[ننشر هنا على ثلاث حلقات الفصل الرابع من كتاب الباحث في الاقتصاد السياسي ومدير برنامج الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج ميسون، بسام حداد، والذي صدر عن مطبعة جامعة ستانفورد بعنوان "شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي لنظام استبدادي يثابر على الاستمرار"، والذي يصدر قريبًا في اللغة العربية].
تعود جذور إرث العداء الشديد بين الدولة وجماعة الأعمال في سوريا إلى الأعوام المضطربة للستينيات حين استولى أعضاء حزب البعث المتطرفون على السلطة وهمّشوا القوى الاجتماعية المهيمنة، والتي كان في مقدمتها جماعة الأعمال السنية المدينية. وفاقم التطرّفُ السياسي والاستقطابُ الاجتماعي الذي نشأ العداءَ، وأسهم في الصعود التدريجي لعناصر ريفية تنحدر من أقلية إلى قيادة النظام. انطوتْ هذه السيرورة أيضًا على صراعات مميتة داخل حزب البعث، انتهت باستيلاء حافظ الأسد على السلطة سنة 1970. وأصلح نظام الأسد السياق المؤسساتي كي يضمن المكاسب السياسية للنظام ويخفف الاستقطاب الاجتماعيّ من خلال سياسة الانفتاح الشهيرة التي تبناها مع القوى الاجتماعية المحافظة، على المستوى المحلي والإقليمي. وتحت عنوان الانفراج، بدأ المرء يشهد إعادة الدمج اللارسمية لجماعة الأعمال المُهمّشة في المعادلة الاقتصادية السياسية. وشكّل هذا السياق، وإرث العداء بين الدولة وجماعة الأعمال في أواخر الخمسينيات والستينيات، تطوّرَ ودينامية الشبكات الاقتصادية الناشئة.
تضيء الحالة السورية بعدًا معيّنًا في دينامية العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال في الأنظمة الاستبدادية وتأثيرها في التغير والتنمية الاقتصادية. وبينما تعاونت الدولة وجماعة الأعمال في بعض البلدان الاستبدادية، تحديدًا في بلدان شرق آسيا، كي تستمر وكي تبني الاقتصاد، فإن الدولة وجماعة الأعمال في سوريا تواطأتا على نحوٍ جوهريٍّ لضمان استمراريتهما، ودفعتا الاقتصاد نحو التدهور بعد شهر عسل قصير من الفورة الاستهلاكية في أوائل التسعينيات.1 ويدور حاليًّا جدل حول إن كانت الأنظمة الديمقراطية أو الاستبدادية تقوم بدور تحرير اقتصادي أفضل، إلا أنَّ هذا الجدل لم ينتهِ إلى حكمٍ واضح،2 وذلك لأن نمط النظام لم يكن العامل الوحيد المحدّد: تعثرت بعض الديمقراطيات، ولكنّ بعض الأنظمة الاستبدادية الأخرى حررت الاقتصاد بنجاح وازدهرت. لكن يبدو كأن بعض الأنظمة الاستبدادية تواجه صعوبة أكبر حين تحاول تحرير الاقتصاد وتعزيز النموّ الاقتصادي في الوقت نفسه.
في كلامه حول "الاستقلالية المتضمّنة"، الهادف إلى شرح التصنيع الناجح في الأنظمة غير الديمقراطية، شدّد بيتر إيفانز على كلّ من وجود البيروقراطية داخل قوى اجتماعية فعالة، واستقلالية قرارها وتماسكها.3 وبما أن هذه الدول مستندة إلى إقصاء ودمج انتقائيين، يصبح الدمج عاملًا جوهريًّا في الأنظمة الاستبدادية الشعبوية القمعية التي تسعى إلى المحافظة على استقلالية قرارها تحت ضغوط من أجل تراكم رأس المال والشرعية.4 إن الأنظمة الاستبدادية، التي تشمل تحالفًا واسعًا من القوى الاجتماعية التي تمثل على نحو كبير الجماهير، بالإضافة إلى مصالح الطبقات العليا، تتجنّب المجازفات إزاء دمج القوى اللاشعبوية أو المضادة لها مثل جماعة الأعمال. وحتى حين تطورت الشبكات المُدمَجة كما في تجربة النمور الآسيوية، فإن الثقة التي يتطلبها التعاون بين الدولة وجماعة الأعمال يجب أن تُصقل بحذر. ويسهّل مستوى عال من الثقة بين مسؤولي الدولة وجماعة الأعمال الخاصة دينامية جميع مظاهر التعاون المنتج، بما فيه تبادل المعلومات والشفافية والتبادلية.5 وقد كانت هذه الثقة غائبة في الحالة السورية.
