عدي الزعبي
(دار ممدوح عدوان، سوريا، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النصوص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
عدي الزعبي (ع. ز.): النصوص مستقاة من الحياة اليومية، من حوادث بسيطة عادية.
(ج): ما هي الثيمات الرئيسية الواردة في المجموعة؟ ما هي العوالم التي تأخذنا إليها النصوص؟
(ع. ز.): عوالم الناس العاديين، عوالم شخصيات غير ملتزمة دينيًّا أو سياسيًّا، محافظة أو وسطية تسعى لأن تحيا ضمن عالم غريب ومعاد وقاس. الثيمات هي نفس الثيمات في معظم الكتب: الحب، والحرب، والوحدة. بعد ذلك، هناك ثيمات أخرى مترابطة مع ما سبق: أولًا، نجد ثيمة متكررة، هي السؤال الميتافيزيقي. هذا سؤال مفتوح، وأنا شخصيًّا ليس لدي إجابة، كوني أقرب إلى لا-أدرية حائرة. بعض شخصيات المجموعة لديها هاجس السؤال الديني، سواء كانت مؤمنة أم لا. السؤال الديني سؤال ميتافيزيقي، ويشمل علاقة السياسة بالدين، وسؤال الأخلاق، والتسامح والتعصب، ومعنى الوجود، وأشياء أخرى.
الثيمة الأخرى المتكررة هي التعايش والمحبة. أقصد أنني لا أستطيع الكتابة عن شخصيات لا أحبها. في النهاية، وجدت نفسي متعاطفًا مع كل الشخصيات تقريبًا: من أبو منصور البرجوازي المحافظ، إلى سامر الذي أكله الوحش فتحول إلى محارب في جبهة النصرة، إلى لبنى التي تسعى إلى الشهرة ولا تنتبه إلى الحرب في بلدها.
الثيمة الثالثة هي الثقافة الشعبية. معظم القصص تستند إلى ما يفكر فيه الناس يوميًّا وما يرتبطون به: الأبراج، و"قسمة ونصيب"، و"قضاء وقدر"، و"الفيديو الذي أبكى الملايين"، و"مدرسة المشاغبين"، وغيرها. هذه الثقافة الشعبية حقيقية وعميقة وأخاذة، ومنها يستمد الناس بعض مفاهيمهم، ومنها نستطيع الولوج إلى عوالمهم. في معظم هذه الأمور، لا تتسم حياة الناس وقراراتهم بالسذاجة فقط، وهم على العموم فاعلون؛ ولكنهم على الأغلب يفشلون، مثلنا جميعًا.
أما بالنسبة للثيمة الرئيسة، أي الحكمة والسذاجة، فسأترك للقارئ أن يفكر فيها.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن مجموعة قصصيّة، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ع. ز.): لا أعرف في الحقيقة. ولكنني أعرف أنني أحب النصوص القصيرة، وأكتب مقالات أدبية وقصصًا قصيرة فقط. لا أعتقد أنني قادر على كتابة رواية أو نص طويل أو قصيدة.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ع. ز.): صعوبتان بشكل رئيس.
الأولى، محاولة التجريب من خلال شكل القصة الواقعي. وهو أمر عويص وغريب، ولكنه مسلّ جدًّا، ويحمل إمكانيات كثيرة ومبتكرة. كيف يمكن أن تكون القصة الواقعية تجريبية؟ وبأي معنى؟ أنا على العموم لا أميل إلى الفانتازيا، وأعتقد أن الواقعية باستطاعتها قول الكثير، من خلال التجريب، ومن خلال البساطة أيضًا.
الصعوبة الثانية، تجسيد الناس العاديين. هناك صعوبة في جعل الشخصيات المختلفة تتمتع بوجود حقيقي، خصوصًا الشخصيات المربكة والمرتبكة، التي تختلف عني كثيرًا: محافظون اجتماعيًّا ودينيًّا، إسلاميون متعصبون، رماديون، مؤيدون للنظام السوري، صبايا في مقتبل العمر، وغيرهم. أود أن يكون لكل منهم مكانة وشخصية وفاعلية، مع رؤاهم وتصوراتهم وقدرتهم على التفكير والمحاكمة والتصرف. أتمنى أن أكون قد نجحت في ذلك.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ع. ز.): هذه مجموعتي القصصية الثالثة، وأتابع فيها نفس المشروع. كل مجموعة كتبتها تتألف من قصص مترابطة يجمعها مفهوم واحد، من زوايا مختلفة.
