كتب: المعارضة السياسية الأردنية في مئة عام
د. علي محافظة
(المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2021)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب، وما الذي قادك نحو الموضوع؟
علي محافظة (ع. م.): بدأ اهتمامي بتاريخ الأردن مبكرًا. فقد كان موضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراه الحلقة الثالثة من جامعة السوربون في باريس "العلاقات الأردنية - البريطانية بين عامي 1921 و1957"، وذلك سنة 1971. وعملت في قسم التاريخ في كلية الآداب في الجامعة الأردنية بعمّان في السنة نفسها. ودرّست تاريخ الأردن الحديث والمعاصر طوال سنوات عديدة. وألّفت عشرة كتب كمؤلف منفرد في تاريخ الأردن المعاصر، وأحد عشر كتابًا في تاريخ الأردن المعاصر كمؤلف مشارك، وأربعة عشر بحثًا نشرتها في مجلات علمية محكمة في الموضوع نفسه. وحرصت طوال عملي في الجامعة الأردنية بين سنتي 1971 و1981 و1994 و2008 كعضو هيئة تدريس عامل، ومنذ سنة 2009 وحتى الآن كأستاذ شرف في القسم المذكور، أن أمارس التعليم والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه التي يعدها طلبة القسم الذين يختارونني للإشراف على رسائلهم. وقد وجدت أن الأبحاث التي تناولت موضوع المعارضة السياسية الأردنية قليلة جدًّا لأسباب عديدة أهمها عدم توفر المصادر والمراجع التي تتصل بالموضوع، وتردد الطلبة والباحثين في تناول الموضوع في غياب الحرية الأكاديمية في جامعاتنا.
وفكرة الكتاب في بالي منذ سنوات، والذي قادني إلى الكتابة في هذا الموضوع في السنتين الأخيرتين أنني تجاوزت الثمانين من عمري ولم أحقق ما في بالي، فأقدمت على الكتابة دون خوف أو تردد بما توفر لدي من مصادر ومراجع، آملًا أن يقتدي بي تلاميذي وغيرهم من الباحثين في تاريخ الأردن المعاصر ويتلافوا النقص الذي قد يجدونه فيما كتبت. فتاريخ المعارضة السياسية الأردنية جزء مهم من تاريخ الشعب الأردني وبدونه لا يمكن فهم مجمل تاريخه وما جرى له من تطور، وتعرض له من تغير.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ع. م.): يمكن تلخيص الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب بما يلي:
-
الطبيعة العشائرية للمجتمع الأردني والمكوّن العشائري للمعارضة السياسية الأردنية بين سنتي 1921 و1950.
-
أثر التكوين العشائري للمعارضة السياسية على نشاطها السياسي وموقفها من الحكومات الأردنية المتعاقبة.
-
سيادة القيم العشائرية البدوية في المجتمع الأردني، مثل الغزو والولاء للأسرة أولًا ثم للعشيرة ثانيًا وللمنطقة التي يقيم فيها ثالثًا، والتحالفات العشائرية، والعداوات بين العشائر وما يترتب عليها من مواقف.
-
نشأة الأحزاب العقائدية في الخمسينات من القرن العشرين والمنافسة الشديدة فيما بينها التي بلغت مستوى العداء والإساءة والتشهير.
-
مواقف السلطات الأردنية من المعارضة والقوانين والأنظمة التي أصدرتها لاضطهادها وقمعها وممارسة الاعتقال والسجن والنفي والإبعاد ضدها، والسعي إلى تفكيكها.
-
حظر نشاط الأحزاب السياسية الأردنية بين سنتي 1957 و1992، ولجوء الأحزاب العقائدية إلى العمل السري وما رافقه من نتائج سلبية على المعارضة السياسية الأردنية.
-
استجابة الملك حسين لما جرى في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، وبدء التحول نحو الديمقراطية منذئذ وحتى سنة 1993. فقد عادت الحياة النيابية وألغيت القوانين والأنظمة والتعليمات المقيدة للحريات العامة والفردية للمواطنين.
