الصومال: تعويذة الحرب على الإرهاب في سياق 'الدولة الفاشلة'

الصومال: تعويذة الحرب على الإرهاب في سياق "الدولة الفاشلة"

الصومال: تعويذة الحرب على الإرهاب في سياق "الدولة الفاشلة"

By : Sohaib Mahmoud صهيب محمود

يختلف الدارسون لظاهرة الدولة الفاشلة حول المعايير التي تحدد فشلها؛ فثمة تنويعات مختلفة لتمظهرات فشل الدولة، بدءًا من عجزها في أداء واجباتها إلى تحلل سلطتها واختفائها كلية، إلا أن الأمر البدهِي لدى الأدبيات المشتغلة في الدولة الفاشلة هو اعتبار الصومال حالة أنموذجية لها. وتُستدعى في أي نقاش عنها، بل في كثير من الأحيان يظهر مصطلح "الصوملة" كتعبير مرادف لفشل الدولة(1). وهو تفكير غذته دوائر التفكير الأميركية (ومن بينها الأكاديمية) في العقود الأخيرة، وكذا وسائل الإعلام العالمية، والتي لم تتوقف عند هذا الحد، بل عمدت إلى الربط بين الإرهاب والدولة الفاشلة، وأضحى الصومال الحالة التي تتحقّق فيها هذه التوليفة؛ ويمكن عد فيلم (بلاك هوك داون) من إخراج ريدلي سكوت مثالًا يكرّس هذا الطرح، وهو تقريبا الفيلم المؤسس للمخيلة الأميركية -وربما العالمية عن الصومال، والذي أنتِج عن التدخل الأميركي في الصومال في عام 1992 في سياق التبرير للغزو الأميركي لأفغانستان في 2001. وفي هذا المضمار؛ يفحص هذا المقال مشروع "الحرب على الإرهاب" الذي قُدّم كتعويذة لحل مسألة "الدولة الفاشلة" في السياق الصومالي، وذلك في خضم النقاشات التي تستدعي حاليًّا إمكانية تكرّر سيناريو أفغانستان في الصومال.

لقد فُسّر التدخل الأميركي الأول في الصومال في عام 1992 من المنظور الإنساني؛ وجرى تبريره من باب "مبدأ مسؤولية الحماية" في خضم الأزمة الإنسانية التي كانت تمر بها الصومال بعد انهيار نظام سياد بري، إلا أن مقتل وسحل جنود أميركيين من قبل ميليشيات أمير الحرب الجنرال محمد عيديد وبثّ صورهم على الشاشات أجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها سريعًا، بعد صدمة مدوية تسببتها هذه الصور في الشارع الأميركي، وهو ما حدا بالمؤسسات الأميركية على إنتاج العديد من الأفلام المختلفة لتخفيف حدّة تلك الصورة من ذهن المواطن الأميركي. لكن أحداث تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في أغسطس/آب 1998 جددت من المنظور الأميركي بالتوّجس من الحركات الجهادية في شرق إفريقيا، وكانت تتخوف الولايات المتحدة في هذا السياق من أن يصبح الصومال ملاذًا لقيادات تنظيم القاعدة المطلوبة لديها. وتعزز هذا المنظور أكثر في فترة بوش الابن حيث أدّت اعتبارات الأمن القومي الأميركي وظهور ما سُمى بـ"عقيدة بوش" والحرب الطموحة التي أعلنها على الإرهاب في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول؛ بتأكيد الفرضية القائلة بأن الدولة الفاشلة تشكّل مصدر تهديد للأمن القومي الأميركي وتهديد للسلام الدولي أيضًا. وعلى هذا قامت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف من أمراء الحرب الصوماليين، تحت مسمى "التحالف من أجل استعادة السلام ومكافحة الإرهاب" (ARPCT). وكما يمكن توقعه، كان يتسم سلوك أمراء الحرب المدعومين أميركيًّا بالعنف المليشياوي المفتوح والبعيد كل البُعد عن الثقافة الديمقراطية التي كان يُسهب بوش الابن في شرحها في خطبة إعادة تنصيبه في عام 2005، حين ذكر: "أن بلاده تسعى لدعم نمو الحركات والمؤسسات الديمقراطية في كل دولة وفي كل ثقافة".