أنظمة الثقة المنخفضة
في تقويم نوعية العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال، تحتل مسألة الثقة خشبة المسرح الرئيسة. وقد قيل إن الثقة بين البيروقراطيين وجماعة الأعمال "تخفض تكاليف الصفقة والإشراف، وتقلل اللايقين، وتطوّل الآفاق الزمنية، وبالتالي تزيد من الاستثمار (وإنجاز السياسة بعامة) إلى ما فوق المستويات العادية".6 بالتالي، حين تحصل الثقة بين الدولة وجماعة الأعمال، يتم تبادل المعلومات بسخاء أكبر؛ ويمكن أن تتطور العلاقات المتبادلة مع حد أدنى من كلف المراقبة؛ وتصبح عمليات صناعة القرار أكثر شفافية؛ ويفترض المستثمرون مصداقية السياسة من زاوية الصياغة والتطبيق. لهذا يتناقص اللايقين؛ ويخفّ امتناع المستثمرين عن القيام بالمجازفات؛ ويصبح الالتزام بالاستثمار على المدى الطويل والقصير مسألة حساب اقتصادي لا سياسي. وإذا غابت الثقة بين الدول وجماعة الأعمال، تُزال شبكة أمان عريضة وتعاني جميع مظاهر العلاقة. بالتالي يُترك البيروقراطيون وأصحاب رؤوس الأموال الأفراد، أو الشبكات، لأدواتهم الخاصة. إلا أنهم يستطيعون أن يطوّروا علاقة أضيق من الثقة، ما يمكن أن يُدعى ثقة محسوبة، استراتيجية أو مخصية.7 يمكن أن تُسَخّر ثقة استراتيجية كهذه لخدمة أهداف خاصة متنوّعة فيما تؤذي الأهداف الجماعيّة. إن أنظمة الثقة العالية هي بصورة عامة أكثر تنافسية، وتطوِّر أشكالًا إيجابية من التعاون بين الدولة وجماعة الأعمال، بينما أنظمة الثقة المتدنية غير تنافسية وتطور أشكالًا من التواطؤ بين الدولة وجماعة الأعمال تؤذي بقية المجتمع.
في سوريا لم يثق العلويون الذين في السلطة، تاريخيًّا، بجماعة الأعمال التي هيمن عليها السُّنة، ليس لأن السوريين لا يثقون ببعضهم بعضًا (هذه فكرة ثقافية culturalist عن الثقة) بل لأنّ الجماعة السُّنيّة المهيمنة أخضعتْ تاريخيًّا الجماعات الريفية الأقلوية التي ينحدر منها العلويون ونظرت إليها باستعلاء. بتعبير آخر، بسبب علاقة الخضوع، إن الجماعتين بما هما عليه يمكن أن تريا مصالحهما مختلفة، ويولّد هذا الاختلاف الواضح للمصالح غيابًا للثقة. على أي حال، على المستوى الفردي، وفي سياق جماعات أو شبكات أصغر، إن غياب الثقة غير موجود بالضرورة. مثلًا، سيثق عضو علوي في نخبة النظام برجل أعمال سني ويشاركه، إذا خدمت شراكةٌ كهذه مصالحهما الفردية. هذا يدحض المفهوم الثقافي. وفي الحقيقة هذه هي الحالة التي تحافظ على بقاء الشبكات الاقتصادية في سوريا: دخلت نخبة النظام العلوية بصورة متزايدة في مشاريع الأعمال مع شركاء سنة تثق بهم من أجل ذلك الهدف المحدّد. على أي حال، لم تثق القيادة التي يهيمن عليها العلويون برجال الأعمال السنة كمجموعة من المحتمل أن تنخرط في فعل جماعي ضدّ النظام أو مصالحه. هذا، وتظهر نتائج اقتصاديّة على نحوٍ عَرَضيٍّ على مستوى المناقشة في هذا الفصل من هذا الفرق بين الثقة على المستوى الفردي (التي تسمح للسنة والعلويين بأن يتعاونوا في ما يخدم أهدافهم الفردية) والثقة على المستوى الجماعي (التي يعرقل غيابها التعاون على مستوى أوسع). بالتالي، وبسبب غياب الثقة في شبكات تجْمع بين مسؤولي الدولة وفاعلي جماعة الأعمال في أنظمة استبدادية كهذه، من المحتمل أن تفشل هذه الشبكات في تطوير نوع التضمين، كما أن التحول أو النمو الاقتصادي يتطلب بيروقراطية تتمتع بالكفاءة. إن الآلية السببية العاملة هي بالضبط