محمد جبعيتي
(دار الآداب، بيروت، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
محمد جبعيتي (م. ج.): بدأ كل شيء من عبارة لمعت في رأسي: "حدثَ شيءٌ مرعب". ثم سمعتها بصوت طفلة، كانت مختبئة في عمق خزانة. استغرقت بعدها عامًا في التخطيط، قرأت عشرات الكتب، وشاهدت عشرات الأفلام الوثائقية، ثم حين حانت ساعة الكتابة، وجدتني أنقاد لصور وأصوات ورغبات وأضغاث أحلام: الأرقام 9 6 3، جنود، انفجارات، بحر، سلحفاة، قارب، مدينة عصريّة، مصحة، غابة. شعرت برغبة كبيرة في توظيفها داخل نص مكثف رمزيّ، يحتفي بالمخيلة، ويبوح، رغم إيجازه، بأكبر قدر من الأفكار والمشاعر، بتجريب تقنياتٍ سردية حديثة.
النص المنجز يختلف تمامًا عن المخطط. كانت الكتابة غامضة، مرّت بمراحل من التعديل وإعادة الصياغة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. ج.): عالم متخيل شديد التناقض، فيه الجمال والإبداع والحرب وهجراتٍ لا تنتهي. الثيمة الرئيسية هي السؤال. ما الخوف؟ ما الهوية؟ ما الحرب؟ ما الجسد؟ ما الإنسان في زمن التوحش؟ لا يستيقظ شخص ويقول: أريد أن أكون جلادًا أو ضحيّة. أريد أن أكون لاجئًا أو جثة في بحر. ربما صرنا ما نخافه، فالخوف بنّاء عظيم. وهو أيضًا عالم من يجلسون في المقاعد الخلفية، غير المسموعين رغم صراخهم المتواصل.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(م. ج.): سيظل، دائمًا، كتابي الأخير رواية. لا أتخيلني أكتب في غيرها، مع أنني أقرأ في الشعر والقصص القصيرة. مأخوذ بعوالمها السحرية، وقدرتها على الاكتشاف، ومحاولاتها المستمرة لفهم الإنسان وتعريف مكانه في هذا العالم، فكون الرواية مشغولة بأسئلة الإنسان وهواجسه، فهي الجنس الأدبي الأمثل لطرح أسئلتي.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(م. ج.): إخفاء صوتي الخاص، وسرد الأحداث على ألسنة نساء، من أجيال متفاوتة، خصوصًا في لحظات حميمية. تحرّي الدقة والاقتراب قدر الإمكان من تجارب الحمل، والمخاض، والولادة، والأمومة، والبلوغ، والاغتصاب، والانفصال. وما يصاحبها من مشاعر وتشوهات عميقة. حاولت ضبط مقادير الرواية: غموض بلا إبهام، ذكاء بلا تعقيد، تجريب بلا إفراط، انفتاح على التأويل، حكاية رئيسة من دون زمان أو مكان أو أسماء شخصيات، وفي الوقت نفسه ألا تكون عائمة في الهواء.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. ج.): في "عالم 9" تلمست شكل الرواية التي أطمح لكتابتها. وهي خاتمة مرحلة في مسيرتي، سيعقبها تقييم وتوقف عن الكتابة قد يطول!
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(م. ج.): قرأت "المسخ" لكافكا، و"1984" لجورج أورويل، و "التحولات" لأوفيد. كما عدت للكتب التي تتحدث عن اللجوء والحروب الأهلية.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(م. ج.): عادة لا أفكر في قارئ محدد. هذه المرة، فكرت بتلامذتي، بالطفلة التي لم أنجبها، بالسلاحف!
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(م. ج.): أفكار تلح عليّ بكتابتها، لكنها مؤجلة.