وقد أدت سلوكيات أمراء الحرب المدعومين أميركيًّا إلى محاولة فصائل محلية إسلامية الحد من ممارساتهم، تحت إسم المحاكم الإسلامية، ونجحت في وقت وجيز في التغلب على أمراء الحرب، وبالفعل بدأ وضع الصومال في التحسن على المستوى الأمني والمعيشي. إلا أن واشنطن رأت مشروع "المحاكم" كتهديد إسلاميٍ قادمٍ من القرن الإفريقي، وباتساق مع التقرير الأمني القومي للولايات المتحدة لعام 2006 الذي اعتبر "الدولة الفاشلة ملاذًا آمنا للعناصر الإرهابية"، قامت الولايات المتحدة بتدخلها الثاني المباشر في الصومال، وأرسلت قوات خاصة وعناصر من الاستخبارات الأميركية لدعم التدخل الذي قامت به إثيوبيا تحت مزاعم "القضاء على التهديد الإسلامي"، وكان يبلغ قوامه 50 ألف جندي إثيوبي. وبحلول عام 2007، تم تنصيب أول رئيس حكومة صومالية في العاصمة مقديشو بفضل الإثيوبيين والأميركيين. لكن تلك الحكومة لم تكن قادرة على البقاء والصمود وحدها أمام الإسلاميين، ولم يكن مفاجئًا في هذا الخصوص، ونتيجة لعدة عوامل، يأتي في مقدمتها الاحتلال الإثيوبي-الأميركي، ولادة حركة الشباب المجاهدين؛ حيث وجدت الفصائل والألوية المتطرفة في الجناح العسكري في اتحاد المحاكم الإسلامية مشروعا لاستقطاب الشارع في مقاومة الوجود الأجنبي، وعلى هذا دخلت الصومال في مرحلة جهادية مختلفة يتزاحم فيها المقاتلون الأجانب من أنحاء العالم "للدفاع عن الأراضي المسلمة"(2).

وهكذا جاء مشروع بناء الدولة الصومالية على شكل احتلال أجنبي صارخ، ولتثبيت دعائم الحكومة الصومالية المهدّدة من قبل المليشيات الإسلامية، شُكّلت بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (AMISOM) من قبل مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي في يناير 2007، وهي بعثة تتألف من قوات من أوغندا وجيبوتي وسيراليون وبوروندي، انضمت إليها لاحقًا إثيوبيا وكينيا، الدولتان الجارتان للصومال، واللتان تشهدان نزاعات حدودية تاريخية معها. ونصّت مهام البعثة العمل على الحدّ من تهديد حركة الشباب ومساعدة القوات الصومالية على توفير الأمن على جميع المستويات، ومن ثم العمل على التسليم التدريجي للمسؤوليات الأمنية إلى قوات الأمن الصومالية.

أهم ما تفصح عنه إعادة قراءة ربط الحروب الأميركية على "الإرهاب" أو "التهديد الإسلامي" بالدولة الفاشلة هي أنها وفرت بيئة حاضنة للجهاديين، وكما بينت بعض الأبحاث الميدانية فإن المضايقات والاضطهاد من قبل الجيوش الأجنبية والقوات الأميركية كانت عاملًا رئيسيًّا في التعبئة للتمرد الجهادي في الحالة الأفغانية

ماذا تحقق من كل هذا بعد مرور 14 سنة من بدء مهام البعثة؟ لا شيء تقريبًا. صحيح أن الحكومة الصومالية الضعيفة استقرت في العاصمة، ونالت الاعتراف الدولي. لكن البعثة الإفريقية المموّلة غربيًا تستمر في محاربة "الشباب" بدون نتائج حاسمة، وهي الآن أضحت أطول بعثة سلام في القارة بأكملها، بل أدت إلى تحوّل الصومال إلى سوق للعسكرة وإلى سوق للشركات الأمنية وأطماع القوى الإقليمية المتنافسة. وبالنسبة للمجتمع الدولي (وهو تحالف فضفاض يتكوّن من الدول الأوروبية ودول الجوار)، فإنه وضع أكثر من خريطة لانسحاب تلك القوات، آخرها خلال مؤتمر دولي عُقد في لندن في عام 2017؛ حين تعهدت من خلاله الحكومة الصومالية والشركاء الدوليون بوضع خطة للأمن القومي عبر إنشاء جيش وطني صومالي قوي وموّحد، على أن يكون مستعدًا لتولى القيادة من "أميصوم" بحلول نهاية 2021. ألا أن هذه الوعود فشلت مرة أخرى في التحقّق، ويتم حاليًّا الحديث عن إعادة هيكلة البعثة، وتحويلها إلى تشكيل مختلط من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، ونشرها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بشأن التهديدات للسلام والأمن العالميّين وتجديد مهامها إلى سنة 2027، وكل ذلك بحجة أن الحركة ما زالت خطيرة وفاعلة، وتتمتع بنفوذ كبير في جنوب الصومال، وتستطيع ضرب العاصمة مقديشو وعواصم دول الجوار. 

