أباطِرةٌ وجَبهاتٌ: تاريخٌ مُوجزٌ للدولة الإثيوبية

أباطِرةٌ وجَبهاتٌ: تاريخٌ مُوجزٌ للدولة الإثيوبية

أباطِرةٌ وجَبهاتٌ: تاريخٌ مُوجزٌ للدولة الإثيوبية

By : Sohaib Mahmoud صهيب محمود

يستقبل الإثيوبيون عامهم الإثيوبي الجديد 2014 في ظل أزمات داخلية وإقليمية تعصف بكيان الدولة الإثيوبية، يأتي في مقدمتها الحرب التي يخوضها الجيش الفيدرالي ضد مقاتلي جبهة تحرير تجراي منذ ما يقارب العام، فيما تمثل الصراعات الإثنية والعرقية المتصاعدة في أنحاء البلاد تحديات تهدّد بقاء الدولة الإثيوبية، أقلّه على شكلها الحالي. وتتوالى الدعوات بأن تضغط القوى الغربية الحليفة لأديس أبابا على رئيس الوزراء آبي أحمد لمغادرة السلطة لتجنب انهيار الدولة، وهو سيناريو إن تحقّق سيكون أكبر انهيار في العصر الحديث، وقد شبّه بهذا الخصوص مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى القرن الأفريقي، في مقابلة مع مجلة فورين بوليسي، أنّ انهيار إثيوبيا سيجعل حرب سوريا تبدو وكأنها "لعبة أطفال"، ففي حين كان يصل تعداد سكان سوريا قبل الحرب إلى حوالي 23 مليون نسمة، فإن عدد سكان إثيوبيا يبلغ، بالمقارنة، 110 ملايين نسمة.

يُلقي هذا المقال الضوء على التاريخ السياسي لإثيوبيا الحديثة، ويناقش التناقضات والتعقيدات العرقية والهيكلية والسياسية التي رافقت عملية تشكّل الدولة الإثيوبية، والتي لا يمكن فهم الصراعات الحالية بدونها؛ وهي تناقضات يُطلق عليها بعض الباحثون بمصطلح "الاستعمار الداخلي" (Internal Colonialism)، فعلى الرغم من أن إثيوبيا حسب السردية الرسمية لم تشهد استعمارًا من القوى الأوروبية، إلا أن تشكّلها الحديث قام على إخضاع الشعوب القاطنة في المناطق الجنوبية والشرقية من قبل النخب الحبشية السامية، إذ عمد الإمبراطور منليك الثاني (1844- 1913) بُعيد انتصاره على القوات الإيطالية في معركة عدوة الشهيرة في عام 1896 إلى توسيع حدود مملكته إلى الأراضي الجنوبية. وكرّس سردية تربط حكمه الجديد بالحكم الحبشي التاريخي الممتد لثلاثة آلاف عام، وهي المقولات التي يقتبسها المُحاججون الآن بأن إثيوبيا دولة استثنائية في المنطقة وتتمتع بشرعية تاريخية تمنعها من الانهيار. والواقع أن إثيوبيا، كما نعرفها اليوم، ليست أقدم من الدول الإفريقية، إذ يعود تاريخ تشكلّها خلال فترة التدافع الإمبريالي في أواخر القرن التاسع عشر، بيد أن الفرق يكمن في أن إثيوبيا ليست من صناعة الأوربيين، بل صنعها أفارقة شاركوا في هذا التدافع، وهي العائلة الحبشية السامية التي حكمت الهضبة الشمالية لعدة قرون، والمكوّنة من فرعي: الأمهرا والتيغراي.