-
بدء التراجع عن التحول الديمقراطي مع إبرام معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية سنة 1994.
-
الميثاق الوطني الأردني لسنة 1990، دوافعه ومحتواه وتهميشه.
-
الخصخصة وآثارها الاقتصادية المدمرة على الأردن، وانتشار الفساد على أوسع نطاق بين سنتي 1991 و2010.
-
الحراك الشعبي الأردني ومطالبه في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين سنتي 2011 و2019.
-
الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الأردن دون حلول.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث؟
(ع. م.): أهم التحديات قلة المراجع التي تتصل بالموضوع، وتعذر الحصول على معلومات من أجهزة الدولة الرسمية عن الموضوع.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به، وكيف سيتفاعل معه؟
(ع. م.): هذا الكتاب يقع في حقل تاريخ الأردن المعاصر وتاريخ الفكر السياسي في الأردن. وهو دراسة للمعارضة السياسية في قطر عربي تقوم على المنهج العلمي التاريخي التي لا تلقى اهتمامًا من المؤرخين والباحثين العرب بسبب غياب الحريات العامة والفردية في جميع الأقطار العربية.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(ع. م.): في تقديري أن هذا الكتاب مهم جدًّا في مسيرتي الفكرية. لأن هذا الموضوع قد تناول جزءًا منه عدد محدود جدًّا من الباحثين الأردنيين والعرب والأجانب. واقتصر المنشور منه على فترات زمنية محددة مثل: عهد الإمارة الأردنية (1921- 1946)، أو عقد الخمسينات من القرن العشرين. فهو أول دراسة تشمل تاريخ المعارضة السياسية منذ قيام الدولة الأردنية حتى تموز/ يوليو 2021. وفيه تحليل لمواقف المعارضة وأساليب السلطات الأردنية في قمعها وتفتيت قواها.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب، وما الذي تأمل أن يصل إليه القرّاء؟
(ع. م.): جمهور المعارضة السياسية الأردنية هو الذي يشتري الكتاب، كما فهمت من الناشر وأساتذة الجامعات الأردنية. ولكنني آمل أن يقرأه الشباب الأردني الذي لا يعرف شيئًا إيجابيًّا عن المعارضة، وخضع لرواية السلطات الرسمية لما جرى في الأردن من أحداث، وهي رواية مشوّهة لمسيرة المعارضة، وتجريح لها، واتهامها بالخيانة للوطن.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى المستقبلية؟
(ع. م.): أعدّ حاليًّا دراسة عن الكتابة التاريخية في الأردن واتجاهاتها السياسية والمنهجية العلمية والنظريات التي تتبناها، والمدارس الفكرية التي تتبعها.
مقتطف من الكتاب
في هذا العرض السريع الموجز لتاريخ المعارضة السياسية الأردنية، لا بدّ من ملاحظة أن عهد الإمارة الأردنية (1921- 1946) قد اتّسم بمثلث التخلف: الفقر والجهل والمرض في المجتمع الأردني، وانعكس هذا الوضع على تشكيل المعارضة السياسية في البلاد المؤلفة من شيوخ العشائر وأعيان المدن. فقد كان التعليم الثانوي والعالي محدودًا جدًّا. ولا عجب أن يستعين أمير البلاد في إدارة الدولة الناشئة بقيادات كفؤة من أبناء البلاد العربية الشقيقة المجاورة: سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز. وكان معظمهم من المنتسبين إلى حزب الاستقلال العربي الذي تكوّن من بقايا أعضاء جمعية العربية الفتاة وجمعية العهد السريتين اللتين نشأتا في العقد الأول من القرن العشرين، أي في أواخر العهد العثماني. وتولى الاستقلاليون، وهم من بقايا حزب الاستقلال العربي الذي تكوّن في العهد الفيصلي في سوريا (1918- 1920)، حكم الإمارة بين سنتي 1921 و1924. وأدى الخلاف بينهم وبين سلطات الانتداب البريطاني حول دعم الأردن للمعارضة السورية للانتداب الفرنسي والثورات التي اندلعت في سوريا الشمالية ضد قوات الاحتلال الفرنسية، وحول نظرتهم إلى الدولة الأردنية التي حملت في السنوات الثماني الأولى من عمرها اسم "الشرق العربي"، إلى إخراجهم من البلاد سنة 1924، فقد كان الاستقلاليون يعتبرون الإمارة الأردنية الناشئة نواة لدولة عربية كبرى مهمتها دعم نضال الشعوب العربية في سوريا وفلسطين ولبنان، بينما أرادتها بريطانيا أن تكون أداة لقمع أية حركة مقاومة عربية في هذه الأقطار.
