع الشعوب القاطنة في المناطق الجنوبية والشرقية من قبل النخب الحبشية السامية، إذ عمد الإمبراطور منليك الثاني (1844- 1913) بُعيد انتصاره على القوات الإيطالية في معركة عدوة الشهيرة في عام 1896 إلى توسيع حدود مملكته إلى الأراضي الجنوبية. وكرّس سردية تربط حكمه الجديد بالحكم الحبشي التاريخي الممتد لثلاثة آلاف عام، وهي المقولات التي يقتبسها المُحاججون الآن بأن إثيوبيا دولة استثنائية في المنطقة وتتمتع بشرعية تاريخية تمنعها من الانهيار. والواقع أن إثيوبيا، كما نعرفها اليوم، ليست أقدم من الدول الإفريقية، إذ يعود تاريخ تشكلّها خلال فترة التدافع الإمبريالي في أواخر القرن التاسع عشر، بيد أن الفرق يكمن في أن إثيوبيا ليست من صناعة الأوربيين، بل صنعها أفارقة شاركوا في هذا التدافع، وهي العائلة الحبشية السامية التي حكمت الهضبة الشمالية لعدة قرون، والمكوّنة من فرعي: الأمهرا والتيغراي.
أباطِرةٌ وجَبهاتْ: إثيوبيا خلال قرن
لقد ظهرت في العقود الأخيرة العديد من الأبحاث التي تعيد النظر في السردية التاريخية الرسمية للدولة الإثيوبية التي أسْطرها الأباطرة الإثيوبيون. وبالمثال، يبيّن الباحثان بوني هولكومب وسياسي إباسا في كتابهما: The Invention of Ethiopia: The Making of a Dependent Colonial State in Northeast Africa، اختلاف كيان "الحبشة" التاريخي عن الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قاد الأمهرا المنتمون إلى السلالة السليمانية الإثيوبية عملية توسّع ضاعفت أراضي المملكة الحبشية عشر مرات، حين زحف الملك منليك الثاني باتجاه أراضي الشعوب الكوشية، ونفذ توسعًا إقليميًّا في المنخفضات الجنوبية في الوقت الذي كانت القوى الأوروبية الاستعمارية تتسابق على المنطقة. واتبع منليك نمطين للسيطرة: ففي حين استسلم بعض الحكام الجنوبيون سلميًّا مثل حكام جيما وليجا وبيلا شاغول وأشوسا لحكمه، وسُمح لهم بحكم أراضيهم مقابل دفع إتاوات ثابتة، سقطت بقية الأراضي الجنوبية في يد قادة جيش منليك ونبلائه، وعلى هذا تأسست ما سُمي لاحقًا بالإمبراطورية الإثيوبية، وهي حدود دولة إثيوبيا الحالية.
وقد أقام الإمبراطور منليك الثاني حكمه على الأساطير الدينية باستعادة مُلك الأسرة السليمانية الضائع والممتد لسليمان ابن داوود؛ وعلى هذا حُدّدت المسيحية الأرثوذكسية كدين رسمي للإمبراطورية، بحيث يكون الإمبراطور هو رأس الكنيسة والدولة معًا، في الوقت الذي يُسيطر جنود الإمبراطورية وكهنة الكنيسة الأرثوذكسية على أراضي الدولة، فيما عُدّت اللغة الأمهرية اللغة الرسمية. لذلك كانت الهوية الوطنية الإثيوبية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأمهرا. وبدخول التعليم الحديث في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي تزايدت هيمنة النخب الأمهرية على الفضاءات الثقافية والاجتماعية الوطنية، إذ كانت اللغة الأمهرية اللغة الرسمية الوحيدة المسموح بها في التعليم الحديث في بلد متعدد العرقيات واللغات والأديان. واستمر هذا لغاية الأربعينيات حين قاد الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول (1931-1974) إصلاحات سياسية تمثلت بفصل الدولة عن الكنيسة الأرثدوكسية، ومُنح الاعتراف للأديان الأخرى في البلاد، لكن إصلاحاته لم ترتقِ لحل التفاوت العرقي والثقافي الهائل التي قامت به الإمبراطورية الإثيوبية.