مقتطف من الرواية
بعد أن شاءت الصدفة، استطاع الهاربون الخروج سالمين من الغابات الموحشة، والنجاة من الغرق في بحر متخم بالجثث. حاولوا عبور الحدود عبر السياج، لكنهم اكتشفوا انتظار الجنود لهم في الجانب الآخر. اختبأوا بين النباتات الطويلة وراء جذوع الأشجار. اختلفوا فيما بينهم.. جماعة فضَّلت تسليم نفسها، وجماعة قررت البحث عن طريقة أخرى للعبور.
خيَّموا في حديقة. بعد يومين، وصل إلى المخيم عاملون في هيئات الإغاثة والأمم المتحدة. أعطوهم أدوية وأغطية وقدورًا للطعام. أشعلت "3" كومة قش وحطب لأن درجات الحرارة منخفضة، وبدا أن الصقيع يتسرب من مساماتها نافذًا تحت جلدها. فكرت في ابنتها التي ينهشها البرد محاولةً تدفئتها بكل الطرق. مسحت بعينيها الغائمتين قمم الجبال المغطاة بالثلوج. ضمت طفلتها تحت غطاء سميك، لم تنتبه كم مر من الوقت عليها جالسة تنقل نظرها بين الثلج والجمر. طقس صقيعي لم تعرف مثله في حياتها. برد بلادها مزحة مقارنة بما تشعر به في هذا العراء. درجات الحرارة تحت الصفر، الثلوج تحيط بها.
أحست بشخص يقترب من الخيمة. كانت السماء مظلمة بلا نجوم، والمكان غارق في عتمة حالكة. تسارعت نبضات قلبها. ترقبت بحذر. وقف أمامها رجل طويل بجسد رياضي، تحت أسمال رثة تحركها الريح. مد نحوها طبقًا، "إنه حساء ساخن، يحتاجه جسدك في مثل هذا الجو". عندما سمعته يذكر جسدها، سرت رعشة مخيفة في عروقها. أجفلت منه، ورفضت أخذ الحساء. طلب أن تعطيه لابنتها، فكرت إن رفضت فستبدو أنانية في عينيّ الغريب. أخبرها بفكرته لاجتياز الحدود، وأكد عليها بأن الأمر لن ينجح إلا بموافقتها. ضيقت عينيها باستغراب. حاولت قراءة ملامحه، إلا أن وجهه كان غارقًا في الظلام. بقيت صامتة، ثم استدارات مشيرة بيدها. لا تريد الإصغاء خشية أن يخدعها. لم يعد لديها ثقة بأي رجل. استجمع الغريب قوته، انحنى، مد رأسه نحو الأمام. ضمَّ كلتا يديه كأنه يشرع في صلاة. "أرجوك، أصغي إلي". شعرت بصدقه. لوهلة خيّل إليها أنها ترى زوجها. شعور غريب مفاجئ انتابها. كانت تفوح منه روائح طين وعرق وروث حيوانات. قرفص على ركبتيه باسطًا كفين ثقيلتين وجافتين.
"أتريدين عبور الحدود؟"
هزت رأسها.
"لا يمكن اجتياز السياج الأمني مع كل تلك التجهيزات العسكرية. خطرت لنا فكرة، إنها أملنا الوحيد في الوصول. لاحظ موظفو منظمات إغاثة اللاجئين أن حرس الحدود لا يوقفون مواكب الزفاف، وبذلك تمر عن نقاط الأمن دون أن تتعرض للتفتيش. سيساعدنا بعض المتطوعين الأجانب حملة الجوازات، على الرغم مما فيها من مخاطرة، فقد تصل عقوبة تهريب اللاجئين إلى السجن عشر سنوات. سنؤدي مسرحية صغيرة، نلعب فيها دور عروسين. لا تقلقي. لن يتجاوز الأمر ساعات. إنه زواج مزيف لنمر عن الحدود، بعدها سيعود كل منا إلى حياته الطبيعية".
