يواجه العالم هذه الأيام أزمة كبيرة، بدأت بارتفاعٍ في الطلب على الغاز الطبيعي مما أدى لارتفاع جنوني في أسعاره، وامتدت الأزمة لتشمل قطاع الطاقة بأسره، فطالت الزيادة أسعار النفط والفحم، بشكل أدى إلى تضررٍ في القطاعات الأخرى المعتمدة على الطاقة، منذرًا بأزمة اقتصادية كبيرة، في عالمٍ ما زال يحاول التعافي من أزمة جائحة كورونا، ويحاول جاهدًا مقاومة شبح الركود الاقتصادي.
لا تعتبر الأزمة الحالية أول أزمة يواجهها العالم في مجال الطاقة، إذ واجه العالم أزمات طاقة كبيرة أشهرها عام 1973 حين انقطعت إمدادات النفط عن الدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي على خلفية حرب أكتوبر، والأزمة الشاملة التي تفاقمت بسبب غزو العراق ووصلت ذروتها عام 2008، وغيرهما الكثير، لكن المختلف في هذه الأزمة، أن العوامل البيئية كانت هي الحاسمة في نشوء الأزمة وتفاقمها.
كانت كلمة السر لبداية الأزمة هي الطقس، عندما قاد الارتفاع الكبير في درجات الحرارة خلال الصيف الماضي في بر الصين الرئيسي، بالإضافة إلى عودة الإنتاج الصناعي للنمو بعد جائحة كورونا، إلى ارتفاع كبير في استهلاك الكهرباء. لا يتوقف التداخل بين العامل البيئي وهذه الأزمة عند الارتفاع في درجات الحرارة الصيف الماضي فحسب، فبرغم العلاقة الواضحة بين تطرف الطقس والاحتباس الحراري وزيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (وهو ما أثبته العلماء الذين حازوا على نوبل للفيزياء هذا العام)، إلا أن عاملًا بيئيًّا آخر يتصل بالخيار السياسي لبكين التي قررت التعجيل بتنفيذ بعض التزاماتها المناخية قبل مؤتمر كوب 26، لعب دورًا هامًّا في الأزمة الحالية. خلال العقود الماضية كانت الصين تعتمد بشكل أساسي على الفحم في إنتاج الطاقة الكهربائية، وهو مصدرٌ تعتمد من خلاله على نفسها إلى حد كبير - إذ تعتبر الصين أكبر منتج ومستهلك للفحم في العالم - بالإضافة لاستيراد كميات من الفحم من دول أخرى، مثل أستراليا - قبل أن تفرض بكين حظرًا على استيراد الفحم الأسترالي على وقع أزمة دبلوماسية - ومنغوليا وإندونيسيا. والفحم أكثر مصدر ملوث للبيئة من بين مصادر الطاقة، فهو يُستخدم لإنتاج نحو 40% من الكهرباء المستهلكة في العالم بحسب البنك الدولي، وفي حال استخدامه لإنتاج ميجاواط.ساعة من الكهرباء فإنه يؤدي إلى انبعاث ضعف كمية ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن استخدام الغاز الطبيعي لإنتاج نفس الكمية من الكهرباء.
إن الانتقادات الكبيرة التي يوجهها الناشطون والمنظمات البيئية للفحم بسبب تلويثه الكبير للبيئة، وإسهامه بشكل كبير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، دفع الصين لوضع خطة لتقليل انبعاثات الكربون كجزء من التزاماتها المناخية، كان أساسها التخلي عن الفحم، إذ قاد التخفيض المستعجل للاعتماد على الفحم في إنتاج الكهرباء الذي نفذته الصين بشكل مستعجل قبيل قمة المناخ كوب 26 إلى زيادة في الطلب على الغاز المسال.
في أوروبا كذلك، لعبت العوامل البيئية - والسياسات البيئية أيضًا - دورًا كبيرًا في زيادة الطلب على الغاز الطبيعي، وساهم هذا الأمر في تعميق الأزمة، إذ تسعى دول أوروبا لخفض اعتمادها على الفحم في إنتاج الكهرباء، إذ يسهم قطاع الكهرباء في نحو 75% من الانبعاثات الكربونية في القارة العجوز، وأسهمت سياساتها في هذا المجال إلى انخفاض كبير في الاعتماد على الفحم، إذ تقلص الاعتماد عليه في إنتاج الكهرباء خلال العام الماضي بنحو 20% حسب تقرير إمبر.
لعب الطقس أيضًا دورًا كبيرًا في زيادة الطلب على الكهرباء في أوروبا، إذ واجهت القارة العجوز موجات حر خلال الصيف، وتواجه حاليًّا خريفًا باردًا، ويتوقع بذلك أن تواجه شتاء شديد البرودة. لا تعتمد أوروبا على الغاز فقط في إنتاج الكهرباء، ولكن أيضًا تعتمد الدول الاسكندنافية ودول أوروبية أخرى على الغاز في تدفئة المنازل خلال الشتاء، وفي ظل توقعات الذهاب نحو برودة غير معتادة في الشتاء المقبل، فإن الطلب على الغاز هناك (تأتي غالبيته من روسيا والجزائر وقطر بالإضافة إلى الغاز النرويجي) ارتفع بشكل كبير مما أسهم في أزمة ارتفاع الأسعار.
إن العامل البيئي المباشر (درجات الحرارة المتطرفة في الصين وأوروبا)، والسياسات البيئية التي تدعم استخدام الغاز كمصدر أقل تلويثًا للبيئة، قادت إلى ازدياد كبير في الطلب على الغاز في مقابل غياب كبير للفحم كأحد مصادر الطاقة، وأسهم التزامن في زيادة الطلب على الغاز في الصين وأوروبا إلى اضطراب كبير في الأسواق، وفي ظل الطلب الكبير في مقابل ثبات المعروض، فإن الأزمة الاقتصادية المتعلقة بأسعار الغاز مرشحة للتفاقم. بيد أن الأمر الذي قد يؤرق المهتمين بقضايا البيئة وتغير المناخ، أن الأزمة الاقتصادية الكارثية التي يعيشها قطاع الطاقة الآن ستقود حكومات الدول للردة عن سياساتها البيئية والعودة إلى الفحم كمصدر لإنتاج الكهرباء، في محاولة للسيطرة على الأسعار، ومنعًا لحدوث اضطرابات سياسية واجتماعية، إذ لم تصمد خطط الصين البيئية طويلًا في مواجهة الإقتصاد، فقد أعلنت عقب تفاقم أزمة الغاز زيادة إنتاجها من الفحم من أجل إنتاج الكهرباء، ما ينذر بـ"مأساة مناخية" حذر منها الاتحاد الأوروبي.
إن بنية الاقتصاد الحالي ضعيفة جدًّا أمام أسعار الوقود الأحفوري، وبدون بنية تحتية خضراء، واقتصاد مستدام، وخطط اقتصادية-بيئية طويلة المدى، لن تسهم السياسات البيئية المجتزأة إلا في المزيد من المآسي البيئية والاقتصادية!