ومع المناخ الذي ساد القارة في التحرّر من الاستعمار الأوروبي في ستينيات القرن الماضي؛ واجه الحكم الإمبراطوري اضطرابات ثورية عديدة من قبل العرقيات غير الأمهرية في أنحاء البلاد. وتُوجّ ذلك باندلاع الحرب الانفصالية في إريتريا في سبتمبر 1961. وتصاعدت تلك الاضطرابات إلا أنه تمت الإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي عبر انقلاب قاده الجنرال منغيستو هيلا مريم في سبتمبر 1974. ودخلت إثيوبيا بعدئذ مرحلة ثانية تستهدف فيها الدولة تدمير الأساس المادي والأيديولوجي للنظام الإمبراطوري، وأصدر منغيستو في هذا الخصوص قرارًا يقضي بتأميم الأراضي في عام 1975 والذي أنهى نظام الإيجار تلقائيًّا، كما تبنّى "الاشتراكية العلمية" كأساس المبدأ التوجيهي الرئيسي لحكمه، وأعلن المساواة بين المجموعات العرقية في البلاد والإدارة الذاتية للقوميات. ومع ذلك، لم يُفلح منغيستو في ترجمة كل هذا إلى واقع عملي. واتسمت فترته (1974-1991) بالتمردات الداخلية والقمع العسكري الشديد الذي عُرف بـ"الإرهاب الأحمر". وتفاقمت التمردات العرقية مع حرب القرن الأفريقي الكبرى بين الصومال وإثيوبيا (1977-1978) والتي خاضها الصومال لاستعادة أراض تاريخية تابعة له سيطر عليها الملك منليك الثاني (الصومال الغربي أو أوغادينيا حسب التسمية الشائعة)، واستمرت تلك الحرب بين نظامي سياد بري ومنيغستو عبر دعم وتسليح الجبهات الداخلية ضد بعضهما لغاية سقوط كلا النظامين في عام 1991.
في مطلع التسعينات، وصلت جبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF) بقيادة مليس زيناوي إلى السلطة، وحكمت البلاد من خلال ائتلاف أنشأته الجبهة تحت مسمى الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي (EPRDF)، ويضمّ أربعة أحزاب عرقية. وسعتْ جبهة التيغراي إلى حلّ المشكلة العرقية الإثيوبية من خلال المبادئ الستالينية التي تدعو إلى إعطاء العرقيات حقها السياسي والاجتماعي. واعتبرت خيار الفدرالية الإثينية استجابة مناسبة لإذابة إرث الهيمنة العرقية والتهميش التاريخي بين المكونات الإثيوبية، وكذا حاجتها إلى نزع الشرعية من النخب الأمهرية. وعلى هذا قدم دستور عام 1994 تشكيل البلاد من اتحاد فيدرالي يضم تسع ولايات إقليمية قائمة على العرق ومدينتين ذات حكم ذاتي تابعة للحكومة المركزية (أديس أبابا العاصمة، ومدينة ديرا دوا). ولم تقتصر الجبهة على هذا الحد، بل ذهبت أبعد بتنصيص الدستور على حق الأقاليم بتقرير المصير والانفصال. ونجحت هذه المقاربة، على الأقل بشكل مرحلي، في التغلب على أزمة الثقة بين المركز والأطراف، وهي المعضلة التي لازمت الدولة الإثيوبية في نسختيها الإمبراطورية والعسكرية، إلا أن النظام الجديد حمل معه إشكالات وتناقضات جديدة، فاقمت من حدة صراعات الدولة الإثيوبية.