أباطِرةٌ وجَبهاتْ: إثيوبيا خلال قرن

لقد ظهرت في العقود الأخيرة العديد من الأبحاث التي تعيد النظر في السردية التاريخية الرسمية للدولة الإثيوبية التي أسْطرها الأباطرة الإثيوبيون. وبالمثال، يبيّن الباحثان بوني هولكومب وسياسي إباسا في كتابهما: The Invention of Ethiopia: The Making of a Dependent Colonial State in Northeast Africa، اختلاف كيان "الحبشة" التاريخي عن الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قاد الأمهرا المنتمون إلى السلالة السليمانية الإثيوبية عملية توسّع ضاعفت أراضي المملكة الحبشية عشر مرات، حين زحف الملك منليك الثاني باتجاه أراضي الشعوب الكوشية، ونفذ توسعًا إقليميًّا في المنخفضات الجنوبية في الوقت الذي كانت القوى الأوروبية الاستعمارية تتسابق على المنطقة. واتبع منليك نمطين للسيطرة: ففي حين استسلم بعض الحكام الجنوبيون سلميًّا مثل حكام جيما وليجا وبيلا شاغول وأشوسا لحكمه، وسُمح لهم بحكم أراضيهم مقابل دفع إتاوات ثابتة، سقطت بقية الأراضي الجنوبية في يد قادة جيش منليك ونبلائه، وعلى هذا تأسست ما سُمي لاحقًا بالإمبراطورية الإثيوبية، وهي حدود دولة إثيوبيا الحالية.

وقد أقام الإمبراطور منليك الثاني حكمه على الأساطير الدينية باستعادة مُلك الأسرة السليمانية الضائع والممتد لسليمان ابن داوود؛ وعلى هذا حُدّدت المسيحية الأرثوذكسية كدين رسمي للإمبراطورية، بحيث يكون الإمبراطور هو رأس الكنيسة والدولة معًا، في الوقت الذي يُسيطر جنود الإمبراطورية وكهنة الكنيسة الأرثوذكسية على أراضي الدولة، فيما عُدّت اللغة الأمهرية اللغة الرسمية. لذلك كانت الهوية الوطنية الإثيوبية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأمهرا. وبدخول التعليم الحديث في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي تزايدت هيمنة النخب الأمهرية على الفضاءات الثقافية والاجتماعية الوطنية، إذ كانت اللغة الأمهرية اللغة الرسمية الوحيدة المسموح بها في التعليم الحديث في بلد متعدد العرقيات واللغات والأديان. واستمر هذا لغاية الأربعينيات حين قاد الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول (1931-1974) إصلاحات سياسية تمثلت بفصل الدولة عن الكنيسة الأرثدوكسية، ومُنح الاعتراف للأديان الأخرى في البلاد، لكن إصلاحاته لم ترتقِ لحل التفاوت العرقي والثقافي الهائل التي قامت به الإمبراطورية الإثيوبية.

ومع المناخ الذي ساد القارة في التحرّر من الاستعمار الأوروبي في ستينيات القرن الماضي؛ واجه الحكم الإمبراطوري اضطرابات ثورية عديدة من قبل العرقيات غير الأمهرية في أنحاء البلاد. وتُوجّ ذلك باندلاع الحرب الانفصالية في إريتريا في سبتمبر 1961. وتصاعدت تلك الاضطرابات إلا أنه تمت الإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي عبر انقلاب قاده الجنرال منغيستو هيلا مريم في سبتمبر 1974. ودخلت إثيوبيا بعدئذ مرحلة ثانية تستهدف فيها الدولة تدمير الأساس المادي والأيديولوجي للنظام الإمبراطوري، وأصدر منغيستو في هذا الخصوص قرارًا يقضي بتأميم الأراضي في عام 1975 والذي أنهى نظام الإيجار تلقائيًّا، كما تبنّى "الاشتراكية العلمية" كأساس المبدأ التوجيهي الرئيسي لحكمه، وأعلن المساواة بين المجموعات العرقية في البلاد والإدارة الذاتية للقوميات. ومع ذلك، لم يُفلح منغيستو في ترجمة كل هذا إلى واقع عملي. واتسمت فترته (1974-1991) بالتمردات الداخلية والقمع العسكري الشديد الذي عُرف بـ"الإرهاب الأحمر". وتفاقمت التمردات العرقية مع حرب القرن الأفريقي الكبرى بين الصومال وإثيوبيا (1977-1978) والتي خاضها الصومال لاستعادة أراض تاريخية تابعة له سيطر عليها الملك منليك الثاني (الصومال الغربي أو أوغادينيا حسب التسمية الشائعة)، واستمرت تلك الحرب بين نظامي سياد بري ومنيغستو عبر دعم وتسليح الجبهات الداخلية ضد بعضهما لغاية سقوط كلا النظامين في عام 1991.

