يتغزّل الغربي بإنجازاته الحضارية ومخترعاته العصرية ويتفنّن في وصفها، بل أحيانًا يعتبرها، بالرغم من نفعيتها، أعمالًا فنية تتصف بجماليات وإيحاءات شعرية، ويمكن أن يحولها إلى أساطير تحل مكان الأساطير والجماليات القديمة، بما أن التطور المذهل يغير أنماط الحياة ورؤاها السائدة. أما العربي الذي حوّلتْهُ السياسة إلى رقمٍ في سوق الاستهلاك، وإلى نيزك يتهاوى في فلك السلطة، والذي ما يزال متورطًا في علاقة مريبة مع موروثه، تستعصي أحيانًا على الفهم، فقد أخذ من الحداثة آلاتها ونسي حاملها الفكري وما أدى إلى ولادتها، أي أنه في سياق الحداثة ليس إلا سوقًا لمنجزاتها تحت سلطة مُنفّذة لسياساتها الاقتصادية النيوليبرالية المدمرة، ولهذا تأتينا السلعة لا كي نستمتع بها كمُنْجَز حضاري بل كي يتأكد من خلالها الخلل القائم في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتأتي في الغالب مفروضة من الأعلى ومحكومة بشروط، وهي بالرغم من أنها مرتبطة بإنتاج ضخم وبكميات هائلة كافية لإغراق أسواق العالم، وبعقيدة تحويل البلدان إلى أسواق مفتوحة والشعوب إلى أرقام استهلاكية إلا أن منها، وخاصة السيارات، ما يأتي إلى بعض الدول، ومنها سوريا، ويُوزَّع بالقطارة، والأكثر فخامة فيه حكر على القلة، والتي هي مزيج من المسؤولين والأثرياء والتجار المتلاعبين والفاسدين والخارجين عن القانون، وأبنائهم الفاسدين مثلهم، والذين فيما شعبهم يمر في أسوأ ظروف اقتصادية في تاريخه الحديث، نراهم يركبون أغلى السيارات وإلى جانبهم نساء من الطينة نفسها.
في طفولتي كنت أرى في "حي العمارة" في بلدة جبلة على الساحل السوري سيارات المرسيدس الشبح والبي إم دبليو وأحدث موديلات سيارات البيجو وسيارات الدفع الرباعي والرانج روفر والشيفروليه والسيارات الصيفية المكشوفة يقودها مراهقون كان سبب جلوسهم خلف المقود هو إما أن آباءهم أو أقرباءهم رجال سلطة أو مقربون من السلطة، وإما أن لهم صلة ما بها عرفوا كيف يستغلونها ويفرضون من خلالها أنفسهم على الشارع في صورة عنفية محمولة في أحدث السيارات العصرية. حدث هذا (وما يزال) في أواخر السبعينيات وفي الثمانينيات والتسعينيات في شوارع مدننا، وكانت هذه السيارات تمر بكامل جبروتها وبأبوازها المعدنية السوداء غالبًا، والبيضاء أو الحمراء أحيانًا، وبفوّهات بنادقها الروسية المعروضة قصدًا وهي مرفوعة من النوافذ، وحين يترجل أحدهم من السيارة، يكون متمنطقًا أحدث أنواع المسدسات، ويبدو كما لو أنه في طريقه إلى موقع تصوير فيلم ويسترن أو آكشن.
السيارة المقدسة
قال الشاعر السويدي توماس ترانسترومر في إحدى قصائده إن الغربيين ينظرون إلى السيارة كأنها أمهم، ومدح رولان بارت في مقالة بعنوان "دي إس" مضمنة في كتابه "أساطير" سيارة الستروين الفرنسية، بأنها "هابطة من السماء"، وبأنها "إلهة". بماذا نصف السيارة في شوارعنا؟ في شوارعنا يجلس السائق خلف العجلة وينطلق، لا كأنه يقود سيارة بل كأنه يقود دولة، وإذا كانت السيارة، في الرؤية البارتية، تُلامَس وتُعايَن وتُفْحص وتتمتع بنعومة فائقة وانسيابية (وعبْر هذا تُحاكي عملية القيادة) فهي في الشارع السوري تُركْب في حالات معينة كأنها حيوان مفترس مُفْلت في غابة. هنا يصبح فعل قيادة السيارة فعلًا سلطويًّا مَرَضيًّا، يولّد لديك شعورًا بالأهمية والسيطرة وبأنه لا أحد قادر على إيقافك، وبوسعك أن تفعل ما تشاء، غير أنك لا تستطيع أن تلمس من خلال هذا الفعل المستقبل، بحسب تعبير رولان بارت، ولا يُشْعرك بعدم أهميتك، بما أن السيارات مرتبطة أيضًا بالتلوث والاختناقات المرورية وإحصاءات ضحايا الحوادث، فهذا النوع من سائقي السيارات لن يقف لك إذا أردْتَ عبورَ الشارع، حتى لو كنت عاجزًا أو عجوزًا، أنت الذي يجب أن تنتظر، وإذا دهسكَ لن يجرؤ أحد على محاسبته، كما أن بلدتي كلها لم يكن فيها إشارات مرور، بالتالي إن عبور الشارع يعتمد على أعين مدربة جيدًا، وإلا فإنك ستصبح طي النسيان، بعد أن تعبر الدواليب على جثتك.