عكس ما تلهمه الثقة بين الدولة وجماعة الأعمال: يقضي غياب الثقة على إمكانية تبادل المعلومات والشفافية الجوهريين للتعاون المنتج. بالتالي، يقصّر غياب الثقة الآفاق الزمنية لمستثمرين محتملين، ويدفع عادة الاستثمار بعيدًا عن الأعمال التي تنتج قيمة مضافة نحو تلك التي تجني أرباحًا على المدى القصير كالتجارة في السلع الاستهلاكية التي تستهدف الطبقات الوسطى والعليا. من ناحية أخرى، يُحدِّد غياب ثقة الحكومة في جماعة الأعمال ككل نموذج العلاقات المؤسساتية واللامؤسساتية التي تتطور بين القابضين على مقاليد السلطة وأصحاب رؤوس الأموال. ثمة سؤالان يستحقان الطرح هنا: كيف نفعّل الدمج في السياق السوري؟ وكيف نحدد مصادر الثقة، أو غيابها بالتالي، بين الدولة وجماعة الأعمال؟
أقوم بتعريف الدمج من خلال تحليل الشبكة، فيما يساعد تحليل تاريخي مؤسساتي للعلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال في تحديد مصادر الثقة. وتساعد إراث معيّنة بين الدولة وجماعة الأعمال في نشوء أنماط محددة من الشبكات تتسم بثقة متبادلة أو شبهة متبادلة. بدورها، إن أنماطًا معيّنة من الشبكات، تتسم بدرجات متنوعة من التواطؤ أو التعاون بين أصحاب رؤوس الأموال والمسؤولين، تظهر تغايرًا بمرور الوقت مع سياسات وأجندات إصلاح معيّنة.8 إن إرثًا من العداء السياسي والاجتماعي الحاد بين الدولة وجماعة الأعمال في سوريا مسؤول إلى حد كبير عن نوعية العلاقات المؤسساتية واللامؤسساتية التي تطورت بينهما، ما يزيل بالتالي إمكانية الاقتراب من الدمج المثمر أو تماسك البيروقراطية واستقلاليتها. أكيد أن هناك عوامل أخرى تؤثر في نوع التطور المؤسساتي الذي ينشأ، ولكنّ كتابي هذا يركّز على تلك الأشكال العلائقية والمؤسساتية التي تؤثر في السلوك الاقتصادي. ذلك أنني أنظر، على وجه الدّقة، في كيف أثرت هذه الشبهة المتأصلة تاريخيًّا والراسخة في المجرى العام لكلٍّ من العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال والتغير الاقتصادي، وحدّت منه، من خلال تشكيل الرأي العدائي المسبق ضد الدمج الرسمي للقطاع الخاص.
شبكات الدولة وجماعة الأعمال كنتيجة
إن الشكل الذي اتخذته العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال في سوريا (وأعني الشبكات) هو النتيجة الأولى التي ستُشرح هنا، وسيتبعها فيما بعد شرح تأثير هذه العلاقات في نماذج التحرير الاقتصادي. وينبغي التأكيد ثانية أنّ الشبكات التي تجمع بين مسؤولي الدولة ورجال الأعمال هي في حد ذاتها نتيجة للسياق الاجتماعي السياسي أولًا، وهذا يساعدنا في فهم النتائج الاقتصادية.
إن العوامل والسيرورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشكّل طبيعة ودينامية العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال عديدة لكن يمكن تكثيفها (على أساس التجارب المشتركة للتنمية في البلدان النامية مؤخرًا) في مجموعة من العوامل المُهَيكِلَة التي تحمل وزنًا تفاضليًّا عبر حالات تعتمد على ما يمكن أن يُشرح. ينطوي كلٌّ من هذه العوامل على معان ضمنية تتعلق بطبيعة الوشيجة التي تتشكل وتتطوّر بين الدولة وجماعة الأعمال. ويعرّف هذا البحث إرث غياب الثقة بين الدولة وجماعة الأعمال ليس كعامل يسهم في الشبكات المؤلفة من رجال سلطة ورجال أعمال فحسب، بل أيضًا كعامل يسمُ الشبكات نفسها، وبالتالي يخرّب الإمكانية التنموية لسوريا.