لم يعتد الأردنيون على الحكم المركزي طوال أربعة قرون من الحكم العثماني، وإنما خضعوا لشيوخ عشائرهم، واعتادوا على الفوضى والغزوات البدوية، وما كان يرافقها من تحالفات بين العشائر المستقرة في القرى للوقوف في وجه الغزاة وحماية أنفسهم وممتلكاتهم. وكان من الطبيعي أن تتألف المعارضة السياسية الأردنية طوال عهد الإمارة من شيوخ العشائر وأعيان المدن الناشئة وبعض المتعلمين وأصحاب المهن الحرة.
ولم تتغير البنية الاجتماعية للمعارضة السياسية الأردنية إلا بعد وحدة ضفتي الأردن سنة 1950. إذ حلّ المثقفون والمتعلمون من أطباء وصيادلة ومهندسين ومحامين ومعلمين محل القيادة التقليدية للمعارضة من شيوخ عشائر وأعيان مدن. ونشأت الأحزاب السياسية في البلاد التي استوعبت المثقفين والمتعلمين وطلبة المدارس الثانوية في البلاد. وشهدت البلاد نهضة تعليمية حقيقية ساهمت في نمو الوعي السياسي بين الشباب الذين أصبحوا عماد نشاط الأحزاب السياسية المعارضة. وبلغ النشاط السياسي أوجه في منتصف الخمسينات من القرن العشرين. واعتاد الناشطون السياسيون على الملاحقة والاعتقال والسجن. ووجدوا دعمًا ومساندة من أحزابهم ومن أهلهم وذويهم. وغدا الاعتقال والسجن لأسباب سياسية مفخرة ومدعاة للاعتزاز لدى الشباب.
صحيح أن حكومة سليمان النابلسي (1956- 1957) كانت نهاية مرحلة مهمة من حياة المعارضة السياسية الأردنية، إذ في أعقاب إقالة هذه الحكومة في نيسان/أبريل 1957، فرضت الأحكام العرفية على البلاد، وحلت جميع الأحزاب السياسية باستثناء جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الشهر وظلت محظورة النشاط حتى سنة 1992، أي 35 سنة. وفي خلال هذه السنوات خضع الشعب الأردني لرقابة الأجهزة الأمنية والمخابرات العامة، وعاشت الأحزاب العقائدية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب تجربة العمل السري طوال هذه المدة. فأصابتها أمراض العمل السري من صراع بين القيادات وتمزق وتفكك وضعف. وساهم الاعتقال والسجن لسنوات طويلة لقيادات هذه الأحزاب إلى فقدان الثقة فيما بينها، واحتدام النزاعات الشخصية، ونجحت الأجهزة الأمنية الأردنية ودائرة المخابرات العامة بخاصة في القضاء على نشاط هذه الأحزاب، وكسب ولاء بعض قياداتها.
