التفت الفلسطينيون مبكرًا لأهمية الفن كعامل أساسي في خدمة القضية الفلسطينية، وعمدوا إلى الغناء كوسيلة لنقل المعاناة، وحملت منظمة التحرير على كاهلها في سالف عهدها مهمة إنتاج "أغاني الثورة الفلسطينية" التي كانت تسجل في مصر، بأصوات مصرية أحيانًا، وبكلمات شعراء فلسطينيين، وألحان فلسطينية، وتطور هذا الشكل إذ انتقل المراس إلى فرق أخرى كالعاشقين وجذور وصمود وغيرها، لتتسع الحالة إلى تقديم مشهد أوسع عبر فرق التراث التي قدمت الأغنية والزي والرقصة الفلسطينية، كفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية وفرقة الحنونة.
هوية جديدة للفرقة الفلسطينية
مع مرور الزمن تطورت الأدوات لتصبح الفرق تلك جزءًا من التراث أو أسلوبًا للعودة إلى الماضي عبر طريق الحنين، وقبل أن تتهاوى هذه الفرق أمام مهامها الأساسية، المتمثلة بالترويج لتداعيات القضية الفلسطينية التي استمرت أطول من المتوقع، صعدت إلى الواقع فرق فلسطينية تستثمر في الأدوات الجديدة، منها من اتخذ من اسم فلسطين منطلقًا لمشاريع فنية عاطفية، على أساس أن الترويج لاسم البلاد يحفظها من النسيان، حتى وإن كان هذا الاستخدام خارج نطاق السياسية، وفرق أخرى اختارت الاشتباك مع السياسة ومع التراث بالمعنى التاريخي الخادم للقضية، ومن هذه الفرق فرقة دام، التي تعد أول فرقة راب فلسطينية، وواحدة من أوائل فرق الراب العربية.
فرقة دام، النشأة والملامح
تأسست دام عام 1999 في مدينة اللد، وشكّل تامر نفار وشقيقه سهيل بالإضافة إلى محمود الجريري، النواة الأولى للفرقة، التي استمدت دواعي فعلها الإبداعي من تهميش الاحتلال الإسرائيلي لفلسطينيي الداخل. انطلاق الفرقة الرسمي كان بإصدار أول ألبوم عام 2009 والذي اشتبك مع مسألة تعمّد سلطات الاحتلال غض النظر عن الجرائم في المجتمع الفلسطيني في مدن الداخل، وهو ما أشاع بيع المخدرات لتتسلسل بعدها الجرائم المرتبطة بها، بعد عامين أصدرت الفرقة ألبومها "مين إرهابي"، الذي أسس لجماهيرية واسعة لها، ليس في الداخل وحسب، إنما خارج حدود فلسطين التاريخية أيضًا. مع الوقت، خرج سهيل نفار من الفرقة، ودخلت عناصر جديدة كالمغنية ميساء ضو، وهي بالأساس ليست مغنية راب، مما شكل إضافة جديدة للفرقة، نقلتها من إطار الهيب هوب الكلاسيكي، إلى إطار تجديدي، يضع الفرقة في تقديري على سلم الامتياز والاختلاف، فقد استدرج صوت ميساء نوعًا موسيقيًّا آخر أضيف لقوالب الموسيقى التقليدية لفرق من هذا النوع، فضلًا عن تلوينات غنائية صار يمكن أن تتغلغل في أساس أغنيات الفرقة، كما أن إضافة منبر للمرأة سمح بتوسيع قاعدة الاحتجاج، والخوض في مشكلات المرأة في مجتمعات العالم الثالث.
لم تتورع "دام" مرة منذ انطلاقتها بالوقوف على أسباب المآسي الجماعية بوضوح، من خلال الكلمات التي تشكل جسد الأغنية فيما يتعلق بغناء الراب، فقد بدأت بخطاب احتجاجي موجه لسلطات الاحتلال: "أوقفوا بيع المخدرات"، لتقفز عام 2010 إلى معترك السياسة، رفضًا لإطلاق الاتهام العشوائي، وإدراج أي فعل عربي تحت مسمى الإرهاب:
"مين إرهابي؟ أنا إرهابي؟ كيف إرهابي وأنا عايش في بلادي؟"
هذه اللازمة اختزلت نقاشات طويلة، لم تُوصل إلى نتيجة مع الخصوم على المستوى السياسي، فجاءت هنا واضحة معافاة من التجميل، وتلقفها الشارع في حينه كقشة تنقذ من الغرق، وتعيد الثقة في الفعل الفلسطيني المقاوم بالدرجة الأولى، والفعل العربي بالمجمل، إذ جاءت بعد أن بلور الرئيس الأميركي جورج بوش الابن هذا المصطلح، وألصقه أينما وصلت يده بعد غزو أفغانستان والعراق.
التجديد على مستوى الشكل كان وما زال أبرز ملامح فرقة دام، عبر إضافة الغناء الملحن جنبًا إلى جنب مع غناء الراب الملتزم بريذم محدد ومتكرر، حتى قبل انضمام ميساء، فكان تامر ومحمود يعتمدان أرضية غنائية غالبًا ما تكون في المقدمة، وتصبح لازمة متكررة، تركّب عليها مقاطع الراب ذات النفس الأحدّ من حيث المعالجة الفكرية، بما يجعلها أكثر اتساقا مع المعالجة الفنية، تصاعد حدة الفكرة يقابله تصاعد حدة الإيقاع، وتواري الموسيقى، التي تفتتح العمل متزاوجة مع غناء متصاعد ريذميًّا.
اشتباك سياسي حاد
في ألبوم "بين حانة ومانة" الذي توزعت أغانيه على عام 2019، وأُنجزَ في نهاية العام، ملامح خاصة أيضًا، إذ ضم 14 أغنية صُوّرت 3 أغنيات منها، ورغم أنها لم تصور إلا أن بضعة أغنيات من الألبوم تصدرت عدد المشاهدات، ربما لاشتباكها السياسي الحاد، ففي أغنية دثروني مثلًا، احتجاج على المفاوضات، بمعانيها السياسية والاجتماعية، وهجوم على الأعراف السعودية في ما يتعلق بالمرأة:
"بديش نجوم ساقطة بديش أمنيات، بديش شعوذات بديش معجزات
محتاج أنا أمل اتخاذ قرارات، محتاج "درايڤ" كبنات سعوديات
لا عاهل سعودي ولا وعد انجليزي، فاوضت لحد ما كله طلع من "طيزي"
فاوضت لحد ما ضاع المفتاح من إيدي"
أما في أغنية ملياردات فتقدم دام صورة كاريكاتورية لوضع الفلسطينيين المأساوي تحت الاحتلال في إطار موافقة دولية، ويعود بهم الحنين إلى أغنية "مين إرهابي" كنقطة انطلاق من جهة، وكإشارة إلى استمرار المأساة منذ إصدار تلك الأغنية إلى اليوم من جهة أخرى:
"ملياردات الدولارات عشان نعيش في شتات
ملياردات الدولارات عشان نعيش في شتات
مين إرهابي كلفتنا يادوب قرشين
بغنوها في اللد في دمشق وبعين الحلوة
ملياردات الدولارات عشان نعيش في شتات
ملياردات الدولارات عشان نعيش في شتات
لا نبية في قومها، بدك تقاوم بتفوت محاكم
ما حد حيستقبلك في غرامي، بيحذفوك في غرامات طماطم
مواطن ومغلوب ع أمري، بغني والاستاد مطفي
أفيون الشعوب، قرض البنوك، أسكّر ديون ولا أحارب لأرضي
فيش تڤييز لهالبلد، كلو تطييز ع هالبلد
فريز خريف يا ولد، شو مفلس هالبلد!"
وتقدم الأغنية أيضًا احتجاجًا على قمع حرية التعبير، باستخدام الشاعر الفلسطيني المعتقل في السعودية أشرف فياض كرمز، واللاعب المصري محمد أبو تريكة ومنعه من دخول مصر كنموذج آخر:
"أبو تريكة ممنوع … أشرف فياض مجلود
فقلّي يا ولد.. مين يكنس البلد؟".
وبالصوت ذاته، يرفضون في أغنية "بروزاك" الحلول التي يأتي بها الاستعمار وأدواته:
"ما تكتبلي روشيتة .. بديش تعطيني بروزاك
الكآبة اللي بمر فيها..
Mind your business عَ قولتك
لحالي بتقلب.. لحالي بتألم
بنموت وبننولد"
وتتسلسل الأغنية لتبوح بكذبة الديمقراطية والليبرالية في دولة الاحتلال، وتتهم الولايات المتحدة ومن معها بكل ما يشهده الشرق من إرهاب:
"شالوم شالوم، بديش هالشيكل
بدي أوقف ع حقي، بديش الكرسي بديش الكنيسيت
خود ليبيراليتك واحشيها "زيريچ"
في ثقوب في قناعكم الأبيض أوكي - كي كي
تع تنشوف، أنا المنكوب فأنا المندوب
"نايس تو ميت يو" أنا علوش، هاد منجيل، هادا منكوش
عنا عادات بدها قلع من الشروش،
بس ما كان بيننا ولا دعدوش قبل بوش.."
وتواصل الأغنية التي أحسبها الأهم في الألبوم، سردها للجرائم الأميركية:
"بساط أحمر؟ بدي اتصور؟
شو أقول؟ الله اكبر؟ واتفجر؟ مين "سپونسر"؟
نفاق، شغل عداد الإرهاب، سابقين الكل بالكيلومتراج
يمن عراق هيروشيما صومال باكستان سوريا وأفغانستان".
