[هذه المقالة جزء من ملف حول اللغة الأمازيغية، تحت عنوان «"تانكرا تمزيغت": الصحوة والأصلانية الأمازيغتَيْنِ في الآداب والفنون»].
احترامًا لجذورها العميقة وقيمتها العالمية، نوّد أن نلبي هذه الدعوة للكتابة عن السينما الأمازيغيّة ومهرجاننا في نيويورك، "منتدى نيويورك للفيلم الأمازيغي" أو "نيفاف"، بداية عبر عرض وتقديم فكرة أن هذه السينما، أو التعبير السينمائي عن الحياة الأمازيغية، أضحت مساحة مهمة لترجمة سيميائية تبادلية. وكما علّمنا المنظّر الروسي الأمريكي رومان جاكوبسن، فإن الترجمة السيميائية التبادلية، وعلى عكس الترجمة الأحادية أو الثنائية-اللغة، تنقل أشكالا ومعانٍ شفهية وموسيقيّة وأدبية إلى نظام مختلف من صناعة المعنى. وعوضا عن سرد حكاية أو قراءتها، أو إنشاد أغنية، تُقيدنا معوقات كلمات الأغاني وحبكاتها، كما التقاليد والممارسات الاجتماعية المنقولة التي تدعمها، ومن موقعنا في ثقافة الولايات المتحدة المرئية والمتنوعة، نحن مدعوون لقراءة الشاشة، بالإضافة الى سَيْلٍ من الصور ضمن مساحة لها إطار مرجعي.
غالبا في سياق الترجمة، تبرز مسألتا الإخلاص للنصّ الأصلي والضياع او فقدان بعض المعنى، وهما قضيتان مهمتان تكشفان الكثير عن وضع تراثنا وطبيعته، ولغاتنا وهوياتنا وتحدياتنا الراهنة. والأمر الهام الذي تتعين رؤيته في هذا السياق هو أنّ هذه القضايا لا تُواجَه بمناورة دفاعيّة أو توقف عن العمل، وإصرار على "المماثل" كما قد يسميها إدوار غليسان، بل بفتح مساحة للسينما. وما كان يُهَمَّش في واقعٍ محليّ قمعته طويلا ثقافة عربية إسلامية، أصبح يظهر بشكل جلي داخل مجتمع أكثر اختلافا وتنوعا، ما يجعله مرئيا مثل طفل وهو يولد، إلّا أنّه هنا يمثّل ولادة شيء قديم وجديد، وأيضا محليّ وعالمي في الآن نفسه.
والانفتاحات الاجتماعيّة، هي كما في أي ولادة أخرى، تسبب الفرح والتوتّر. ماذا سنسّمي هذا المولود؟ ما هي طبيعته؟ هل سيكون وسيلة لطموحاتنا المشتركة؟ هل يواجه تحدّيات معيّنة؟ كيف سنوجه نُمُوّهُ وماذا سيعلّمنا؟ هل سيخون ثقتنا وآمالنا ويعرّفنا على أشخاص وأماكن تقصينا، ولا تستوعب ذكاءنا ومهارتنا؟ أمّ انه سيكرمنا وهو يرينا عتبة المستقبل التي توصل إلى مشهد جديد؟
"منتدى نيويورك للفيلم الأمازيغي" (نيفاف)
غالبا ما اعتبرت السينما الأمازيغيّة كجزء من السينما المغربيّة أو الجزائريّة أو المغاربيّة عموما. وبالتالي، ولأنها كانت تخضع لهيمنة سينيمات نافذة، فالأفلام الأمازيغيّة كافحت للحصول على الانتباه اللازم والاهتمام الشعبي لمحبي السينما أو الباحثين في مجال الأفلام. وحسب دانييلا ميروللا (2019)، فإنّه بموجب الحيويّة الاجتماعيّة والفنيّة التي توفّرها المهرجانات الدوليّة المتعدّدة للأفلام باللغة الأمازيغيّة، يمكن بلورة نسق سينمائي منهجي لهذا النوع من الأفلام. واستنادا إلى تعريف بورديو لـ "الحقل"، تقترح ميروللا أنّه ربّما حان الوقت كي نتحدّث عن "حقل سينمائي أمازيغي." في كليّة "لاغوارديا كوميونيتي كوليدج"، وهي جزء من جامعة "سيتي يونيفيرسيتي" في نيويورك، ومقرّها حي كوينز حيث تتواجد مئات الثقافات واللغات، قامت مجموعة صغيرة من الأساتذة والباحثين الأمازيغيين والأميركيين، ومن المنطلق نفسه، بإنشاء مقرّ متعدد اللغات للسينما الامازيغية وهو "منتدى نيويورك للفيلم الأمازيغي" أو "نيفاف"، حيث نحتفي بهذه السينما الناشئة كجنس قائم بحدّ ذاته.