تُنتج السيارة في الغرب من أجل الاستهلاك، لكنها لا تُطْرح في الأسواق من أجل المستهلك العادي كما يقول البعض، بل فوق العادي، وإذا كانت لديك وظيفة في سوريا فإن احتمال اقتناء سيارة ليس مستحيلًا (لا أتحدث عن الآن)، إلا أن السيارة لدينا ليست حتى رمزًا للاستهلاك. وإذا كانت السيارة تُطْرح للمستهلك الأعلى من العادي في الغرب فإنها لدينا تُطْرح للمستهلك غير الموجود أساسًا على ضوء دخله الشهري، والذي يجعله يعيش على هامش الاستهلاك، بالتالي يمكن القول إن السيارة رمز لترف سلطوي وطبقي، أي هي "امتياز وليست حقًّا" كما يقول إدواردو غاليانو في كتابه "مدرسة العالم المقلوب رأسًا على عقب". لكنك في سوريا، أو أي دولة عربية أخرى، أنت طرف جوهري في معادلة السيارة، إذا كنت لا تملك ترف ركوبها أو قيادتها فستمتلك الحظ السيء في أن تكون ضحية لسمومها، مما يعني أنك شريك في "ملكيتها" سواء رغبت أم لم ترغب، لكن ملكيتك لها هي لا واعية ولا إرادية وقسرية، مفروضة عليك. بالتالي، إذا كانت السيارة حاجة استهلاكية يعيش ترفها المجتمع البرجوازي الغربي فإن السوري ينسحق أمام حلم السيارة، بالرغم من أنها بالنسبة إليه مرتبطة بالخلاص، وقد تكون إلهة حقيقية يمكن أن تحمله على جناحين مسحورين عبر المدن وتريحه من عناء الانتظار المذلّ في الكراجات.
لا شك أن السيارات الفاخرة، أحدث موديل، والتي كان يقودها مراهقون صغار من أبناء المسؤولين ورجال الأعمال المتحالفين معهم في المدن السورية، بدت بالنسبة لبعض السوريين كأنها "إلهات"، هابطات من السماء، بالمقارنة مع وسائل النقل العام التي ازدادت سوءًا بعد الحرب، وهذه السماء، هي بلا شك سماء السلطة، والترف المقترن بها، أما سواد الشعب فقد كان، بعد انبهاره الأولي، ينظر إلى السيارة الفاخرة بعين السخط، بالتالي إن النظرة البارتية إلى السيارة لا تعمل إطلاقًا في السياق السوري، فأنت لا تتعامل هنا مع معرض تكتسب فيه السلعة المعدنية جمالية المنحوتة، وتُكال لها جمل المديح، التي تصورها كتحفة هابطة من السماء، لأنك هنا أمام ظاهرة مخترقة للسياق الاجتماعي ومتعالية عليه، فحزب البعث الذي ينتمي إليه صغار الكسبة والفلاحون والموظفون والطلاب والعمال، لم يكن في أعين من انتسبوا إليه في مرحلة من المراحل (واعتبروه سفينة خلاص، خاصة أبناء الأرياف السورية) بوابة لركوب سيارات من هذا النوع، إلا إن المسألة تجاوزت كونها مجرد ركوب في سيارة حتى صارت نوعًا من فرض رجولة متماهية مع تأويل خاص وإعادة إنتاج للسلطة، ومع ذكورية صُنعت من جديد كي تَفْرض على الشارع نوعًا من الإرهاب، الذي كان أحد العوامل الكثيرة التي أدت إلى انتفاضة 2011.