شعرت بأنفاسه تمر سريعًا من مسامات جلدها، وتنفذ إلى صدرها، لتستقر قريبًا من قلبها المتعب. تذكرته. لفت انتباهها أكثر من مرة. اسمه "ألِف"، كان بمثابة قائد للمجموعة، أخذ عدة قرارات مصيرية، كما ساعد النساء والأطفال في اجتياز الغابات.
في القرية الحدودية، صباح يوم أحد ذهبت إلى الصالون، قصت شعرها، وضعت المكياج، ارتدت فستان زفاف أبيض. انتظرها عند باب الكنيسة مرتديًا بدلة سوداء، وقميصًا أبيض، وربطة عنق. حضر اللاجئون بكامل أناقتهم. بعد ساعتين، كانت السيارات المزينة بالورود والشرائط تقترب من الحدود.
"لست متفائلة. لا يحالفني الحظ في أغلب الأحيان" قالت بشفتين مرتجفتين. كانت خائفة من انكشاف أمرهم، ومن الرجل الذي يجلس بجانبها. فاجأه كلامها. بدت منطوية على نفسها، لا ترغب في الحديث، تعطيه ظهرها، ولا تلتفت إليه. حركة جسدها بعثت الانطباع أنها لا ترغب بأي اتصال مع الآخرين. قال لها: "لا تفقدي الأمل، لم يتبق شيء على الوصول، نقطة حدودية.. سنكون هناك" همست إليه وهي تنظر إلى السيارات عبر النافذة: "ليس لدي أمل، العالم تركني فريسة للوحوش، إنه يضعني في اختبار لا أعرف مغزاه" كانت تقول أفكاره، يعرف أنها على حق، غير أنه أنكر حديثها. أغلق أذنيه عن سماع أسئلتها. من المخيف البوح أننا لسنا أحرارًا، مجرد بائسين في نص لا نحبه، ولا يد لنا في صنعه.
واصلت بشهية كبيرة للكلام: "أنا مشوشة، لا شيء غير الأفكار في رأسي، لا شيء سوى الضجيج.. أصوات.. لا أدري ما الحقيقة" لاحظ أنها تشبهه، لا تعرف المداهنة. إما الفردوس أو الجحيم. لا حلول وسطى، ولا خيارات. أبيض أو أسود. طريقان لا ثالث لهما. نظرت إلى الخارج. بدا العالم جميلًا. لكن، هل من أحد يعرف أين ينتهي؟ ترغب في النظر إليه من بعيد. لا تريد العيش فيه. موحش وغريب، لكنه فاتن. سحره في التناقضات، أجمل ببعده مثل قمر أزرق. الحزن أضفى عليها جمالًا خاصًّا. رآها جميلة وناضجة. لمس عمق التجربة الأليمة التي مرت بها، أعجبته، قرر أن يتقرب منها. صام طويلًا عن النساء، والآن يريد امرأة في حياته. عادت ذاكرتها إلى الوراء. تذكرت حفل زفافها: الحناء، ملابسها المطرزة، الرقص، الموسيقى الشعبية.