وعلى امتداد ست سنوات من الدورات التي خصصت كل واحدة منها لموضوع معين، حيث تعاون باحثون ومترجمون وصناع أفلام وموسيقيون وفنانون مع طلابنا في "لاغوارديا كوميونيتي كوليج"، المتعددي الأعراق واللغات والمنتمين إلى الطبقة العاملة، للدفع بـ"نيفاف" في اتجاهين أساسيين. أولا، طبقنا نموذجا من الممارسة التعليمية تُقارب التنّوع الثقافي واللغوي من خلال عرض ومناقشة سينما أهلية وعابرة للجنسيات لجمهور متنوّع. نستهدف بالأساس جمهورا محليّا لمشاهدة أفلام أجنبية يتألّف من طلاب أميركيين من خلفيات عرقية ولغويّة مختلفة، هم غالبا من المهاجرين الذين لديهم معرفة ضئيلة أو ليست لديهم أيّ معرفة على الأطلاق عن شمال أفريقيا. وبالتوازي، فإن المنتدى مفتوح أيضا لأبناء شمال أفريقيا الذين يعيشون في شمال شرق الولايات المتحدة بالإضافة إلى جمهور مدينة نيويورك. وندعو مشاهدينا المتنوعين للتفاعل مباشرة مع صنّاع الأفلام والفنانين والكتّاب والأكاديميين، مما يسمح بإبراز مجموعة من الأصوات ووجهات النظر.
ثانيا، فإن مقاربتنا تسعى بشكل فعّال إلى صياغة ممارسة من التبادل العابر للجنسيات القادر على إثراء هذه المساحة من الترجمة السيميائية التبادليّة للحياة الأمازيغية و"ترجمتها" باستمرار لجمهور أوسع. ومع استبعادنا ورفضنا لأي منظور فولكلوري أو اصولي، نعرض جميع الأنواع المرئية الممكنة من أفلام قصيرة، وثائقيات، وأفلام روائيّة أنتجت للتلفزيون أو السينما، بما فيها الأفلام الأولى الخاصة بمخرجي الشتات. ونقبل الأفلام المتعلقة بجميع مناطق تامزغة، وهي تسمية تستخدم للدلالة على كامل المساحة الأمازيغيّة في شمال أفريقيا، من المغرب إلى الجزائر وتونس ومنطقة سيوا في مصر وجزء من الدول الأفريقية جنوبي الصحراء الكبرى مثل مالي والنيجر وتشاد وجزر الكناري. وإلى هذا الفضاء الجغرافي نضيف امازيغ الشتات في أوروبا وفي أميركا الشماليّة.
ولدى صياغة كلّ دورة، نبقى منتبهين للقضايا الرئيسية التي تبرز الانتقال من السردية الشفهية إلى تلك السينمائية، وتعدد طرائق التلقي لدى الجمهور، والصراعات الاجتماعية المتعلقة بالجندر، والعمل والهجرة، وتطّور الهويات التي تمتد بين البلد الأم ومواقع الشتات، وأساسيات كيفية صناعة الأفلام وتوزيعها. ونناقش عملنا على مستويات عدّة--عمليا ونظريا وتاريخيا بالإضافة إلى النواحي الجماليّة. والأهم، كوننا أساتذة جامعات نعمل في الولايات المتّحدة، وهو أمر له تحدياتّه الخاصة فيما يخص دمج هويات متعدّدة وتراث ثقافي في ظل إرث من التفرقة الإثنية والعرقية والجندرية، نسعى لإيجاد سبل تمكّن السينما الأمازيغيّة من فتح نافذة على تجارب وتحدّيات للبحث عن حلول مشتركة.
ولقد سمح لنا هذان التوجهان بتحديد ثلاثة أهداف أساسيّة:
· بذل جهد لخلق مساحة لصنّاع الأفلام، والفنانين، والموسيقيين، والأكاديميين الذين تركّز أعمالهم على الهوية والثقافة الأمازيغيتين، للتلاقي كلّ سنة لمشاركة معرفتهم مع جمهور متنّوع لتعزيز الحوار حول المسائل المحليّة والعابرة للجنسيات.
· والرغبة أيضا في ربط نشوء السينما الأمازيغيّة بمقاربة تعليمية موازية تجعل الشمولية والتسامح مع قبول التنوّع من اولوياتها.