أما بالنسبة إلى الوجود العسكري الأميركي، فإنه يتسم بالسرية والغموض. وكما يكتب الصحافي الاستقصائي جيريمي سكاهيل، فالولايات المتحدة تملك قواعد وسجون سرية في الصومال، أما الوجود المُعلن، فهو لا يتعدى 800 جندي، وقد أعلن وزير الدفاع الأميركي كريستوفر ميللر في زيارة كان يقوم بها للصومال في نوفمبر العام الماضي انسحابهم من الصومال في أواخر فترة دونالد ترامب، وتم هذا بقليل من الضوضاء، لكن هنالك الطائرات المسيّرة التي ستستمر عملياتها القتالية في الصومال.

وفي خضم النقاش عن الانسحاب الأميركي يبرز مدى فشل استراتيجية أميركا في الصومال، والتي قدمت مشروع محاربة الإرهاب على أنها التعويذة السحرية للقضاء على الإسلاميين وعلى بناء الدولة الديمقراطية. والواقع أن هذا السلوك أدى إلى نتائج عكسية، تمثلت بولادة حركة الشباب المجاهدين؛ إحدى أعنف الحركات الجهادية في العالم. والملاحظ هنا أن فرضية ربط الإرهاب بالديمقراطية غير صحيحة في الأساس، فهناك الكثير من الدول القوية والديمقراطية التي تنشط فيها الحركات المصنفة بالإرهاب، وقد بيّنت دراسة أنجزها أيدن ههير أنه ليس هناك صلة سببية أو علاقة واضحة بين الدول الفاشلة وبين انتشار الإرهاب، أو بين الديمقراطية وبين الحد من الإرهاب.

وغير بعيد عن النقاش الذي خلقه الانسحاب الأميركي الأخير من الصومال، ومن أفغانستان، وبسبب أن مشروع الحرب على الإرهاب أصبح علامة فارقة في النظام الدولي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة عسكريًّا وسياسيًّا في العقود الثلاثة الأخيرة؛ تذهب بعض التحليلات بإمكانية تكرار سيناريو سقوط كابول تحت حكم حركة طالبان في واقع الحركات الجهادية الأخرى، وبالأخص في الحالة الصومالية. وإذ من الصحيح أن حركة الشباب المجاهدين -كغيرها من الحركات الجهادية حول العالم تنظر إلى اكتساح طالبان للسلطة باعتباره نموذجًا ملهمًا في الصبر على طريق تحقيق الجهاد العالمي. إلا أن توقعات سيطرة الشباب على الحكم مرة أخرى في الصومال على غرار ما حققته طالبان تبدو مبالغة، ويعود ذلك إلى اختلاف طبيعة وبنيتي الحركتين العسكرية والأيدولوجية، فحركة الشباب، إلى جانب تقهقرها العسكري تعاني من أزمة هوية فعلية؛ ولا تزال منقسمة بين قوميين صوماليين يمثل الجهاد بالنسبة لهم شأنًا محليًّا لمجابهة التدخلات الخارجية، وعناصر جهاديين دوليين. بالإضافة إلى هذا، باتت الحركة تفتقر إلى القاعدة الشعبية التي تؤهلها لحكم مناطق واسعة من الصومال، خصوصا في ظل تقعيد النموذج الفيدرالي الحالي في البلاد. وحاليًّا تنتشر الحركة فقط في المناطق التي لم يتم تقعيد نظام الولايات الفيدرالية بشكل أفقي، وتملا هذا الفراغ عبر تقديم نموذجها من "الحكم الإسلامي". عدا ذلك، فهي تنتهج بتنفيذ تفجيرات انتحارية في جنوب الصومال بدون أي أمل بأن ترقى إلى مهدّد فعلي على وجود الدولة.