كانت السنوات الأربع التي هيمن العمل الفدائي الفلسطيني على الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية في الأردن (1967- 1971) فرصة نادرة لاستئناف أحزاب المعارضة السياسية نشاطها، واستعادة دورها. غير أنها ضيعت هذه الفرصة ولم تحسن استغلالها، وبسبب تفككها وتنافر قياداتها، وضعف تنظيمها انخرطت في تنظيمات العمل الفدائي التي أنشأتها ومولتها أنظمة الحكم في سوريا والعراق والمملكة العربية السعودية ودول خليجية عربية أخرى. وخضعت لقيادة منظمة فتح (حركة التحرير الفلسطينية) ورئيسها ياسر عرفات. ولم تنظر في مطالب الشعب الأردني السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحصرت مهمتها ونضالها في الدفاع عن العمل الفدائي وممارساته الشاذة التي أثارت مشاعر الشعب الأردني وغضبه. ولذا كان إخراج الفدائيين من البلاد في تموز/يوليو 1971 نهاية لأحزاب المعارضة السياسية وقضاء عليها.
وعادت هذه الأحزاب من جديد إلى العمل السري وما رافقه من ملاحقات واعتقالات وسجون وتعذيب. وعاد التفكك والانشقاقات، والتشتت إلى هذه الأحزاب بين سنتي 1971 و1989. وأصيبت بالعجز التام عن المطالبة بالحريات العامة واستئناف الحياة البرلمانية، وتأليف الأحزاب السياسية.
وجاءت هبة نيسان/أبريل 1989 نعمة من السماء، أقنعت القيادة الأردنية، التي لاحظت سقوط جدار برلين، وبداية تفكك منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وانهيار الاتحاد السوفياتي، فانحنت أمام ريح الحرية التي بدأت تهب بشدة على العالم. وبدأ الربيع الأردني بين سنتي 1989 و1993. وتحقق ما لم تحلم به المعارضة السياسية الأردنية في يوم من الأيام، خلال أربع سنوات.
غير أن هذه النعمة الربانية لم تدم فقد فرضت معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية شروطها. إذ كان من المتعذر المصادقة عليها من قبل مجلس نيابي منتخب بصورة صحيحة ونزيهة. ولذا جاءت القيادة الأردنية بحكومة فرضت على الشعب قانون الانتخاب المعروف بقانون الصوت الواحد الذي أنتج مجلسًا نيابيًّا طيّعًا صادق على المعاهدة. وبقي قائمًا حتى اليوم على الرغم من الصيغ والأشكال التي اتخذها طوال 28 سنة. ومنذئذ فرضت قيود عديدة على الديمقراطية التي تمتع بها الأردنيون طوال أربع سنوات سمان.
ومنذ أن اعتلى عرش المملكة عبد الله الثاني ابن الحسين، عقدت عليه الآمال لإحداث تغيير جذري على الساحتين السياسية والاقتصادية. وكانت كتب التكليف الملكية للحكومات الخمس الأولى من عهده تبعث على التفاؤل. غير أن استجابة هذه الحكومات لمتطلبات العولمة واتفاقية التجارة العالمية فرضت عليها خصخصة معظم الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي تملكها الدولة أو تملك نسبة كبيرة من أسهمها، وما رافقها من فساد وهدر للمال العام أثارت مشاعر الأردنيين وحركت غضبهم ودفعتهم إلى التظاهر والاستنكار. وجاءت أحداث الربيع العربي بين سنتي 2011 و2014 لتحرك الأردنيين من جديد وتدفعهم إلى تنظيم المعارضة السياسية، واشتداد عودها. واجتاحت جميع المدن والقرى الأردنية، واتسعت مطالبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وحققت بعض هذه المطالب وما زال المهم منها لم يتحقق بعد. ونأمل أن تستجيب القيادة الأردنية لهذه المطالب التي من شأنها تحقيق الوحدة الوطنية وتماسك المجتمع وحماية نظام الحكم والتصدي للتحديات الداخلية والخارجية وتوفير الأمن والاستقرار في البلاد.