إرث العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال
كما ناقشنا فيما سبق، يمكن أن تُدرس "العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال" كمتغيّر تابع ومستقل في آن واحد معًا، كنتيجة وسبب. بالتالي، إن هذه تنبني ويُعاد بناؤها على نحوٍ مستمر، ويفعّل هذا البحث العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال كشبكات تجمع بين الممسكين بمقاليد السلطة وأصحاب رؤوس الأموال. وبحسب نوع التفاعل بين الدولة وجماعة الأعمال، يمكن أن تتخذ هذه الشبكات أشكالًا مختلفة: بصفتها متغيِّرًا تابعًا يمكن أن تظهر على أنها إقصائية أو تضمينية، تواطئية أو تعاونية، ريعية أو معززة للإنتاج، مدينة على نحو كبير إلى عوامل تاريخية تُشكّل نموّها. وتؤثر شبكات الدولة ورجال الأعمال، أثناء هذه العملية، في نماذج التغير الاقتصادي والتنمية الاقتصادية. سأناقش العامل الأكثر بروزًا الذي صاغ التفاعل بين الدولة وجماعة الأعمال في سوريا، وأعني غياب الثقة الواضح بين القابضين على مقاليد السلطة وأصحاب رؤوس الأموال. وأدى غياب الثقة هذا، والذي حافظتْ عليه نماذج متتالية من الترقية والتطويع، إلى نشوء سياق مؤسساتي إقصائي ولّد نتائجه الاقتصادية والتنموية الخاصة. ورغم الاختلافات في تجارب الدول المتأخرة في التنمية، فإن عامل الثقة المتبادلة أو غياب الثقة مهم. فهو يؤثر في طبيعة وشكل العلاقات التي تتطور بين القابضين على مقاليد السلطة وأصحاب رؤوس الأموال. يمكن أن يقترح المرء مجازفًا بالتعبير عما هو جلي، أن الإرث العدائيّ للتفاعل بين الدولة وقطاع الأعمال يزيد من احتمال التواطؤ بين الدولة وجماعة الأعمال،9 بينما يزيد إرث الانسجام من احتمال التعاون بين الدولة وجماعة الأعمال.
التواطؤ إزاء التعاون الجماعي
يُعَرَّف التواطؤ حرفيًّا بأنه "مؤامرة لأهداف احتيالية".10 ولكنّه مصطلح أكثر شمولًا ودقة في آن. يشير التواطؤ إلى صيغة من "الاتفاق السريّ" أو "التعاون السريّ" من أجل هدف الخداع أو الاحتيال. وعلى نحو أكثر تحديدًا، يُفهَمُ كـ "اتفاق سريّ بين شخصين أو أكثر لسلب شخص حقوقه بأسلوب الاحتيال وفي الغالب بصيغ قانونية".11 بالتالي ينطوي التواطؤ على نوع من التعاون الاحتياليّ يتسم بالسريّة، بحالة من الشؤون تصف بدقة نوع الشبكات المؤلفة من رجال الدولة ورجال الأعمال والتي تسعى إلى فوائد الأنشطة الريعية، وتوجد في معظم البلدان النامية، وليس فقط في بلدان الشرق الأوسط، وسوريا على وجه الخصوص.