إلا أن الفيلة في الغرفة هنا، ليس أن حركة الشباب تشبه نظيرتها الأفغانية: حركة طالبان، وإنما تطابق مشروع بناء الدولة الصومالية مع نموذج بناء الدولة الأفغاني من قبل المشروع الإمبريالي الأميركي لمحاربة "التهديد الإسلامي" أو "الإرهاب"، مع بعض الفروقات الهيكلية. وبالمثال، وإذا أخذنا مؤسسة الجيش الصومالي، وبالمقارنة مع نظيره الأفغاني الذي انهار في غضون أيام معدودة، فيتضح لنا أن الجيش الصومالي أضعف منه في كل المستويات؛ فبقطع النظر أنه أقل بقليل من أعداد الجيش الأفغاني الذي كان يصل 300 ألف فرد، بينما بالمقارنة، يبلغ تعداد الجيش الصومالي 25 ألف جندي فقط: ويتشكلون من القوات الخاصة "دنب"، الذين يصلون إلى 1500 فرد بتدريب أميركي، وقوات "غوروغور" الذين يصلون إلى حوالي 2230 فرد بتدريب تركي. تنضاف إلى ذلك، أن هناك عقوبات دولية على الجيش الصومالي من ناحية التسليح، ولا يملك طائرات هليكوبتر ولا أي طائرات عسكرية أخرى. وبالرغم من كل ذلك، من المستبعد أن تسيطر حركة الشباب مرة أخرى على الحكم، ويعود ذلك إلى بنية الحركة العسكرية والأيديولوجية، ومحدودية فاعليتها أمام واقع الفيدرالية الصومالية الحالي القائم على الأسس العشائرية، وأبعد مدى يمكن أن تذهب إليه الحركة في هذا الاتجاه، هو استفادتها من تفاقم الخلافات السياسية بين الفرقاء السياسيين الصوماليين عبر توسيع عملياتها الانتحارية ومن الاغتيالات السياسية في العاصمة، والجدير أنه في كثير من الأحيان تُستخدم تلك التفجيرات من قبل أطراف داخلية وخارجية غير جهادية.

إن أهم ما تفصح عنه إعادة قراءة ربط الحروب الأميركية على "الإرهاب" أو "التهديد الإسلامي" بالدولة الفاشلة هي أنها وفرت بيئة حاضنة للجهاديين، وكما بينت بعض الأبحاث الميدانية فإن المضايقات والاضطهاد من قبل الجيوش الأجنبية والقوات الأميركية كانت عاملًا رئيسيًّا في التعبئة للتمرد الجهادي في الحالة الأفغانية(3). والأمر الملح في السياق الصومالي، هو أنه تم اختزال مشكلة الصومال من النظام الدولي والإقليمي في احتمالية كونها مأوى للإرهاب، وقدمت الدولة الجارة إثيوبيا منذ بدء الحرب الكونية على الإرهاب نفسها على أنها الراعي الإقليمي الرسمي لتلك الحروب، وكان مليس زيناوي يردد بأن الحرب على الإرهاب هي "هبة الرب من السماء إلى إثيوبيا". بالإضافة أنه ظهر مند سنوات تنافس إقليمي للعسكرة في شرق إفريقيا، وهو أمر لا يمكن بدونه فهم معضلة الحالة الأمنية الصومالية؛ فقد بيّن نموذج جنوب السودان أن هناك عائدًا تجاريًّا من عمليات حفظ السلام، وتنتظر أوغندا، التي لديها العدد الأكبر من الجنود في الصومال فرصة ماثلة هناك لتحقيق طموحاتها الإقليمية في المنافسة العسكرية مع أنغولا وزيمبابوي. ويحتدم هذا التنافس في الساحة الصومالية بطريقة تجعل مشروع بناء الدولة هامشًا تفصيليًّا في خضم مشاريع إقليمية نحو العسْكرة. وليس هنالك مشروع قادر على استيعاب تلك المشاريع المتناقضة أكثر من مشروع محاربة الإرهاب: التعويذة التي وضعتها الولايات المتحدة لبناء الدولة الفاشلة.