في مطلع التسعينات، وصلت جبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF) بقيادة مليس زيناوي إلى السلطة، وحكمت البلاد من خلال ائتلاف أنشأته الجبهة تحت مسمى الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي (EPRDF)، ويضمّ أربعة أحزاب عرقية. وسعتْ جبهة التيغراي إلى حلّ المشكلة العرقية الإثيوبية من خلال المبادئ الستالينية التي تدعو إلى إعطاء العرقيات حقها السياسي والاجتماعي. واعتبرت خيار الفدرالية الإثينية استجابة مناسبة لإذابة إرث الهيمنة العرقية والتهميش التاريخي بين المكونات الإثيوبية، وكذا حاجتها إلى نزع الشرعية من النخب الأمهرية. وعلى هذا قدم دستور عام 1994 تشكيل البلاد من اتحاد فيدرالي يضم تسع ولايات إقليمية قائمة على العرق ومدينتين ذات حكم ذاتي تابعة للحكومة المركزية (أديس أبابا العاصمة، ومدينة ديرا دوا). ولم تقتصر الجبهة على هذا الحد، بل ذهبت أبعد بتنصيص الدستور على حق الأقاليم بتقرير المصير والانفصال. ونجحت هذه المقاربة، على الأقل بشكل مرحلي، في التغلب على أزمة الثقة بين المركز والأطراف، وهي المعضلة التي لازمت الدولة الإثيوبية في نسختيها الإمبراطورية والعسكرية، إلا أن النظام الجديد حمل معه إشكالات وتناقضات جديدة، فاقمت من حدة صراعات الدولة الإثيوبية.

مآزق الفيدرالية الإثنية

كان التبرير العملي الذي قدمته النخب التيغراوية بطرحها النموذج الفيدرالية الإثنية هو الحد من الصراعات العرقية-الإثنية، إلا أن هذا النموذج نفسه أنتج أشكالًا جديدة من الصراعات "اللامركزية"، وعادت التناقضات البنيوية غير المحلولة في النظام السياسي إلى السطح. وكما يكتب الباحث الإثيوبي Asnake Kefale حصل في فترة الفيدرالية الإثنية انزياح من الصراع على نظام الحكم المركزي إلى مستوى الأقاليم. ويحدد الكاتب استفحال ثلاثة أشكال من الصراعات تحت الفيدرالية الإثنية، يتمثل الأول: بتسييس العرقيات والإثنيات بطريقة غير مسبوقة لمحاولة الحصول على الاعتراف كأقاليم عرقية. والثاني: إذكاء النظام الجديد النزاعات الحدودية بين الأقاليم الإثنية المعترفة بها من المركز. وثالثًا: احتدّت الصراعات في داخل الإقليم بين الجماعات العرقية المتنافسة، خصوصًا في المناطق متعددة الأعراق والإثنيات. وتتزايد حدة هذه النقطة إذا نظرنا إلى أن إقليمين فقط من الأقاليم التسعة الفيدرالية متجانسة عرقيًّا (الإقليم العفري والإقليم الصومالي)، في حين أن الأقاليم الأخرى تضم أقليات عديدة، وينطبق هذا على إقليم التيغراي، والأمهرا، والأوروميا، وبني شنقول، وهرار، وإقليم شعوب جنوب إثيوبيا (SNNPRS) الذي يضم أكثر من خمسين مجموعة عرقية. ناهيك أن أعراق إثيوبيا تصل إلى أكثر من 90 مجموعة عرقية، والاعتراف بتسعة أقاليم فقط كمناطق عرقية مخالفة للدستور، أقلّه نظريًّا، لكنه غير عملي على أرض الواقع (تم الاعتراف بإقليم عاشر كإقليم فيدرالي في نهاية عام 2019 بعد استفتاء شعبي). وعلى هذا، مثلت مطالبة العرقيات الاعتراف بها كأقاليم فيدرالية إشكالية تؤرق النظام الفيدرالي طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. وفي هذا الصدد، كان قد اقترح بعض المختصين، من بينهم المفكر السياسي محمود ممداني تبنّي خيار الفيدرالية الإقليمية لمواجهة هذه المعضلة، حيث يمكن أن يتمتع جميع سكان الوحدة الإدارية بحقوق متساوية في أقاليم تضم سكانا متعددي الأعراق، إلا أن هذا الحل بدوره، يواجه في الحالة الإثيوبية تحديّات ناجمة من الإرث التاريخي التي تركته الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ تشكلّها.