مآزق الفيدرالية الإثنية
كان التبرير العملي الذي قدمته النخب التيغراوية بطرحها النموذج الفيدرالية الإثنية هو الحد من الصراعات العرقية-الإثنية، إلا أن هذا النموذج نفسه أنتج أشكالًا جديدة من الصراعات "اللامركزية"، وعادت التناقضات البنيوية غير المحلولة في النظام السياسي إلى السطح. وكما يكتب الباحث الإثيوبي Asnake Kefale حصل في فترة الفيدرالية الإثنية انزياح من الصراع على نظام الحكم المركزي إلى مستوى الأقاليم. ويحدد الكاتب استفحال ثلاثة أشكال من الصراعات تحت الفيدرالية الإثنية، يتمثل الأول: بتسييس العرقيات والإثنيات بطريقة غير مسبوقة لمحاولة الحصول على الاعتراف كأقاليم عرقية. والثاني: إذكاء النظام الجديد النزاعات الحدودية بين الأقاليم الإثنية المعترفة بها من المركز. وثالثًا: احتدّت الصراعات في داخل الإقليم بين الجماعات العرقية المتنافسة، خصوصًا في المناطق متعددة الأعراق والإثنيات. وتتزايد حدة هذه النقطة إذا نظرنا إلى أن إقليمين فقط من الأقاليم التسعة الفيدرالية متجانسة عرقيًّا (الإقليم العفري والإقليم الصومالي)، في حين أن الأقاليم الأخرى تضم أقليات عديدة، وينطبق هذا على إقليم التيغراي، والأمهرا، والأوروميا، وبني شنقول، وهرار، وإقليم شعوب جنوب إثيوبيا (SNNPRS) الذي يضم أكثر من خمسين مجموعة عرقية. ناهيك أن أعراق إثيوبيا تصل إلى أكثر من 90 مجموعة عرقية، والاعتراف بتسعة أقاليم فقط كمناطق عرقية مخالفة للدستور، أقلّه نظريًّا، لكنه غير عملي على أرض الواقع (تم الاعتراف بإقليم عاشر كإقليم فيدرالي في نهاية عام 2019 بعد استفتاء شعبي). وعلى هذا، مثلت مطالبة العرقيات الاعتراف بها كأقاليم فيدرالية إشكالية تؤرق النظام الفيدرالي طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. وفي هذا الصدد، كان قد اقترح بعض المختصين، من بينهم المفكر السياسي محمود ممداني تبنّي خيار الفيدرالية الإقليمية لمواجهة هذه المعضلة، حيث يمكن أن يتمتع جميع سكان الوحدة الإدارية بحقوق متساوية في أقاليم تضم سكانا متعددي الأعراق، إلا أن هذا الحل بدوره، يواجه في الحالة الإثيوبية تحديّات ناجمة من الإرث التاريخي التي تركته الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ تشكلّها.
بدأ عجز نظام الفيدرالية الاثنية يظهر إلى السطح مع وفاة مليس زيناوي في عام 2012، مهندس الدولة الفيدرالية، وعاد الصراع على شكل الدولة وعلى السيادة بين الإثنيات الثلاث الكبرى: التيغراي والأمهرا والأورومو. وفي عام 2015 قاد شباب القيرو (Qeerroo) موجات احتجاجات شعبية واسعة؛ وهي حركة أورومية تناهض التهميش التاريخي ضد الأورومو والذين يشكلون أكبر مجموعة عرقية في البلاد، وبدأت مظاهراتهم احتجاجًا على خطط توسيع حدود العاصمة على أراض تابعة لهم. وجابهتهم قوات الأمن بقتل حوالي ألف متظاهر أورمي خلال عام، ما أشعل مزيدًا من التوتر بين الأورومو والحكومة المركزية، وللسيطرة على هذه التوترات، أقال الائتلاف الحاكم رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين في منتصف 2018، وعيّن بدلًا منه آبي أحمد كرئيس للوزراء، وهو كان زعيم منظمة شعب الأورومو الديمقراطية، أحد مكونات الائتلاف الحاكم.
مشروع آبي أحمد
عند وصوله إلى الحكم في يوليو 2018، قاد آبي أحمد موجات إصلاحات سياسية واقتصادية سريعة نالت تقدير الجميع، منها الإفراج عن السجناء السياسيين ورفع القيود عن الصحافة وخصخصة الاقتصاد، ورفع الحظر عن الأحزاب والتنظيمات المعارضة والسماح لأعضائها بالعودة من المنفى. وامتدت إصلاحاته إلى الخارج حيث عقد اتفاقيات سلام مع إريتريا بعد عشرين عامًا من العداء، ونال جائزة نوبل للسلام الدولي بسببها. وفي هذه الأثناء، كان يخوض حربًا مُعلنة مع جبهة تحرير شعب التيغراي الحاكمة سابقًا (رغم أنها حكمت البلاد حوالي ثلاثين سنة فإنها لم تغيّر اسمها من الجبهة). وبدأ بإقصائهم عن الجيش وعن مؤسسات الدولة الأخرى، وتوج هذه الخطوات بإعلان حلّه الائتلاف الحاكم الذي أوصله إلى الحكم (EPRDF)، وإنشائه ائتلافًا جديدًا أسماه حزب الازدهار، ويضم 8 أحزاب. وأمام ذلك، رفضت جبهة تحرير التيغراي فكرة الاندماج مع الائتلاف الجديد، ورأته استهدافًا لها، واستقال قادة التيغراي من المناصب الفيدرالية، وتمركزوا في إقليمهم الواقع في الشمال الإثيوبي.