هوامش

(1): غير بعيد عن الطرق التي فُهم بها مصطلح (Somalization) في الغرب وربطه بالإرهاب والدولة الفاشلة، ثمة استخدام ظاهر لا يقل حضورًا لمصطلح "الصوملة" في العالم العربي، فمع أحداث الربيع العربي، استخدم الحكام الديكتاتوريون الذين لجأوا بتخيير شعوبهم بين الحروب الأهلية أو البقاء في الحكم مصطلح الصوملة كفزاعة، ونرى هذا في خطب معمر القذافي وعلى عبد الله صالح اليائسة الأخيرة. وفي الآن ذاته، نجد حضورا لافتا للمصطلح في ساحات باقي البلدان الأخرى إما من قبل السياسيين أو الدبلوماسيين وحتى مبعوثي الأمم المتحدة، أو الصحافة ووسائل الإعلام، وكذا وسائل الإعلام الاجتماعية. ويمكنك فقط وضع مفردة الصوملة مع أي بلد عربي آخر، لكي تتفاجأ كم المواطنين العرب الذين يلهجون بأنهم لا يريدون أن "يتحولوا إلى مثل الصومال"، أو الذين يندبون حظهم بأنهم "صاروا مثل الصومال". ومع أن أوضاع بعض تلك البلدان ليست أحسن من الصومال، إلا أن مركب العنصرية تجاه الآخر والجهل به يعلب دورًا بهذا الشيوع الأخرق للاستخدام الخطابي للمفردة. وجدير بالذكر، أنه ثمة من يحاول من الضفة الصومالية في إعادة اختراع المصطلح وتحويله إلى مفردة إيجابية تشير الانبعاث من رُكام الحرب الأهلية. ينظر: Ibraahin Abdirahman Mukhta, The Evolution of the 'Somalization' Concept.

(2): يوضح كتاب "داخل حركة الشباب: التاريخ السرّي لأقوى حليف للقاعدة" للصحافيين دان جوزيف وهارون معروف (الصادر عن إنديانا يونيفرستي برس؛ 2018) كيف أن سياسات الولايات المتحدة نحو الصومال، قادت إلى ولادة التطرف العنيف الذي تمثل بإعلان حركة الشباب المجاهدين، فالتدخل العسكري الإثيوبي في الصومال، شكل نقطة تحول في اكتساح الخطاب الجهادي، فالمحاكم الإسلامية لم تكن أكثر من مجرد تكتلات صغيرة من الميليشيات التي تسعى إلى تطبيق الشرعية الإسلامية، وتوفر الخدمات الاجتماعية في المناطق التي يسيطرون عليها، وقام رجال الأعمال المحليون بتمويلهم ودعمهم، مما سمح "لاتحاد المحاكم الإسلامية" بشراء أسلحة لمواجهة أمراء الحرب. ونجحوا بوقت وجيز باستعادة مظاهر النظام والاستقرار في مقديشو، وبالطبع كان ذلك محل تقدر كبير من السكان المحليين. إلا أن إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، التي كانت تخوض حرب عالمية ضد الإرهاب، اعتبرت اتحاد المحاكم تهديدًا إسلاميًّا قادمًا من القرن الإفريقي. وبعد زيارة قام بها للمنطقة الجنرال جون أبيزيد، رئيس القيادة المركزية الأميركية آنذاك (Centcom)، أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لإثيوبيا لاجتياح الصومال في عام 2006، واتسم الغزو الإثيوبي بوحشية عشوائية ضد المدنيين الصوماليين. ينظر:

Dan Joseph and Harun Maruf, Inside Al-Shabaab: The Secret History of Al-Qaeda's Most Powerful Ally. Indiana University Press, October 2018.

(3): يبيّن أنطونيو جوستوزي في عمله الميداني "طالبان في الحرب 2001 – 2018" هذا الموضوع بتفصيل: ينظر:

Antonio Giustozzi, The Taliban at War: 2001 – 2018, Published to Oxford Scholarship Online: February 2020.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