مجموعتي الأولى "الصمت" عن التواصل البشري؛ مجموعتي الثانية "نوافذ" عن الأمل؛ والمجموعة الثالثة هذه عن الحكمة وحدودها ومعناها.
هذه ليست روايات، وليست متتاليات قصصية، بمعنى أن القصص نفسها لا تشكل وحدة: الشخصيات مختلفة والأحداث مختلفة. الترابط يأتي فقط من مكان "ميتا-سردي"، لو صح المصطلح، أي أن المفهوم الذي تناقشه القصص هو ما يربطها.
المشروع إذن، بهذا المعنى، محاولة للتفكير في فن السرد القصصي مفاهيميًّا. على أن القصص نفسها، على العموم، واقعية في الشكل، وتتكلم عن الناس العاديين في حياتهم اليومية العادية. لا يوجد لغة متعالية ولا فانتازيا. أو، لو وجدت الفانتازيا، فهي تخدم الواقعية.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص، ما هي وما طبيعة تأثيرها؟
(ع. ز.): يوجد بعض كتاب القصة القصيرة ممن أثروا بي بشكل كبير: سعادات حسن مانتو ولو شون وسعيد فايق عباسي وصادق هدايت وأكوتوجاوا وأوسامو دازاي وإسحاق بابل وريموند كارفر، وبالطبع تشيخوف وموباسان. بالإضافة إلى بورخيس، وإبراهيم أصلان.
الأثر متعدد ومختلف. لا أستطيع تحديده بدقة. ولكنني أعرف جيدًا أنني مدين لهؤلاء بالكثير.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ع. ز.): كلا، على الإطلاق.
القارئ الوحيد الذي أفكر فيه هو أنا؛ أي أنني أفكر بشكل رئيس في أن أكون راضيًا عن القصة التي أكتبها، وأن أستمتع بكتابتها، وبقراءتها لاحقًا.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ع. ز.): مجموعة قصصية بعنوان "نصف-ابتسامة"، عن سوريا قبل الثورة، ستصدر قريبًا عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع.
مقتطف من الكتاب
كانت خيبة أملي كبيرة جدًّا جدًّا: غدير طيبة وبسيطة إلى درجة لا تصدّق: تكلّمت عن أمها وأبيها نصف الوقت، والنصف الآخر عن الأبراج. غدير من برج الحمل، وأنا من برج الدلو. وبحسب الأبراج، هذه علاقة حب رومانسية لا مثيل لها. تضحك وحدها ويحمرّ وجهها. المرأة الحمل شخصية هادئة متقبّلة؛ محبّة معطاءة؛ ربّة منزل بالفطرة؛ لا تجرح أحدًا، ولكنها لا تنسى الجراح التي تصيبها أبدًا؛ كريمة وخجولة. رجل الدلو مغامر جامح شجاع؛ محب بهدوء: لا يعبر عن حبه بعبارات كبيرة؛ لا يحب أن تقوده المرأة وتوجهه، ولكنه عطوف وطيب وحنون؛ يغضب بسرعة، ويسامح بسرعة أيضًا. نسبة نجاح امرأة الحمل مع رجل الدلو 92 بالمئة؛ وعلى الأغلب سيعيشان حياة سعيدة طويلة مع بنين وبنات وأحفاد وحفيدات كثر.
كرهت غدير من كل قلبي بسبب هذه التفاهات التي تفوّهت بها، واحتقرتها. أسميتها فورًا "ملكة الأبراج"، وأخبرت الجميع بهذا الاسم. أصبحت تُعرف به حتى بين أولئك اللذين لم يلتقوها قط.
أكثر من ذلك، جعلت من أحاديثها مادة دسمة للسخرية: نسهر الليالي الطوال، مع العائلة و"الشلة" ومع أصدقاء مختلفين، وحتى مع من ألتقيهم للمرة الأولى، لنناقش الأبراج والسحر والحسد والحب من النظرة الأولى الذي تؤمن به ملكة الأبراج من كل قلبها؛ تتكلم الملكة مع الحيوانات وتقول إنها تفهمهم ويفهمونها، مما جعلني أخترع كذبة أنها تعتقد أن للحيوانات أبراجًا أيضًا، لتصبح ملكة الأبراج بحق وبلا منازع؛ أسخر من تعلقها بوالديها وخوفها على مشاعرهما؛ أسخر أيضًا من محبتها لصديقاتها، اللواتي كنّ يزودنني بالمزيد من القصص عنها في غيابها.