أحست أنها تخون زوجها القتيل، فتألمت ذارفة الدموع بصمت. أدركت أن الأسوار التي شيدتها أمام الرجال بدأت تنهار. لم تفكر في رجل منذ أربع سنوات. كانت تراهم متحرشين ومغتصبين، ترفض اقتراب أحدهم منها. شيء ما تغير، تشعر به ولا تستطيع التعبير عنه. خدر لذيذ سرى في أوصالها بسبب رجل عابر يلعب دور العريس. بدا لها الأمر جديًّا. لأول مرة تفكر في الزواج منذ وفاة زوجها. تعرف أنه حقها كامرأة، إنها بحاجة إلى رجل في حياتها، إلا أن الحادثة الوحشية ما زالت تخيم فوقها، تعتبر الرجال ذئابًا في غابة. منذ ذلك الوقت تخافهم، يذكرونها بالضابط الذي استباح جسدها. لم تتصور أن يلمسها رجل، تشعر بالاشمئزاز من رائحة الذكورة. كيف ستتزوج وتعيش حياة طبيعية؟ ما الذي سيضمن لها أن الرجل الذي تحبه، لن يكشر يومًا عن أنيابه؟
كانت السماء تمطر بين الفينة والأخرى. واصل موكب الزفاف شق طريقه طوال ساعتين. تحركت السيارات بسرعة عادية. لم يوقفها أي حاجز حتى وصلت نقطة الحدود. أوقف الجنود السيارت، دققوا في أوراق السيارة الأولى. بقيت "3" ساكنة لدقائق، قبل أن تشعر بضيق في التنفس. أخرجت رأسها من النافذة، راقبت حرس الحدود. همست لنفسها: "أفضل الموت على الرجوع" ارتجفت خوفًا. لا تريد الموت عند الحدود أو الانتهاء في السجن. تحلم بمستقبل أفضل لطفلتها. لم ترتكب جرمًا، بحثت عن الأمان والعيش بكرامة، لو وجدتهما في بلدها لما اضطرت للرحيل. نظر الجميع إلى ساعاتهم، تهامسوا بأصوات خفيضة. بدا الوقت ثقيلًا. أخيرًا تحرك الموكب قاطعًا الحدود. لم تصدق "3" أنها صارت في البلاد التي حلمت بها. ضحكت من قلبها للمرة الأولى منذ سنوات.
في دائرة اللجوء، أخذوا ما احتفظت به من وثائق. سألوها عن أسباب لجوئها. حكت لموظف دائرة الهجرة عن القتل والاغتصاب وحرق قريتها. ظنت أن قصتها استثنائية، إلا أن الموظف نظر إليها ببرود، أسمعها بعض عبارات المواساة، كان واضحًا أنه اعتاد سماع قصص المهاجرين المأساوية. بعدها عُرضت على لجنة طبية ونفسية للتأكد من أنها ضحية اغتصاب، على إثره، تقرر دائرة الهجرة منحها حق اللجوء من عدمه. ملفها المعنون بالهجرة والاغتصاب ظل مركونًا في الأدراج فترة طويلة. بعد حوالي ثلاثة أيام، أخدوها إلى مخيم في أقصى الشمال، حيث الجو أشد برودة وأكثر عزلة. أنزلوها في مبنى طوبه أحمر، أشبه بالسجن، يحتوي عشرات الغرف، الغرفة الواحدة تتسع لأربعة أشخاص. بقيت "3" معتكفة أشهرًا في المخيم، تعيش تجربة الاعتقال، مع لاجئين غرباء من جنسيات مختلفة، هربوا من بلاد لم تسمع بها، غارقة في الحروب والمجاعات، يتحدثون لغات لا تفهمها. كل لاجئ عالم معزول عن البقية، والاندماج مسألة معقدة. لم تجد "3" شخصًا تثق به، وتتحدث معه براحة، بقيت، كعادتها، وحيدة.
بعد طول انتظار، وصلتها رسالة من دائرة الهجرة، تفيدها بضرورة الحضور لإجراء مقابلة رسمية. بعد ساعات من الأسئلة، تخللها فترة استراحة، انتهت مقابلتها، لتغادر دائرة الهجرة عائدة إلى المخيم. أصبحت حياتها متوقفة بين المكانين. تنتظر انتهاء ملفها لتنتقل إلى إحدى المدن، وتودع مخيم اللاجئين.
تحتمل الضجر والخوف والعزلة. الانتظار موت بطيء، أرادت أن ترحل في أقرب فرصة. المخيم تحول إلى سجن حقيقي. مكان كئيب، رائحته كريهة، لا تفعل فيه غير الأكل والذهاب إلى الحمام.
اللاجئ يحلم بالأمان، وكل ما يتمناه الحصول على الإقامة.