احتجاجًا على الطائفية التي تدير حروبًا لا تنتهي، تستدعي دام العقلاء، أو وليات الأمر إن جاز لنا التعبير:
"حدا يدعي ستنا آمنة
حدا يدعي ستنا مريم
تعي لمي أحفاد أحفادك
بالشوارع عم تتلحم"
وتعزو أغنية حدا يدعي ستنا الحروب تلك التي تدار باسم الدين إلى المال، عبر تسلسل لذيذ، ومتهور ومفتوح على موضوعات متعددة، بتوزيع يراوح بين الكنسي، والابتهالي، والهيب هوب.
مواجهة المجتمع بجرأة
أغنية "امتى نجوزك يما" صورت كفيديو كليب، وهي تعالج مشكلة الضغط على الفتاة لتتزوج، وما يمكن أن يوقعه هذا الضغط على قرارات البنت، أما أغنية "جسدكهم" وقد اجترحت دام فيها مصطلحًا جديدًا وشرحته داخل الأغنية:
"لازم يسموها جسدكهم
الكاف تعود إلِك وجسدِك يعود إلهم
روح حرة داخل جسد غير حر"
فقد سلطت الضوء على تسليع جسد المرأة، وقد فصلته تفصيلًا رقميًّا وفق إحصائيات كما بدا الأمر، وهو ما جرح الأغنية من الناحية الفنية، لكنه منحها أفقًا واسعًا في ما يتعلق بمعالجة القضية، وهي من الأغنيات المصورة أيضًا، بما يشبه مقاطع فيديو الاعتراف.
"أوفيردوز" وقد تم تصويرها بطريقة عجيبة، من داخل الواتساب، على شكل محادثات، وستيكرز تنقل تعابير الوجوه، بما ينسجم مع موضوع الأغنية، وهو العلاقات العاطفية أو الزوجية، بما تحمله من احتياجات ومتناقضات، بأسلوب كوميدي.
جدة التوزيع الموسيقي
الاقتراح الجديد الذي يقدمه الألبوم هو روح الجدة في التوزيع، ليست أغنيات راب أو هيب هوب عادية، إنما أغنيات تمزج بين الهيب هوب بقالبه التقليدي، وقوالب غربية أخرى، تجعله أكثر استساغة، ويظهر التأثر بأغنيات 2Pac بجلاء في جميع الأغنيات تقريبًا، غير أن دام تضيف إليه صولوهات شرقية، بتوزيع شامي أيضًا، وتمزجه مع الإيقاعات الغربية بذكاء جاذب، فتراوح بين هوية الأهل والهوية التجديدية، بما يخدم خطابها، من جهة أخرى فإنها تحاول أن تخاطب العدو – وهو الغرب في تصوراتها – بلغته الموسيقية، بدون التخلي عن لغتها الموسيقية أيضًا، هكذا تتحول الموسيقى من أداة ثانوية في الأغنية كخلفية للكلمات والغناء، إلى أداة رئيسية تحمل الفكرة ذاتها والموقف ذاته، فضلًا عن جودة هائلة اتسمت بها هذه الموسيقى من حيث التسجيل، والمزج، وموازنة الأصوات أو ما يعرف بالماسترينغ، من الأغنيات ذات الإيقاع الصارخ كأغنية "يا ويلي" التي زاوجت بوضوح بين المقام الشرقي والقالب الغربي إلى الأغنيات ذات الإيقاع البارد، مثل أغنية "بروكليد" التي استندت على الإيقاع والتوزيع الغربي كوجهة وموقف أيضًا انسجامًا مع الموضوع والفكرة.
باقي أغنيات الألبوم جاءت على الدرجة ذاتها من اللذة في جرأة الطرح، وطزاجة الموسيقى، ويمكن الكتابة عن كل واحدة منها بتوسع، فالتفاصيل التي راعاها الفريق لا يمكن حصرها في معرض الحديث عن الألبوم كاملًا، ويحسب لأعضاء الفرقة الثلاثة، تامر نفار، ومحمود الجريري، وميساء ضو، أنهم يكتبون تلك الأغنيات ويلحنونها بأنفسهم، في جلسات عصف ذهني، أو كما يسمى موسيقيًّا "جام".
هامش
أثناء بحثي عن أغنيات ميساء ضو الخاصة، لفتني أن أغلب الفنيين الذي عملوا عليها، أسماؤهم يهودية، وحاولت التحري عنهم وعن مواقفهم لكن البحث لم يفلح، وهذه مسألة تحتاج بحثًا عميقًا، تحت سؤال التعايش أم الأسرلة.. لكن أغنيات الألبوم "بين حانة ومانة" لا تجعل المتلقي يميل في جوابه إلى الأسرلة.