أعتقد أنك أيها القارئ قد كوّنت فكرة وافية عمّا فعلته، وعمّا أصاب سمعتها.
بعد سنوات مما حصل أسأل نفسي لِم لمْ أهجرها فورًا؟ لماذا استمريت في لقائها؟ لم يكن الجنس مباحًا، وما كنا نفعله هو القبل والاحتضان فقط، في الأشهر الثلاثة التي تواعدنا فيها.
لم أسال نفسي حينها هذه الأسئلة. ولكن، منذ انفصالنا، تعود، كل عدة أشهر، صورتها لتقض مضجعي: ما الذي دفعني إلى إيذائها بهذا الشكل الأهوج؟
ربما، حرّكني دافعان: الأول، الأقل عمقًا، ولكنه أكثر مباشرة وتأثيرًا، هو رغبتي في أن يعرف الناس بأنني لعوب ساخر قاسي القلب: هذه هي الصفات التي تتيح للطالب الجامعي النجاح الاجتماعي. كانت الأمور متاحة لي بسهولة: كنت وسيمًا ثرثارًا من الطبقة الوسطى-العليا، طليق اللسان، مرحًا. لم أخطط لجعل غدير ضحيتي، على الإطلاق. حصل الأمر تلقائيًّا، وبالتدريج. في النهاية، أصبحت معروفًا بعلاقتي بملكة الأبراج: يسألني الناس عنها وعن أخبارها ومغامراتها باستمرار. اشتهرت على حسابها، واشتهرت هي نتيجة لشهرتي أنا.
الدافع الثاني، كما اعتقدت وقتها، أعمق وأبعد: تشكّل غدير كل ما كنت أكرهه في المرأة: تؤمن بالغيبيات وبكل أنواع الخرافات والترهات؛ تحترم دور المرأة الطيبة وذكورية الرجل وسيادته؛ تقبل بكل ما تفرضه عائلتها عليها؛ لا تشك بصديقاتها أو بالمجتمع. رأيت في غدير نموذجًا للمرأة المستكينة المسؤولة عن تخلّفنا كله وعن حالنا المزرية.
ولكنني، مع تقدمي في السن، أصبحت أشك في وجود دافع آخر سري: رغبتي بأن أكون طيبًا وسعيدًا، كغدير. كنت على علاقة سيئة مع عائلتي؛ كنت أشك في أصدقائي؛ كنت أكره الدين والمتدينين والطيبين والعاديين والسعيدين؛ كنت أريد أن أجد فتاة أحبها، وفشلت.
غدير دفعت ثمن فشلي وإحباطي.
بالطبع، انطباعي اليوم مختلف تمامًا عن انطباعي الأول: غدير نموذج للجمال والبساطة والأنوثة. دع عنك هذه السخافات حول الغيبيات والأبراج ودور الرجل والمرأة ومستقبل البشرية. كل هذا الكلام الفارغ لا يمس صلب شخصيتها النقية الصافية، ولا يلوّث ابتسامتها الساحرة الصادقة.
ما الذي تغيّر في انطباعاتي إذن؟ ربما النضج، والخبرة بالحياة، وأطفالي الثلاثة ومحاولة تربيتهم، واستشهاد أبناء عمي المتدينين، والثورة وما جلبته. كل هذا دفعني إلى أن أسائل نفسي عما عشته وعايشته، دون أقنعة ودون مَين. والنتيجة أنني اكتشفت أن الدافع الثالث هو ما دفعني لأفعل ما فعلت، متنكرًا بكوني تقدميًّا علمانيًّا أدافع عن المرأة وتحررها، يساري نيتشوي يحطم الأيقونات ويقتل الآباء وينشر التنوير.
لم أكن وحدي، شجّعني ودعمني العشرات من التقدميين، وغير التقدميين، ممن ضحكوا طويلًا على غدير. ما حصل بيني وبينها، في النهاية، لن أنساه ما حييت.