يشير التعاون الناجح (حيث تُوزع الفوائد بشكل أكثر جماعية) بصورة ثابتة إلى حالة تكون فيها المحصلة النهائية إيجابية، أي لا يوجد طرف يربح على حساب الآخر، بين الدولة وجماعة الأعمال كلّها، حيث تنطبق القوانين والقواعد والقيود على جميع أعضاء تلك الجماعة، وحيث تتأصل الاستثناءات في مبدأ تبادلية يتسم بصيغة ما من العقلانية الاقتصادية، أي الامتيازات التي تُقدّم انتقائيًّا بحسب معايير أداء. ويتضمّن التواطؤ، على أيّ حال، علاقات انتقائية متأصّلة على نحو رئيس في منطق العقلانية السياسية وعلى حساب العقلانية الاقتصادية. وهكذا تُقدَّم الامتيازات روتينيًّا بطريقة سرية إلى مجموعة منتقاة من المستفيدين بحسب معايير سياسية. بالمقابل، يقدّم فاعلو جماعة الأعمال الحاصلون على الامتيازات رأس المال، ويتنازلون عن حقهم في الدعوة إلى (مزيد) من الإصلاحات. وترتفع قيمة الامتيازات (يُدْفع كثير منها في صيغة ترخيص لانتهاك القانون) إلى درجة أن الجماعة كاملةً تُقصى فيما الفرصة لاستخراج الريع تظل موجودة. يبيّن هذا أن العلاقات التواطئية بين الدولة وجماعة الأعمال هي بالضرورة إقصائية وتميل نحو الانحلال أو معاودة التنظيم في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة. باختصار، يُحافَظ على العلاقات التواطئية باستمرار على حساب السعي وراء أهداف أكثر جماعيّة، سواء نظرنا إلى أهداف كهذه من زاوية النمو الاقتصادي المحافَظ عليه، وتوليد فرص العمل، وتوزيع الثروة، أو إنتاجية الاقتصاد. على أي حال، إن مبادرة التعاون هي مبادرة نخب الدولة: تتعاون الدولة وجماعة الأعمال ككل حين تجد نخب الدولة أنه من مصلحتها توليد أرباح جماعية.12 وحين تنظر نخب الدولة إلى التعاون مع جماعة الأعمال كسيرورة تقوّي قوى اجتماعية عدائيّة، فإنها تنشد صيغًا مختلفة من التفاعل. كان هذا هو العرف في الأنظمة الاستبدادية.
تزامن الطبقة، الوضع الاجتماعي، والهوية الجماعية
إن أحد العوامل المهمة في صياغة إرث العلاقات بين الدولة وجماعة الأعمال هو التنافر والتناغم النسبيين بين الممسكين بسلطة الدولة والمالكين الاجتماعيين لرأس المال. ويُشير التنافر والتناغم إلى تماثل أو عدم تماثل اجتماعي اقتصادي، واجتماعي سياسي، واجتماعي ثقافي بين الفاعلين. ورغم أن معظم الحالات هي تشكيلة متنوعة، فإنّ بعضها يتّسم بفَصْل مُعرّف جيّدًا بين خلفيات أصحاب رؤوس الأموال وخلفيات البيروقراطيين. وتزامن الانقسام الاجتماعي الثقافي بين نخبة النظام وأصحاب رؤوس الأموال في سوريا مع انقسام اجتماعي اقتصادي: كانت نخبة النظام بصورة مهيمنة ريفية، تنحدر من أقلية، وتنتمي إلى الطبقات التي لا تتمتع بالامتيازات (بعضها حتى بمعايير ريفية)، بينما كان أعضاء جماعة الأعمال مدينيين وسنيّين بصورة كبيرة،13 وينتمون إلى الطبقة المهيمنة. وزاد هذا التزامن بين الطبقة والوضع الاجتماعي والهوية الجماعية في الجانبين المنقسمين من استقطاب السياق السياسي في سوريا في الستينيات، حين أطاحت القوى الاجتماعية المسحوقة تاريخيًّا بالطبقات المهيمنة.14 وقادت العلاقات العدائية الطويلة والمتأصلة في سوريا)، والتي تُعَدُّ حالة جوهرية، كلّ طرف إلى النظر إلى العلاقة من زاوية نظر اللعبة الصفرية: إن التقدم في طرف يُعَدُّ آليًّا خسارة في الطرف الآخر؛ ذلك أنّ تنامي رأس المال الخاص يقلّل من سلطة الدولة، والعكس هو الصحيح. على أي حال، أبرز السياق السياسي لتدعيم الاستبداد الشعبوي التنافر الاجتماعي الثقافي. ويجب أن نشير إلى أن هذه ليست حجة ثقافية: فقد كانت نخبة النظام تسعى إلى تدعيم الحكم الشعبوي، ما أدّى باستمرار إلى تهميش الطبقات المهيمنة لصالح ائتلاف شعبوي يهيمن عليه العمال والفلاحون، ويضمنه الجيش.15 وكما سأناقش فيما يلي بالتفصيل، تداخلت الأبعاد السياسية والاجتماعية كي تمنح الامتياز "لفئة" في السياسة السورية. بالتالي، يستطيع المرء أن يفترض أنه في سياق التدعيم الشعبوي، وإلى الحد الذي تكون فيه الخلفيات الاجتماعية للممسكين بسلطة الدولة وأصحاب رؤوس الأموال متنافرة، فإن احتمال تعاون جماعيّ بين الدولة وجماعة الأعمال يتناقص. ويشير التعاون الجماعيّ هنا إلى رغبة الدولة وقدرتها على التعامل مع جماعة الأعمال كقطاع وليس كأصحاب رؤوس أموال منفصلين. ثمة تحذير واحد: تتفاقم العلاقات العدائية في حالات التنافر الواردة في ما سبق حين ينتمي القابضون على مقاليد السلطة إلى أقلية طائفية. وتصبح النخب السياسية الاستبدادية، في حالات كهذه، أكثر ترددًا في القيام بالمجازفات في التحرير الاقتصادي والسياسي وفي ما يتعلق باستراتيجيات توسيع الدكتاتورية. لم يُجرَّب هذا الوضع في مصر، مثلًا، حيث لا ينتمي البيروقراطيون وأصحاب رؤوس الأموال عامة إلى خلفيات طائفية متنابذة. إن الهوية وبناء الهوية هما أسباب ونتائج في آن واحد معًا في كيفيّة انكشاف الدينامية العدائية. ولا يُفَسّر صعود طبقة دنيا (مناطقية وطائفية) شعبية بسيطة كمثل القابضين الحاليين على مقاليد السلطة في سوريا بسعيها وراء السلطة والفائدة فقط: كأفراد، إنهم يسعون وراء الشرعية الاجتماعية والمكافأة إزاء الثقافة المهيمنة، وهذه أهداف تزيد من حدة الصراع.
الجذور التاريخية للعداء بين الدولة وجماعة الأعمال
يمكن أن تُقسم الأسباب التاريخية للعداء بين الدولة وجماعة الأعمال في سوريا إلى فئتين: اجتماعية سياسية واجتماعية ثقافية. وبينما تواجه الأنظمة الاستبدادية الشعبوية كلها خلافات اجتماعية ثقافية مع جماعة الأعمال، فإنّ قلة فحسب تواجه خلافات اجتماعية ثقافية حادة. لكنّ القوة الدافعة لهذا العداء متنوّعة اجتماعيَّا وسياسيًّا بسبب الدينامية الاحتوائية للأنظمة الشعبوية. فاقمتْ الخلافاتُ الاجتماعية الثقافية بين القابضين على مقاليد السلطة وأصحاب رؤوس الأموال، في الحالة السورية، هذا المصدرَ الأساس للصراع عبر إنشاء "نظام ثقة متدنية" استثنائي قيّد بحدّة سيرورة "إعادة جماعة الأعمال إلى السلك". لم تكن النخبة السياسية ونخبة الأعمال منقسمتين بسبب موقعهما الاجتماعي الثقافي، أو موقعهما بإزاء إعادة التوزيع فحسب، بل كانتا منقسمتين أيضًا بسبب هويتيهما الاجتماعيتين الثقافيتين والطائفيتين. ما نشأ آنذاك هو إدراك حادّ للعبة الحالة المتعادلة التي لا يوجد فيها خاسر أو رابح بين القابضين على مقاليد سلطة الدولة والمالكين لرأس المال.
إن العلاقات التضادية بين الدولة وجماعة الأعمال في الأنظمة الشعبوية مسألة مفاجئة، ذلك أنّ العلامة المميزة لأنظمة كهذه هي إعادة توزيع الثروة من القطاع الرأسمالي إلى القطاع الشعبوي في سيرورة طويلة تؤدي إلى تهميش أصحاب رؤوس الأموال ومالكي الأراضي كطبقة.16 إن الأنظمة الشعبوية التي تنشأ، كأداة للمنتصرين في صراع طبقي يضع القطاعات الشعبية ضد القطاعات الاجتماعية التي تتمتع بالامتيازات، تضمّ عادة تحالفًا يشمل حتى الآن القطاعات المُبْعَدة (مثلًا العمال والفلاحون والإنتلجنسيا المتطرفة) وتُقصي الأقسام الأكبر من جماعة الأعمال، بصرف النظر عن ما يُدعى غالبًا "البرجوازية الوطنية".17
تواصل العداء بين القابضين على مقاليد السلطة وأصحاب رؤوس الأموال لعدة أسباب أهمها التنوع الاجتماعي السياسي. وتبنّى القادة الشعبويون أجندة ضربت جوهر النظام الاجتماعي "الليبرالي" السابق: أعادت تنظيم العلاقة بين الدولة والاقتصاد وأنشأت ودعمت مؤسسات أشرفت على الانتقال إلى اقتصاد دولاني (تحت سيطرة الدولة)، تحتل فيه الدولة مكان الرأسمال الخاص كمحرك للنمو الاقتصادي. وتبيَّن أن إبقاء أصحاب رؤوس الأموال تحت السيطرة كان مهنة متواصلة للأنظمة الشعبوية في أعوامها الأولى.18 وصارع أصحاب رؤوس الأموال المتمردون ومؤسساتهم أولًا كي يعكسوا الوضع القائم، ولكنهم انتهوا عندئذ، كما حدث غالبًا، إلى الصراع كي يبقوا واقفين على أقدامهم أو (في حالات لا يغادرون فيها البلاد ولا يتعاونون مع النظام) كي يبقوا على قيد الحياة. والواقع أنّ كثيرًا من البلاغة الشعبوية في الأعوام الشعبوية الأولى عكست انشغال هذه الأنظمة بنزْع الشرعية عن النظام الاجتماعي "الليبرالي" المترافق مع دعم الانتقال السريع إلى نظام اجتماعي تديره الدولة، ولو لم يكن نظامًا اشتراكيًّا.