ما تقوله السيارة
تحدّث بعض المحللين النفسيين كيف أن نوع السيارة التي يقودها المرء تتحدث عنه، فبالرغم من أن السيارة مرتبطة بحياة الغربي، وبمستوى دخله، وبالشوارع المعبّدة، وبمفهوم المدينة إلا إن هناك أشخاصًا تتحدث السيارة عن عقد نقص تدفعهم إلى التعامل مع الملكية بشكل شره، أما الذين يقودون سياراتهم بشكل جنوني واستعراضي، ويُصْدرون أصواتًا منفرة، فإنهم يبحثون عما يكمل رجولتهم، وخاصة في مجتمعات محرومة من أبسط مقومات الحياة الاستهلاكية المرفهة. وطالعتْنا وسائل الإعلام منذ فترة بأولاد بعض الشخصيات السورية المعروفة يستعرضون مقتنياتهم من السيارات الفاخرة ونساءهم الجميلات في العواصم المالية العالمية أمام الكاميرات، في وقت يعيش فيه السوريون أسوأ وضع اقتصادي في تاريخهم الحديث.
يرتبط امتلاك السيارات في بعض البلدان بتلويث البيئة وتدمير المستقبل، وفي بلدان أخرى السيارات ملك أو هبة سلطوية، وكما هو معروف، كانت في سوريا حقًّا للقلة وامتيازًا سلطويًّا بحتًا، وكان النهار يُقضم بأسنان انتظار وسائل المواصلات العامة بحيث يضيع موعدك أو ساعات راحتك. وفي كثير من الأحيان عليك أن تحشر نفسك أو تركض مندفعًا أو تعلق بالسيارة أو تجلس على ظهرها كي تصل.
كانت السيارة حلمًا للمواطن العادي، وإذا ما استطاع شراءها بالتقسيط فإنه لن يستطيع الصرف عليها لأنه يقبض راتبًا، إذا لم يكن الأدنى، فإنه بين الأدنى في العالم، ويمكن أن أذكر مثالًا على ذلك أن والدي عمل في سلك التدريس طوال حياته إلا أنه لم يجرؤ مرة من المرات على التفكير باقتناء سيارة لأنه يعرف أن الراتب الذي يحصل عليه مقابل نجاحه في التدريس غير كاف حتى لإعالة الأسرة. وفي ظل هذا الحرمان الذي عاشه الموظف، والذي يتدرج من موظف دائرة عادي إلى أستاذ جامعي، شابَ الحديثَ عن السيارات في عقد السبعينيات والثمانينيات بعض الأسى والحسرة، وكان تأثير هذا الحديث عليّ بالتحديد هو أنه ولّد في داخلي كراهية للسيارات بكافة أنواعها وحبًّا بالمشي واستخدام وسائل النقل العامة بالرغم من الصعوبات الهائلة المرتبطة بالمسألة، ولم يكن أحد من أبناء قريتي يفكر باستصدار شهادة سواقة، لأن امتلاك سيارة لم يكن من بين خططهم المستقبلية. وترتبط كراهيتي للسيارات بطفولتي في بلدة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية، حيث كنا نشهد كل يوم استعراضًا لأحدث السيارات من مختلف الموديلات، والتي كانت تمر في شوارع فقيرة بائسة لا يبدل فتيانها بنطلون الجينز على مدار السنة، وتصف في مقاه محددة ولم تكن منمرة قانونيًّا، وشاع وقتها ما يُدْعى بنمرات مؤقتة، وانغمرت سوريا بما يشبه قطيعًا معدنيًّا، وصارت السيارات تمر بنمر أو بلا نمر، بزجاج مفيّم أو عادي، وغالبًا بأصوات مطربين شعبيين محدودي الموهبة تقض مضجع النائمين، أو تجعل المستيقظين يكرهون حياتهم. وفي تلك الأوقات كان التلفزيون أيضًا حلمًا، وبعده تحوّل الصحن اللاقط إلى حلم، وكان منظر السطوح في المدن السورية سرياليًّا، الجميع ركبوا نافذة على الفضاء للهرب من ملل المحطة الوحيدة التي تفرض برنامجها الأحادي الرتيب عليهم. تأمّن التلفزيون والصحن اللاقط، غير أن السيارة ظلت حلمًا.