بدأ عجز نظام الفيدرالية الاثنية يظهر إلى السطح مع وفاة مليس زيناوي في عام 2012، مهندس الدولة الفيدرالية، وعاد الصراع على شكل الدولة وعلى السيادة بين الإثنيات الثلاث الكبرى: التيغراي والأمهرا والأورومو. وفي عام 2015 قاد شباب القيرو (Qeerroo) موجات احتجاجات شعبية واسعة؛ وهي حركة أورومية تناهض التهميش التاريخي ضد الأورومو والذين يشكلون أكبر مجموعة عرقية في البلاد، وبدأت مظاهراتهم احتجاجًا على خطط توسيع حدود العاصمة على أراض تابعة لهم. وجابهتهم قوات الأمن بقتل حوالي ألف متظاهر أورمي خلال عام، ما أشعل مزيدًا من التوتر بين الأورومو والحكومة المركزية، وللسيطرة على هذه التوترات، أقال الائتلاف الحاكم رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين في منتصف 2018، وعيّن بدلًا منه آبي أحمد كرئيس للوزراء، وهو كان زعيم منظمة شعب الأورومو الديمقراطية، أحد مكونات الائتلاف الحاكم.

مشروع آبي أحمد

عند وصوله إلى الحكم في يوليو 2018، قاد آبي أحمد موجات إصلاحات سياسية واقتصادية سريعة نالت تقدير الجميع، منها الإفراج عن السجناء السياسيين ورفع القيود عن الصحافة وخصخصة الاقتصاد، ورفع الحظر عن الأحزاب والتنظيمات المعارضة والسماح لأعضائها بالعودة من المنفى. وامتدت إصلاحاته إلى الخارج حيث عقد اتفاقيات سلام مع إريتريا بعد عشرين عامًا من العداء، ونال جائزة نوبل للسلام الدولي بسببها. وفي هذه الأثناء، كان يخوض حربًا مُعلنة مع جبهة تحرير شعب التيغراي الحاكمة سابقًا (رغم أنها حكمت البلاد حوالي ثلاثين سنة فإنها لم تغيّر اسمها من الجبهة). وبدأ بإقصائهم عن الجيش وعن مؤسسات الدولة الأخرى، وتوج هذه الخطوات بإعلان حلّه الائتلاف الحاكم الذي أوصله إلى الحكم (EPRDF)، وإنشائه ائتلافًا جديدًا أسماه حزب الازدهار، ويضم 8 أحزاب. وأمام ذلك، رفضت جبهة تحرير التيغراي فكرة الاندماج مع الائتلاف الجديد، ورأته استهدافًا لها، واستقال قادة التيغراي من المناصب الفيدرالية، وتمركزوا في إقليمهم الواقع في الشمال الإثيوبي.

