في ظهيرة يوم قائظ من أيام آب عام 1965 ظهر كائن غريب في مسجد الهويدر. الراوي الوحيد هو الملّا لقمان الذي تخلف عن تشييع جنازة العالم محمد صالح الحاج محمد بيك الشيباني مشيًا على الأقدام إلى بعقوبة، بسبب رضّ في قدمه اليسرى الليلة الفائتة، بعد أن تدحرج من السلم جرّاء دفعة قوية من قبل أحد الملائكة، عقوبة على نسيان النحنحة بعد التبول من أجل لفظ آخر قطرات البول التي قد تفسد الوضوء. الملا لقمان هو من يؤم بالمصلين يوميًّا مثل هذا الوقت. يصف ما شاهد: رأس بهيئة مثلث له عين واحدة كبيرة في الوسط وملامح غير واضحة كأنها مزيج بين الدخان والضوء، تتحرك بشكل هلامي بحيث يصعب الإمساك بتلابيب الصورة. الرأس نزل من السماء إلى باحة المسجد المركزية ثم تجول في المسجد. كأنه يمشي ولكن أجزاء الجسم الأخرى غير مرئية. حين وصل المنبر ارتفع فوقه ثم نزل من الجهة الأخرى وواصل طريقه ملاصقًا للجدران غير عابئًا بي. خرج من نفس الباب ثم قفز من خلال نفس الباحة المركزية إلى الأعلى. لقد لاحظ السيد لقمان ارتفاع حرارة المسجد عند مرور الكائن المخيف. لقد أكمل السيد صلاة الظهر ثم أردفها بركعتين طلبًا للنجاة، إذ اعتقد أن ما رآه رسالة من الله قد تحمل إنذارًا بسبب ابتعاد الشباب عن الصلاة. لقد تذكر الملّا لقمان المرات الكثيرة التي خرج له الجن فيها حماية أو توبيخًا ولكن لم ير هكذا جن مستعجل، غير مكترث وغير واضح وبعيد عن مركز المسجد وكأنه يحمل رسالة من الله تقول: إن لم تقتربوا مني فلن أكون لكم سندًا أو منكم قريبًا. الحرارة المنبعثة من الكائن كانت تشبه حرارة الإيمان ولكن ممكن أن تكون تذكيرًا بجهنم أيضًا. الملّا لم ينم تلك الليلة. يضرب أخماس بأسداس. يبحث عن تفسير للحدث الجلل: وقت الظهور، شكل الظهور ومدّته، وحرارة الكائن الغريب، وعدم اكتراثه، ووجهه المثلث، وامتزاج الدخان بالضوء. ثم لماذا ظهر له وليس لغيره؟ لربما لأنه موضع ثقة الناس الذين سيصدقونه، وهي أكثر الطرق فعالية لتمرير رسالة الله. قبل بزوغ الفجر توجه إلى المسجد لرفع الأذان والصلاة. انتظر الكائن الغريب في غرفة الوضوء وكم تمنى أن يخرج لكي يسأله ويتمعن بتفاصيله عسى ألا يكون مستعجلًا هذه المرة. أفرغ الملا مثانته ثم تنحنح وتأكد من الإفراغ التام الذي كلفه عدمه رض كاحل القدم والذي أقعده في المسجد وكأن الله دبر هذا التسلسل من الأحداث لكي يريه رسالته عبر الكائن الضوئي. أنهى الملا لقمان صلاته ثم جلس يقرأ الدعاء.
جنازة العالم الشيباني كانت فريدة في تاريخ القرية. هو العالم المعتبر والذي زكّته المرجعية في النجف وكان يطلب مشورته الدينية أناس يقصدونه من كل محافظة ديالى. كان هادئًا محتشمًا رزينًا متواضعًا وقدوة في العلم والعبادة. لقد فجعت القرية بفقدانه واتشحت جدرانها بالسواد لعدة أسابيع. رغم أن حرارة الصيف تذيب قير الشارع، لم يتردد الصغير والكبير في المشي وراء جنازته 5 كم إلى بعقوبة هاتفًا: هذا عزاك يا عزيز الهادي. بعد وصول الجثمان إلى حسينية بعقوبة والصلاة عليه من قبل المرجع عبد الكريم المدني، توجه حشد من السيارات إلى النجف لكي يدفن في مقبرة وادي السلام. حين مرت الجنازة أمام بيت عزيز وكان عمره السادسة، مشى حافيًا خلف الجنازة وشعر بنار القير تحرق قدميه فرجع إلى البيت بعد عدة أمتار. تورمت قدماه ليومين.