كانت الأجساد التي تقود السيارات الفاخرة وتتحرش بالنساء الجميلات في شوارع المدن وعلى شرفاتها تفرض نوعًا من الرعب. كانت أجسادًا بذكورية اتخذت شكلًا محددًا تؤلفه بنية عضلية مع لحية بطول معين، سترة جلدية وبنطلون جينز وأبواط رياضية وغالبًا نظارة سوداء، وكانت السيارات تتدرج ما بين المرسيدس بأنواعها الحديثة والبيجو والرانج والبي الإم دبليو، وكان معظم الذين يقودون السيارات مسلحين بالمسدسات والرشاشات وغالبًا بالقنابل. وفرض هذا التميز شكله على الجسد وعلى السيارات وحوّلها إلى ممالك له، ولعبت السيارة أيضًا دورًا إرهابيًّا فرض الخوف في الشوارع، و حين كانت تدخل في حي فقير يركب معظم سكانه الميكرو أو البيك آب للذهاب إلى قراهم أو إلى عملهم تلج مثل قضيب معدني يغتصب حارة مسالمة لا حول ولا قوة لها ويفض بكارتها. وحين تحدث مشكلة، كخلاف على فتاة معينة، أو على توزيع منتج ما، نشهد معارك بالرشاشات وتنزل الأجساد من السيارات كي تمارس فحولتها السلطوية.
في مقهى في مدينة جبلة اعتدت أن أرتاده أنا وبعض الأصدقاء شاهدتُ على طاولة قريبة شابًا من أبناء حارتي ترك المدرسة في سن مبكرة ثم ظهر فجأة في الحي في سيارة فاخرة يبدلها دومًا بواحدة أفخم. وهو من النوع العضلي والعنيف، وكان دائمًا في المدرسة يبرز سكين الكباس على خصره أو ينتأ بوكس صب الرمل من جيب قميصه، ومرة حمل سلاح الكاراتيه الفردي الذي يُدعى "الننشاكو" المؤلف من عصوين تصل بينهما سلسلة. كانت أفلام "بروس لي" التي تعرضها سينما الفردوس الوحيدة في البلدة قد تركت تأثيرها في الشبان، فصاروا كلهم يتماهون مع البطل ذي الصرخة التنينية المرعبة. وفي المقهى وضع الشاب المسدس بطريقة استعراضية وكان الجلد اللامع لقرابه يتماشى مع حذائه الإيطالي الملمع جيدًا. على طاولته توضّع لتر بلاك ليبل، وكانت ساقاه مرفوعتين ويضع قدميه فوق بعضهما قرب لتر الويسكي، مما صنع لقطة فوتوغرافية لم تُكتب لها الولادة، وجلس معه أشخاص بلحى خفيفة وكلهم يرتدون سترات جلدية بألوان مختلفة، أحدهم طالب أتذكره من مدرسة أبي العلاء المعري، التي درستُ فيها الابتدائية، وكان من النوع المتنمر، يقف على باب المدرسة وينتظر الطلاب إلى أن يخرجوا ويدقق النظر فيهم ثم يختار واحدًا، فيتجه إليه، يناوله بعض الشتائم ثم يصفعه على وجهه أمام الطلاب الآخرين كلهم. بدأ ابن حارتي حديثه قائلًا إنه لا يشعر بالدفء والراحة إلا في البي الإم دبليو، أما المرسيدس أو البيجو أو الرانج روفر فيعتبرها سيارات متخلفة، وأنه بعد أن بدّل عدة سيارات قرر الرسو على هذا النوع الألماني. وتنبغي الإشارة إلى أن عددًا من السيارات الفاخرة المصفوفة أمام المقهى كان يلون الشارع المنحدر من حي العمارة باتجاه ثانوية الشهيد محمد سعيد يونس.