واجه آبي أحمد في شهوره الأولى عدة محاولات انقلابية، ومحاولة اغتيال فاشلة في وقت كان يخطب أمام حشدٍ من أنصاره، واتهم الجبهة بالضلوع فيها. وفي أكتوبر 2020، فجّر الصراع بين الحكومة الفيدرالية وجبهة التيغراي قرار تأجيل الانتخابات الوطنية للمرة الثانية بحجة انتشار جائحة كوفيد-19، إذ رفض الإقليم قرار التأجيل وعَقد انتخاباته الإقليمية بصفة مستقلة متجاهلًا أوامر الحكومة الفيدرالية، مما قاد إلى تبادل سحب الشرعية بين الطرفين. وفي غضون أيام، شنّت الحكومة الفيدرالية عملية عسكرية برية وجوية على الإقليم أسمتها "عملية إنفاذ القانون"، شاركتها مليشيات عرقية تنتمي لمنطقة أمهرا المجاورة وقواتٌ إريترية، وفي غضون أيام استولى هذا التحالف الثلاثي على مقلي عاصمة التيغراي.
ومع أن الحكومة الفيدرالية ساقت تفسيرات عدّة لقرار شنها الحرب على الإقليم (منها القول إن الجبهة قامت بالهجوم على قاعدة عسكرية تابعة للجيش الفيدرالي في الإقليم) إلا أنه من الواضح أن السبب الحقيقي يعود إلى الخلاف العميق بين الجانبين على نموذج الحكم القائم على الفيدرالية الإثنية. فيرى آبي أحمد أن هذا النموذج قنبلة موقوتة تهدد الدولة الإثيوبية، ويتبنى بدلًا من ذلك نظامًا فيدراليًّا قائمًا على صلاحيات واسعة للحكومة المركزية، كما يطرح في كتابه "MEDAMER"، وتعني بالأمهرية (التآزر)، ويعتبر مسألة الاندماج الوطني المشكلة الحقيقية في إثيوبيا. بينما تتهم جبهة التيغراي آبي أحمد بمخالفة الدستور، والسعي لإحياء مجد الإمبراطورية الحبشية، وتتوجّس من رغباته السلطوية في الحكم، خصوصًا أن ثمة تصريحات مسجلة يقول فيها إن والدته الأمهرية أخبرته، وهو في السابعة من العمر، بأنه سيصبح الملك السابع لإثيوبيا.
نهاية مرحلة
في يونيو الماضي، عاد رئيس الوزراء آبي أحمد إلى الحكم في انتخابات تفتقر إلى النزاهة. وفي نفس الفترة، حقّق مقاتلو التيغراي نصرًا عسكريًّا على الجيش الفيدرالي، وأجبروه على الانسحاب من معظم أراضي الإقليم، بما في ذلك العاصمة، وأسروا ما يقارب عشرة آلاف فرد من الجيش الفيدرالي بعد محاصرتهم، ونظمت الجبهة مسيرة عرض لاستسلامهم سُميت بـ"مسيرة العار"؛ وقد تكون أكبر عملية استسلام لجيش نظامي منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ما زالت القوات الفيدرالية تحتفظ بمناطق غرب التيغراي، وترتكب عمليات تطهير عرقي، حسب تقارير حقوقية وإنسانية كثيرة، كما تفرض حصارًا شاملًا على الإقليم، وتمنع حركة التجارة ووصول المساعدات الإنسانية. ومن الواضح في هذا السياق، أن حرب آبي أحمد التي وعد بأن تكون حاسمة وسريعة، تحولت إلى حملة إبادة جماعية مصحوبة بعمليات قتل مُمنهج، تصفها المنظمات الإنسانية بأنها ترقى إلى جرائم حرب. وقد طلب مؤخرًا من جميع الإثيوبيين القادرين على حمل السلاح الانضمام إلى القوات المسلحة. ويعقد العزم على تطهير الجبهة من الإقليم مهما كلفه ذلك، ويستخدم بهذا الخصوص خطابًا يحمل ملامح الإبادة الجماعية، كتلك التي ارتكبها سياد