إعادة جماعة الأعمال
في الحقيقة جربت الدولة وجماعة الأعمال في جميع الأنظمة الاستبدادية الشعبوية صيغة من التقارب بعد مراحل أوليّة من التعبئة والتدعيم. ولأسباب اقتصادية وتحالفية، رافقت أزمنة التقارب عادة أو تبعت حالات من التسريح الشعبوي، بما أن الأنظمة الشعبوية سعتْ إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية والاقتصادية من خلال إرجاع جماعة الأعمال، أو سعت إلى أن تعيد ترتيب نظامها القائم على المصالح المشتركة. وأدّى كلٌّ من حدة الأزمة الاقتصادية، والحاجة الماسة إلى تراكم رأس المال المستمر، وضرورة الشرعية السياسية دورًا رئيسًا في إجبار الأنظمة الشعبوية على إعادة التفكير بدور ومشاركة القطاع الخاص أو أجزاء منه. 19
كانت لدرجة وطبيعة العداء بين الدولة وجماعة الأعمال ونتائجه المرافقة في جميع الأنظمة الشعبوية تقريبًا تأثير مهم في إعادة دمج جماعة الأعمال. بالتالي، من المهم أن نحلّل التصنيف "علاقات عدائية" ونقتفي أثر النتائج التحالفية والمؤسساتية المحددة التي تسببها، أو أن نتبيّن تلك الخيارات التي هي مُستأصلة في الواقع نتيجة سعي النظام وراء قنوات معيّنة. إذا قيل إنّ العمليات اللاحقة للتحرير الاقتصادي متأثرة بالسياق المؤسساتي الذي أُطلقتْ منه، يصبح عندئذ من المهم بالقدر نفسه تفكيك العلاقات العدائية من أجل تمييز صلاتها المستمرة غالبًا مع عمليات التحرير، وتحديدًا حين تقيّد الترتيبات المؤسساتية الأولى بحدّة خيارات لاحقة. كان حزب البعث في سوريا عالقًا في صراعات طائفية وطبقية وإقليمية، وتطوّره في الستينيات مَثَلٌ يوضح قصدي. وفاقمت دينامية التدعيم الشعبوي ومآزقها الملازمة (التعبئة والتعبئة المضادة واستقلالية الدولة)20 الصراعَ، الذي بدوره جعل النخبة الحاكمة متطرّفة، ما قاد إلى استقطاب المجتمع السوري في نهاية ذلك العقد. وحين أُجبر النظام على القيام بانفراج مع فئات من البرجوازية في العقد التالي، بعد أن حدث عزلٌ محليّ وإقليمي، قلّص إرث وطبيعة العداء بين الدولة وجماعة الأعمال سيرورة التقارب بطريقة واضحة بشكل لا لبس فيه. إن تزامن الخلافات الاجتماعية السياسية والاجتماعية الثقافية بين القابضين على مقاليد سلطة الدولة وأصحاب رؤوس الأموال التي زادت من حدّتها نماذج من التعيين والترقية، أضاف إشكالية استراتيجية مميّزة إلى إعادة إدخال جماعة الأعمال في السبعينيات والثمانينيات. حين نعيد النظر في الأمر، يمكن أن نتبين أن طبيعة العداء جعلت النظام يغالي في رد فعله ويقصي بصورة غير مبررة القوى الاجتماعية المدينية المحافظة من السياسة الرسمية. وأوحتْ المجابهات العنيفة بين النظام وتنظيم الإخوان المسلمين في أواخر السبعينيات بأن النظام كان يخاف كثيرًا من جماعة الأعمال التي تملك روابط قوية وجذورًا في السوق التقليدية (السوق التقليدية للصناع والحرفيين) والتي جاءت منها صفوف الإخوان المسلمين. 21
هوامش
1. من أجل فورة الاستهلاك، انظر: بيرتس، الاقتصاد السياسي في سوريا تحت حكم الأسد، ف 1؛ حول الانحدار نحو الأسفل، انظر إكونومست إنتلجنس يونيت، "تقرير عن سوريا"، 1998 1999.