أصغيتُ قليلًا للحوار الذي لم ظل في ذاكرتي هو والممارسات التي فرضتْ نوعًا من الإرهاب المتنقل والمتباعد على حارات البلدة المتوسطية، وتوهّج في ذاكرتي من جديد بعد قراءتي لما كتبه ادواردو غاليانو عن السيارات والنقل العام والتلوث، والذي أعاد إلى ذهني أعوامًا طويلة تذكرتُ فيها نفسي في لقطات سينمائية منها أنني حين عملتُ مدرسًا للغة الإنجليزية في إحدى قرى الساحل السوري، كانت السيارات التي تشتغل على الخط هي البيك-آبات ذات الشوادر، والتي تحتوي على مقاعد في صناديقها، ولم تكن الميكروباصات الصغيرة قد دخلتْ بعد في الخدمة، وكانت سيارة واحدة تعمل كي تخدم قرية بأكملها والركاب يتكدسون ويجلسون في أحضان بعضهم ويدخنون غير آبهين، وكي لا أتأخر عن طلابي كنت في معظم الأحيان أركب بطريقة تُسمى "التعليق" أو "التعلق". أقف مع أربعة أو خمسة أشخاص في نهاية الصندوق ونمسك بأيدينا نتوءات أو قضبان الحديد في الهيكل المغطى بالقماش الخاكي إلى أن أصل إلى المدرسة حيث أترجل وأناول السائق الأجرة من الشباك. فيما بعد في دمشق، كنا نجري كما لو أننا مشاركون في سباقات اختراق الضواحي كي نلحق بمقعد في ميكرو كي نذهب إلى غرفنا المستأجرة، وكان منظر التدافع على الميكروباصات يقدم صورة مزرية عن النقل العام في مدينة دمشق، ولم تكن جماهير المدينة جماهير مظاهرات أو احتفالات أو مسرح أو سينما أو غاليريهات فنية بل جماهير أجساد منضبطة ومُخْضَعة في طوابير أبدية في الكازيات والكاراجات وأمام الأفران ومحلات بيع الغاز، والجمعيات الاستهلاكية لانتظار قد يطول لساعات من أجل علبة سمنة أو كروز حمراء طويلة أو جرة غاز أو ربطة خبز أو مقعد مُتْعب في ميكرو ضيق، وكانت هذه المناظر كلها تنتمي إلى مرحلة ما قبل الحرب، لكنها في الحرب وبعدها صارت أكثر حدة وبروزًا.
الحداثة وتجلياتها
تتجلى الحداثة الغربية في السيارة والطائرة والمركبة الفضائية، وشبّه رولان بارت سيارة الستروين بالقلاع القوطية في العصور الوسطى، وقال إن فنانين مجهولين صمموا شكلها بعد أن تخيلوه بشغف. وهي تُستهلك بطريقتين: إما من خلال الاستخدام أو من خلال الصورة. وما يهمنا من ذكر رولان بارت هنا هو استهلاكها من خلال الصورة، فالسيارة في السياق السوري هي صورة تفرض ألوان معدنها على الشارع، وبما أن السوري غير قادر على شراء السيارة، فإنه على الأقل قادر على رؤيتها، غير أن رؤية هذه السيارة تولّد في ذهنه قباحة ومخاوف أكثر مما تولد جماليات، فهو هنا لا يلمس سطوحًا ناعمة، ولا يجرب قيادة امتلاكية أو اشتهائية لها، ولا يدخل إلى معارض "سيارات الستروين" كي يصغي إلى مندوب المبيعات وهو يحمل بين يديه كتاب رولان بارت ويقرأ منه عن السيارة، التي مجّد شكلها الفيلسوف ووصفها بأنها مُرْسلة من السماء. وهذه الصور المحبطة التي تتولد في ذهن السوري تتعلق بتاريخ طويل من الحرمان، ليس فقط من السيارة، بل أيضًا من السكن الكريم ومن الدخل الحقيقي ومن حق التعبير وكافة الحقوق التي تنص عليها القوانين الدولية والتي هي من ثمار انتصارات ونضالات الشعوب. والسوري الذي يرى السيارة في حارته، والتي يكون غالبًا لونها أسود، وتمر بسرعة هائلة في شوارع غير مجهزة، وتصدر أصواتًا ممزقة للأعصاب، يشعر أن هذه المخلوق الهابط من الفضاء يمارس عليه إرهابًا واضحًا، فهو يعرف أن القانون، إذا وُجد، فهو لحماية القوي، والقادر على الدفع، ولهذا عليه أن "يبلعها"، أن يصنع قناعًا يتعامل فيه مع اللحظة.