حين عاد الجمع المعزي في اليوم الثاني، قص الملا لقمان قصة الكائن العجيب وكان يقسم في بداية كل جملة على صحة ما يقول "الله شاهد ووكيل". لقد تبرع أحد الشباب بالصعود إلى سطح الجامع للبحث عن أثر. لم يجد شيئًا سوى أن أحد أركان الجدار قد تهدم وتساقطت منها بعض اللبنات. الملا استبشر واعتبرها تأكيدًا لكلامه. بين مصدق وشاك تفرق الجمع بعد الصلاة. عم الخوف قلوب المصلين وكانت المعلومات التي أدلى بها الملا لقمان غير كافية لبلورة معنى لما حدث. لم يتجرأ أحد على تكذيب السيد فهو الرجل المؤمن التقي. ثم ما هي مصلحته في تلفيق هكذا حكاية؟ التفكير بالحدث حرم الأكثرية من نومة الظهر. بعد استكان شاي سنگين دخل الحاج عباس في صفنة. أم فاضل سألته إن كان قد تضايق من أحد فليس من عادته أن ينقطع عن الحديث بعد القيلولة. قال: الله الستار أم فاضل. رب العالمين بلغ ملا شاكر رسالة الله الستار منها. ثم تنحنح وقام ولبس حذاءه وقال: خل نفتهم من الملا لقمان شلازم نسوي. في أمان الله.
في الجامع وبعد صلاة المغرب اجتمع عدد من المصلين للبحث في الموضوع ولسماع المزيد من الملا. قال الملا لقمان: يا جماعة، بين الحين والآخر، رب العباد يبعث رسائل لعباده بمثابة "جرّة إذن" حتى يديرون بالهم. مرة بهيئة نجمة أم ذويل ومرة بهيئة فيضان وأخرى بشكل طاعون. المهم العبد لازم يعرف كيف يفسرها ويستخلص الدروس والعبر منها. قلة الدين هي السبب يا جماعة. وإن لم ننتبه فسوف يحولنا سبحانه إلى "شذر مذر" كما عاد وثمود. الدخان والضوء في وجه المرسل هاي من علامات الملائكة إذ صنعها الله من نار. الشكل المثلث للوجه يعني الانتظام والنظام الذي خلق الله وفق قوانينه هذا الكون الشاسع. حجي كاظم السلطان قال: يا سبحان الله. على كل شيء قدير. علي ابن بندة كان أصغر واحد وهو في الرابعة عشر جالس مع أبيه وكان في الثاني متوسط. المثلث ذكّره بالهندسة التي لم يستطع أن يبلغ علامة النجاح فيها. لقد رسب بسبب عدم حفظ النسبة الثابتة ولذلك لم يستطع حساب مساحة الدائرة أو محيطها. ظن أن الله قد شاركه في خصلة. قال بعد لحظات من التفكير ونظر في وجه الملا لقمان: ملا ليش مثلث؟ يعني سبحانه هم ما يحب الدوائر والمربعات؟ الملا تفاجأ ثم قال: الله أعلم ابني. الحاج كاظم السلطان سأل وعلى وجهه علامات الحيرة والخوف: يعني ملا أشلازم نسوي؟ أجاب الملا: أولًا لازم نبلغ الناس بما حصل. ثانيًا: نرشد الناس إلى الدين وخاصة الصلاة. وثالثًا راح انصلي صلاة إضافية لكي يغفر لنا ذنوبنا. نهض الجميع للوضوء تحضيرًا للصلاة.
القرية كانت تعج بالتيارات السياسية والفكرية وأصبحت قصة الملا شاكر الموضوع الشاغل لسكانها وكل يفسر الحدث وفقًا لميوله الفكرية.
ثابت زيدان الشيوعي الذي أخذ نصيبه من التعذيب بعد انقلاب 1963 فسر الأمور لمجموعة من الشباب الذين حوله في مقهى الحجي: لا يوجد بشر بوجه مثلث وبدون جسد وينزل ثم يصعد من وإلى السماء. يبدو أن الملا كان تحت تأثير مسكن الألم الذي وصفه المضمد له لعلاج "رجله المفصوخة". الأدوية ممكن أن تسبب هلاوس. علق أحد الشباب: هو الدين نفسه أفيون الشعوب. لربما أخذ السيد جرعة كبيرة من الدين بسبب حزنه على وفاة العالم. الكدر ممكن أن يسبب احتصار وهلاوس. أجاب ثابت: الحقيقة موضوعية دائمًا رغم كونها نسبية. ما عداها فهو ذاتي. سأل حمادة: كيف نعرف الحقيقة، أجاب ثابت: يعني أولًا لازم يشوفها أكثر من شخص. لم ير الكائن الخرافي غير الملا. ولماذا لم يأت الشبح إلا بغياب الشهود؟ ثانيًا الحقيقة قابلة للبرهان. يعني لكي تثبت أن الهواء ضروري للحياة، أحبس بزونة في إناء خال من الهواء فسوف تموت. ثابت كان معلم علوم. حمادة قال: كيف نفرغ الإناء من الهواء؟ قال ثابت: اشعل بي شمعة حتى تستهلك الأوكسجين كلّه. طيب كيف يثبت الملا شاكر ما شاهد؟ بعدين البرهان العقلي: يعني كيف تصدق أن رجلًا وجهه يشبه الدخان والضوء؟ يعني شنو هو فانوس أبو الفتيلة؟ ما هو الفرق بينه وبين ما يصفه الناس من رؤية الجن والملائكة والعفاريت؟ كانت بيبيتي تقول إنها ترى إثنين من الجن السود فجر كل يوم عند الوضوء يمسكان بيديها حين تنزل السلم للوضوء لمنعها من التعثر والسقوط. في أحد الأيام سقطت على وجهها ونزفت كثيرًا لحين ظهور جني صغير أوقف النزيف بنفختين على الجرح ثم اعتذر لانشغال أبيه ذلك الصباح بقضية أهم إذ أنقذ حياة طفل كاد أن يغرق. قالت الحاجة: عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم. لربما لولا السقوط لحصل ما هو أدهى كالسقوط من السطح. استيقظت معها يومًا متحمسًا للحديث مع الجن. ولم أر شيئًا. قالت لي: إذا لم تؤمن بهما سوف لن ترهما. إذًا الإيمان ضروري لصناعة الوهم والهلوسة. أوروبا كانت غارقة بهذا الوحل الغيبي لقرون ولم تتقدم إلا بالعلم. في البداية كانت الكنيسة مسيطرة وطالما قتلت واضطهدت العلماء ولكن أخيرًا انتصر الأحرار واستبعدوا الكنيسة من الحكم العلماني. لم ينكروا حق العبادة ولكن لا يمكن استخدام الدين في الحكم فهو غير قادر على التصدي لتعقيدات الحياة المتغيرة دائمًا. ثم إن دخول العفاريت إلى حلبة العلم يفسده. لماذا تضاعف عمر الإنسان خلال قرن؟ هل هو بسبب الأدعية والجن؟ فهي موجودة أبد الدهر. إنما بسبب اكتشاف البنسلين والتخدير واللقاحات ومعرفة أسباب الأمراض وعلاجها. لماذا انتصرت أوروبا في الحرب العالمية؟ لأنها صنعت أسلحة متطورة استنادًا إلى العلم في الوقت الذي كنا نحن فيه مشغولين في دراسة أحكام النكاح والطمث ومحاولات تفسير حركات الجن وتحليل أكل لحمه عند الضرورة. ليث عبادة كان قارئًا جيدًا وغير منتم سياسيًّا حصل وإن كان جالسًاً على تخت قريب. قال أستاذ الدولة الإسلامية في بغداد والأندلس وصلت أرقى درجات الاكتشاف والتقدم والتسامح وكان دينها الرسمي إسلاميًّا. لم يمنعها الجن من أداء دورها الخدمي. ثم أن الغرب حتى بعد موت الله كما قال نيتشه ودخول الحداثة قتلوا مليون جزائري وعاثوا في الهند خرابًا. أنظر كيف يصادرون ثروات الشعوب. أمامك فيتنام وكمبوديا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. حاول المعلم ثابت أن يجمع أفكاره. تنحنح وقال: إن أسباب القوة والضعف ليست دينية بل اقتصادية وإن الدين غالبًا ما يستخدم كأداة بيد الأقوى. الكنيسة لم تقف ضد التمييز العنصري في أميركا بل إن الاإنجيل يأمر العبد أن يطيع أوامر سيده. لكن حركات الزنج الملتهبة في أميركا أيضًا قادها رجل دين اسمه مارتن لوثر كينغ. عند صعود الدولة الإسلامية في بغداد والأندلس والشام ضُيّق على أصحاب العقول الدينية المتطرفة مثل ابن تيمية الذي مات في السجن لكون الدولة هي أداة سياسية لا يمكن أن يقف الدين في طريقها. فقط حين تتخلف الشعوب تجتر ما في جوفها من خرافات وتقضي وقتها بإحصاء الملائكة. ألم يكفر ابن تيمية ابن رشد صاحب الفلسفة العقلية والذي استهدى الغرب بها مثل شرارة اندلع منها لهيب النهضة الأوربية؟
وصل الملاك الشبح بيته متأخرًا. سألته شعلة الضوء في منزله: لماذا تأخرت؟ أجابها: أولًا وأنا في صحني الطائر أتنزه في فضاء الأرض شاهدت عمودًا من الضوء مرتفعًا (يقصد منارة جامع الهويدر). فضولي دفعني لتفحصه. نزلت على مقربة ثم هبطت بنفسي إلى مكان أدنى. دخلت في مكان ضيق (الجامع). رائحة البخور أسكرتني. كدت أن أضل طريقي. وجدت نملة على رأسها عرقچين قرب ما يشبه الكرسي المرتفع (سيد لقمان على المنبر). كدت أن أسحقهما بقدمي ولكن عبرت من فوقهما. رجعت إلى مركبتي. ضربت الحائط من دوخة البخور ثم انطلقت بسرعة الضوء. بعد سنة ضوئية أجبرني على تغيير طريقي انفجار كوني هائل فيه انفلق نجم إلى أربع. ذلك أخرني عن الوصول بشهر ضوئي. المهم أنا لم أفهم الكثير من تفاصيل رحلتي. أنا بحاجة إلى راحة. غدًا أتعشى مع النجوم ونشرب الضوء بكل نشوة ابتهاجًا بعودتي من عالم الخيال.
تنبيه: الكائن الكوني كان مصنوعاً من مادة لا تراها عيون البشر ما عدا وجهه المصنوع من الضوء والدخان.
[اللوحة للفنان محمد مهر الدين].