كان التبرير العملي الذي قدمته النخب التيغراوية بطرحها النموذج الفيدرالية الإثنية هو الحد من الصراعات العرقية-الإثنية، إلا أن هذا النموذج نفسه أنتج أشكالًا جديدة من الصراعات "اللامركزية"، وعادت التناقضات البنيوية غير المحلولة في النظام السياسي إلى السطح

واجه آبي أحمد في شهوره الأولى عدة محاولات انقلابية، ومحاولة اغتيال فاشلة في وقت كان يخطب أمام حشدٍ من أنصاره، واتهم الجبهة بالضلوع فيها. وفي أكتوبر 2020، فجّر الصراع بين الحكومة الفيدرالية وجبهة التيغراي قرار تأجيل الانتخابات الوطنية للمرة الثانية بحجة انتشار جائحة كوفيد-19، إذ رفض الإقليم قرار التأجيل وعَقد انتخاباته الإقليمية بصفة مستقلة متجاهلًا أوامر الحكومة الفيدرالية، مما قاد إلى تبادل سحب الشرعية بين الطرفين. وفي غضون أيام، شنّت الحكومة الفيدرالية عملية عسكرية برية وجوية على الإقليم أسمتها "عملية إنفاذ القانون"، شاركتها مليشيات عرقية تنتمي لمنطقة أمهرا المجاورة وقواتٌ إريترية، وفي غضون أيام استولى هذا التحالف الثلاثي على مقلي عاصمة التيغراي.

ومع أن الحكومة الفيدرالية ساقت تفسيرات عدّة لقرار شنها الحرب على الإقليم (منها القول إن الجبهة قامت بالهجوم على قاعدة عسكرية تابعة للجيش الفيدرالي في الإقليم) إلا أنه من الواضح أن السبب الحقيقي يعود إلى الخلاف العميق بين الجانبين على نموذج الحكم القائم على الفيدرالية الإثنية. فيرى آبي أحمد أن هذا النموذج قنبلة موقوتة تهدد الدولة الإثيوبية، ويتبنى بدلًا من ذلك نظامًا فيدراليًّا قائمًا على صلاحيات واسعة للحكومة المركزية، كما يطرح في كتابه "MEDAMER"، وتعني بالأمهرية (التآزر)، ويعتبر مسألة الاندماج الوطني المشكلة الحقيقية في إثيوبيا. بينما تتهم جبهة التيغراي آبي أحمد بمخالفة الدستور، والسعي لإحياء مجد الإمبراطورية الحبشية، وتتوجّس من رغباته السلطوية في الحكم، خصوصًا أن ثمة تصريحات مسجلة يقول فيها إن والدته الأمهرية أخبرته، وهو في السابعة من العمر، بأنه سيصبح الملك السابع لإثيوبيا.

نهاية مرحلة

في يونيو الماضي، عاد رئيس الوزراء آبي أحمد إلى الحكم في انتخابات تفتقر إلى النزاهة. وفي نفس الفترة، حقّق مقاتلو التيغراي نصرًا عسكريًّا على الجيش الفيدرالي، وأجبروه على الانسحاب من معظم أراضي الإقليم، بما في ذلك العاصمة، وأسروا ما يقارب عشرة آلاف فرد من الجيش الفيدرالي بعد محاصرتهم، ونظمت الجبهة مسيرة عرض لاستسلامهم سُميت بـ"مسيرة العار"؛ وقد تكون أكبر عملية استسلام لجيش نظامي منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ما زالت القوات الفيدرالية تحتفظ بمناطق غرب التيغراي، وترتكب عمليات تطهير عرقي، حسب تقارير حقوقية وإنسانية كثيرة، كما تفرض حصارًا شاملًا على الإقليم، وتمنع حركة التجارة ووصول المساعدات الإنسانية. ومن الواضح في هذا السياق، أن حرب آبي أحمد التي وعد بأن تكون حاسمة وسريعة، تحولت إلى حملة إبادة جماعية مصحوبة بعمليات قتل مُمنهج، تصفها المنظمات الإنسانية بأنها ترقى إلى جرائم حرب. وقد طلب مؤخرًا من جميع الإثيوبيين القادرين على حمل السلاح الانضمام إلى القوات المسلحة. ويعقد العزم على تطهير الجبهة من الإقليم مهما كلفه ذلك، ويستخدم بهذا الخصوص خطابًا يحمل ملامح الإبادة الجماعية، كتلك التي ارتكبها سياد بري، ديكتاتور الصومال السابق في شمال الصومال (صوماليلاند حاليًّا) في ثمانينيات القرن الماضي. إذ يصف رئيس الوزراء الإثيوبي جبهة التيغراي والتيغراويين، بـ"ضباع النهار" و"الآخرين غير المألوفين"، وأنه "سيتم اجتثاثهم من جذورهم". ومن جانبها، تعلن الجبهة أن نشاطها العسكري محكومٌ بتحقيق إجبار الحكومة على قبول فك الحصار من الإقليم ثم البحث عن حلول سياسية، من بينها إتاحة المجال للتيغراويين للتصويت في استفتاء على الحكم الذاتي الذي ينص عليه دستور البلاد، والتي من بينها الانفصال. وعمليًّا، تستعد الجبهة على أرض الواقع للاستمرار في الحرب إلى أمد طويل، وهي تملك معرفة تاريخية في هذا الصدد، وتُغرق ببطء باقي الأقاليم المجاورة لها في مستنقع الحرب مثل أقاليم العفر والأرومو والأمهرا، كما تبيّن في الأسابيع الماضي، وأمام هذا الوضع؛ لا تبدو حركة الأورومو التي مهدت لآبي أحمد الوصول إلى الحكم وأجبرت الائتلاف السابق على التنازل على أنها منظمة بشكل كافٍ لتقديم بديل واضح، ويقبع قادتها في السجون. وبالمحصلة، يتأكد من كل هذا، وبعد مرور 10 شهور على اندلاع الحرب؛ دخول إثيوبيا مرحلة جديدة من أزمة الدولة، قد تكون نهاية لشكل الدولة الإثيوبية الذي بدأ في التسعينيات.