يركب الفقراء في سوريا الدراجات النارية والطرطيرات وسيارات السوزوكي الرخيصة والطنابر والبيك-آبات والميكروباصات الصغيرة والمتوسطة وباصات النقل الكبيرة، وكلها تفتقر للنظافة والمقاعد المريحة. فيما بعد، ومع الانفتاح في سوريا على أحدث الصناعات العالمية في مجال السيارات، انفرزت التكنولوجيا في اتجاهين: ظهر أحدهما في أحدث السيارات الفخمة التي تمتلكها القلة، وتجلى الآخر في المركبات نفسها آنفة الذكر، غير أن الفقراء حُرموا فيما بعد (خاصة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات) من الدراجات النارية الرخيصة وذلك لارتباطها بحسب مصادر رسمية أُشيع عنها في ذلك الوقت بعمليات إرهابية، وكون الجماعات المتطرفة فضلت استخدامها في عمليات التفجير والاغتيالات مما أخضعها لمزيد من التدقيق. ويجب ألا يفوتنا هنا أنه تم ترويج إغراءات استقطابية مدروسة في المجتمع. إن انتماءك إلى جهاز القوة، أو إلى المجموعات المتشكلة ضمن حدود القوة، هو طريقك إلى السيارة، إلى الحياة الفاخرة، إلى الفيلا، إلى النقود. صار هناك نوع من التماهي بين المراهقين وسائقي هذه السيارات، وارتبطت في أذهان كثير من طلاب جيلنا في ذلك الوقت فكرة أن العمل الحزبي والأمني والعسكري هو طريق الوصول إلى السيارة وإلى الثروة.
لا شك أن لسيارة الشبح والبي إم دبليو وآخر صرعات السيارات التي تتدفق علاقة بما يجري في سوريا ككل. فقد ذكرتْ بعض الصحف مؤخرًا أن سيارة من نوع رانج بيعت بمبلغ 765 مليون ليرة سورية في مزاد علني في دمشق، وعلقت الصحف نفسها، ومنها موقع قناة الجزيرة، بسخرية قائلة إن المبلغ يعادل راتب موظف حكومي سوري لأكثر من 960 سنة. ووصلت مؤخرًا أغلى سيارة في العالم من نوع لامبرغيني إلى سوريا في وقت كانت فيه مياه السيول تخترق أسرّة اللاجئين أو تأتي النار على خيامهم.
إن من يدفع ثمن هذه السيارات في النهاية هم حُولوا إلى ما يشبه المتسولين في شوارع المدن السورية، ومن ينتظرون في الطوابير، والأطفال اللاجئون الذين يتلطخون بالوحل ويلطخون معهم ضميرنا، والذين لا يستطيعون أن يرسلوا أولادهم إلى المدرسة، وتدفع ثمنها المدارس التي تخلو من التجهيزات، والجامعات التي لم تنشئ مراكز أبحاث، والدمار الشامل في أقسام من المدن وضواحيها.
إن العلاقة بين اللامبورغيني والفيراري والسلالات السابقة من السيارات وما يجري واضحة ولا تحتاج إلي تحليل، وبالتالي فإن هذه السيارات التي كنا نراها تخترق عوالم طفولتنا وشبابنا بحضورها المستفز، والفجوة الطبقية الواسعة والتهميش الاقتصادي والاجتماعي، والاستئثار بالمجال السياسي وتهميش القوى المدنية، مهدوا الطريق، بين عوامل أخرى كثيرة متشابكة ومعقدة بينها التآمر الخارجي وارتباطاته الداخلية، لما جرى في سوريا لاحقًا وقادها إلى الوضع الحالي، أي إلى كيان مقسم على أساس خريطة معدة وفق اتفاقية "سايكس بيكو" جديدة ما بعد حداثية أو يمكن القول سريالية، شارك في رسمها أولو الأمر الذين ضاقت خريطة سيطرتهم، وممثلو الاستعمار وموظفوه ورجال من سوريا، انضووا تحت راية لوردات الحروب، وفي جماعات مسلحة ممولة من الخارج، ومن تحول منهم إلى أدوات للصراع الدولي والإقليمي، والجيوش التي تنتشر على الجغرافيا السورية، ومنها جيوش قوى عظمى تمارس السرقة العلنية وأخرى عاجزة عن تقديم الحماية الكلية لما تدعي أن تحافظ عليه، وكل منهم يحاول الحصول على حصة أو الحفاظ على حصته كأنها إرث تاريخي مقدس فيما تصبح دولة المواطنة والتعددية والقانون والحقوق المدنية والديمقراطية والعلمنة حلمًا في شكل عابر رث الملابس، تدهسه سيارة مفيّمة الزجاج ولا نمرة لها، على الطريق السريع للسياسات الطائشة.