2. من أجل مراجعة الحجج، انظر: جيديز، "تحدي الحكمة التقليدية"، في جورنال أوف ديموكراسي.
3. انظر: إيفانز، الاستقلالية المتضمنة.
4. يعرّف كتاب هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية النظام الشعبوي الاستبدادي بأنه "واحد يسعى إلى تأسيس سلطة دولة قوية بشكل مستقل عن الطبقات المهيمنة والقوى الخارجية وإطلاق تنمية اقتصاد وطني يهدف إلى تسهيل اعتماد وإخضاع القوى الرأسمالية لأهداف شعبوية (2). يقول برومبيرغ إن الأنظمة الشعبوية تشكل تحالفًا يتضمن قطاعات معزولة حتى الآن (مثلًا، العمال والفلاحون والإنتلجنسيا الراديكالية) ويقصي الأجزاء الأكبر من جماعة الأعمال، بصرف النظر عما يدعى غالبًا البرجوازية الوطنية؛ انظر: برومبيرغ،"المواريث الاستبدادية واستراتيجيات الإصلاح في العالم العربي".
5. انظر: شنايدر وماكسفيلد، "جماعة الأعمال، الدولة، والأداء الاقتصادي في البلدان النامية".
6. المصدر نفسه.
7. انظر: وليامسون، "حساب الأمور، الثقة، والتنظيم الاقتصادي".
8. انظر: شنايدر وماكسفيلد، "الأعمال، الدولة، والأداء الاقتصادي في البلدان النامية".
9. من أجل نقاش لمفهوم التواطؤ ومعانيه الضمنية للعلاقات الاقتصادية، انظر: ألكسيف وليتزل، "التواطؤ والأنشطة الريعية".
10. قاموس راندوم هاوس ويبسترز كوليج، (نيويورك: راندوم هاوس، 1997، 25.
11. القاموس العالمي الثالث، وبستر، غير مختصر (الفلبين: مريام ـ وبستر، 1981، 446) يتضمن التعريف أيضًا: "اتفاقًا بين أطراف تعتبر خصومًا على القانون" و"اتفاقًا سريًّا يعتبر غير قانوني لأي سبب".
12. انظر: ديلمان، الدولة والقطاع الخاص في الجزائر،11-15.
13. إن غالبية سكان سوريا سنّة. من أجل نقاش لديموغرافية سوريا، انظر: فان دام Van Dam، الصراع على السلطة في سوريا.
14. انظر: بطاطو، فلاحو سورية، المتحدرون من الأعيان الريفيين الأدنى، وسياستهم.
15. انظر: برومبيرغ، "المواريث الاستبدادية واستراتيجيات الإصلاح في العالم العربي".
16. انظر: هينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، 1-7؛ وهايديمان، الاستبداد في سوريا، 12-16. يقدم هايديمان تحليلًا دقيقًا للتحالفات المتبدّلة في المراحل الأولى للشعبوية، والتي كان فيها أصحاب رؤوس الأموال والأقلية الحاكمة على خلاف (14-15).
17. انظر: برومبيرغ.
18. انظر: هايديمان، الاستبداد في سوريا، 181-92.
19. انظر وتربري، "القطاع الخاص: العودة من الظلال".
20. انظر: هايديمان، الاستبداد في سوريا، 19.
21. انظر: بطاطو، فلاحو سورية، المتحدرون من الأعيان الريفيين الأدنى، وسياستهم، ف 22؛ وهينيبوش، السلطة الاستبدادية وتشكيل الدولة في سوريا البعثية، ف 9، من أجل أفضل القصص عن المواجهة بين النظام السوري والإسلاميين وأسبابها.
[ترجمة أسامة إسبر، عن Business Networks in Syria The Political Economy of Authoritarian Resilience Stanford University Press, 2012].