خاتمة

تقوم الدولة الإثيوبية على خصوصية معقدة من الصراعات التاريخية التي تعود إلى فترة تشكّل الإمبراطورية الإثيوبية الحديثة في القرن التاسع عشر، ورغم أن التواريخ الوطنية لمحاولة التأريخ للدولة الإثيوبية لم تكن يومًا محل إجماع؛ إذ كانت دومًا ترتبط بمخيلة الفئات العرقية الحاكمة في كل فترة ومشروعها. فإن ذات الأمر يتكرر مع الحرب الجارية، بحيث أصبحت جبهة التيغراي التي صمّمت شكل الفيدرالية الإثنية الحالي "العدوّ الجديد" الذي يتوجّب اقتلاعه، وتُستخدم لغة "الأضرار الجانبية" لوصف الفظائع والتجويع والحصار التي تُرتكب ضدها باسم "القانون". وفي الوقت عينه، نشاهد تراجع الطرف التيغراوي عن الهوية الوطنية الإثيوبية في مقابل صعود الخطاب العرقي والانفصالي لديه. ويمكن القول بإن هذا ليس مفاجئًا تمامًا، بل هو استمرارية لـ"حالة الاستثناء" و"الصراع على السيادة" التي ظلت السمة الأساسية التي ميزت الدولة الإثيوبية في القرن والنصف الماضيين.

تبقى الإشارة بأن التحدي الملحّ الذي تواجهه الدولة الإثيوبية في المرحلة الراهنة هو اتباع آبي أحمد نهجًا مستوحىً من "محاكمات نورمبرغ" لتصفية النخب التيغراوية السابقة. وكما حذر محمود ممداني في كتابه الجديد، "لا مستوطن ولا مواطن: في صناعة الأقليات الدائمة وتفكيكها"، فإن تقسيم المجتمعات السياسية إلى ضحايا وجناة لن يؤدّي سوى إلى تعزيز الحلقة المفرغة من العنف. ولا يبتعد نهج آبي أحمد الحالي، والمدفوع بسلطوية الحاكم الفرد، عن تجربة "الإرهاب الأحمر" في السبعينيات، أو عن "الاستعمار الداخلي" الذي قاده الأباطرة الذين شكّلوا الدولة الإثيوبية الحديثة. وهي التناقضات التي باتت ترتد من مستقبل إثيوبيا بعنف. 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