بري، ديكتاتور الصومال السابق في شمال الصومال (صوماليلاند حاليًّا) في ثمانينيات القرن الماضي. إذ يصف رئيس الوزراء الإثيوبي جبهة التيغراي والتيغراويين، بـ"ضباع النهار" و"الآخرين غير المألوفين"، وأنه "سيتم اجتثاثهم من جذورهم". ومن جانبها، تعلن الجبهة أن نشاطها العسكري محكومٌ بتحقيق إجبار الحكومة على قبول فك الحصار من الإقليم ثم البحث عن حلول سياسية، من بينها إتاحة المجال للتيغراويين للتصويت في استفتاء على الحكم الذاتي الذي ينص عليه دستور البلاد، والتي من بينها الانفصال. وعمليًّا، تستعد الجبهة على أرض الواقع للاستمرار في الحرب إلى أمد طويل، وهي تملك معرفة تاريخية في هذا الصدد، وتُغرق ببطء باقي الأقاليم المجاورة لها في مستنقع الحرب مثل أقاليم العفر والأرومو والأمهرا، كما تبيّن في الأسابيع الماضي، وأمام هذا الوضع؛ لا تبدو حركة الأورومو التي مهدت لآبي أحمد الوصول إلى الحكم وأجبرت الائتلاف السابق على التنازل على أنها منظمة بشكل كافٍ لتقديم بديل واضح، ويقبع قادتها في السجون. وبالمحصلة، يتأكد من كل هذا، وبعد مرور 10 شهور على اندلاع الحرب؛ دخول إثيوبيا مرحلة جديدة من أزمة الدولة، قد تكون نهاية لشكل الدولة الإثيوبية الذي بدأ في التسعينيات.
خاتمة
تقوم الدولة الإثيوبية على خصوصية معقدة من الصراعات التاريخية التي تعود إلى فترة تشكّل الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة في القرن التاسع عشر، ورغم أن التواريخ الوطنية لمحاولة التأريخ للدولة الإثيوبية لم تكن يومًا محل إجماع؛ إذ كانت دومًا ترتبط بمخيلة الفئات العرقية الحاكمة في كل فترة ومشروعها. فإن ذات الأمر يتكرر مع الحرب الجارية، بحيث أصبحت جبهة التيغراي التي صمّمت شكل الفيدرالية الإثنية الحالي "العدوّ الجديد" الذي يتوجّب اقتلاعه، وتُستخدم لغة "الأضرار الجانبية" لوصف الفظائع والتجويع والحصار التي تُرتكب ضدها باسم "القانون". وفي الوقت عينه، نشاهد تراجع الطرف التيغراوي عن الهوية الوطنية الإثيوبية في مقابل صعود الخطاب العرقي والانفصالي لديه. ويمكن القول بإن هذا ليس مفاجئًا تمامًا، بل هو استمرارية لـ"حالة الاستثناء" و"الصراع على السيادة" التي ظلت السمة الأساسية التي ميزت الدولة الإثيوبية في القرن والنصف الماضيين.
تبقى الإشارة بأن التحدي الملحّ الذي تواجهه الدولة الإثيوبية في المرحلة الراهنة هو اتباع آبي أحمد نهجًا مستوحىً من "محاكمات نورمبرغ" لتصفية النخب التيغراوية السابقة. وكما حذر محمود ممداني في كتابه الجديد، "لا مستوطن ولا مواطن: في صناعة الأقليات الدائمة وتفكيكها"، فإن تقسيم المجتمعات السياسية إلى ضحايا وجناة لن يؤدّي سوى إلى تعزيز الحلقة المفرغة من العنف. ولا يبتعد نهج آبي أحمد الحالي، والمدفوع بسلطوية الحاكم الفرد، عن تجربة "الإرهاب الأحمر" في السبعينيات، أو عن "الاستعمار الداخلي" الذي قاده الأباطرة الذين شكّلوا الدولة الإثيوبية الحديثة. وهي التناقضات التي باتت ترتد من مستقبل إثيوبيا بعنف.