· وأخيرا، السعي لتوسيع ترجمة ثقافة ولغة الشعوب الأمازيغيّة عبر تعبيرها السينمائي الناشئ، وتأمين منطلق لها مقرّه أميركا لجاذبيتها العالميّة. وبذلك، نأمل أن نساهم في ابراز الثقافة الأمازيغيّة من خلال إنتاج الأفلام وتوزيعها، عبر استخدام ترجمة للفيلم على الشاشة باللغة الإنجليزيّة.
قراءة مركّزة وواقعية للسينما الأمازيغيّة
ولوصف بروز السينما الأمازيغيّة وعناصرها الخاصّة، نبني فهمنا على ما أصّلت له شيلا بيتي وبراهيم بن بوعزة بأنّها وُجدت "لجماهير متعددة، وهي تحتوي على إشارات مرجعيّة ومعايير ستكون لها معان مختلفة وتقرأ بشكل مختلف بحسب إثنيات المتلقين وخلفياتهم أو جنسياتهم" (بيتي 2019:54). وفي ما يتعلق بمسألة اللغة المستخدمة في الترجمة أسفل الشاشة، علينا أولا تحديد موقعنا أو تقديم قراءة محدّدة. موقع نيفاف هو مدينة نيويورك وهي مدينة الثقافة المتنوعة والمرئية للولايات المتحدة، كما أنها أيضا مرتبطة بجمهورنا المتعدد الإثنيات، لذلك فإن "نيفاف" تدْرُس و أيضا تؤثر بشكل فعّال على ما اصبحنا نسميه السينما الأمازيغيّة.
ملاحظة أولى حول إرثها المزدوج. إنّ السينما الأمازيغية، وكونها نشأت في الأوساط الاجتماعية في شمال أفريقيا منذ أوائل التسعينيات (كارتر، 2001-أوستن 2012)، وأخذت شكلها الكلي منذ العام 2000، فإنها قد استحدثت، كما لاحظ البعض، سياسة هويّاتيّة (جاي 2016)، وهو مفهوم يسبب القلق في أنحاء عدّة من العالم خاضعة لمحرك الفوضى الإمبريالي الرأسمالي الأميركي. إلّا أن "أهل" هذه السينما محليون، نموذج النضال الأمازيغي في مجال الموسيقى كمثال. وعبر ارتباطها بالمطالب المحليّة للحصول على دور بارز ومحترم في دول أفريقيا الشمالية منذ الثمانينات مع حركة "الربيع البربري" في الجزائر، بالإضافة إلى التعاون الإقليمي، لا سيما في "مؤتمر الكونغرس الأمازيغي العالمي" في جزر الكناري في 1996. توسعت هذه السينما المتنوعة في إطار محدودية الإنتاج الاجتماعية والاقتصاديّة، مستخدمة ما توفر لديها من أدوات، وقد ساهم في هذا النجاح التقليد الطويل والقديم والحيوي والمهرجانات والعروض الشفهية والفنيّة من جهة، وتوّفر تقنيات الفيديو والأفلام، من جهة ثانية. وكما ومضة من النور في الضباب، استرعى ذلك انتباه الناس، وبات له جمهور متزايد، واليوم صارت هناك مجموعة متعددة الأجيال من السينمائيين المحليين والمهاجرين تراثهم أمازيغي، ساهموا في ما يعد ثقافة سينمائية محليّة، ووطنيّة وعابرة للجنسيات.
وعلى الرغم من أنّه بالإمكان إدراج السينما الأمازيغيّة ضمن مجموعة الأفلام الإثنية بسبب طريقتها في تقديم الشعوب الأمازيغيّة، أو السينما العابرة للجنسيات بسبب طرق إنتاجها ومحتواها، إلا أن السينما الأمازيغية تستعصي على التصنيفات التحليلية. وقد تكون التركيبة الأقرب هي التي وجدناها في مفهوم فلورانس مارتن لـ "سينما التجاوز" حيث "تتقاطع دول وثقافات عدّة وتستعير منها، إلّا أنّها في الوقت ذاته تقاوم خطابا مهيمنا على الثقافات" (مارتن، 2011، كما تشرحه بيتي 52). وتعدّ أيضا قراءة بيتي وبن بوعزّة لسينما الشعوب الأصليين بالإضافة إلى "السينما المغايِرَة" لحميد نفيسي صائبة للغايّة. ولكن، ومن منظارنا التعليمي الواسع، نلاحظ أنّ طبيعة هذه السينما تقتضي وجود تنوع، ليس فقط في طبيعة إنتاجها إنّما أيضا ضمن التصنيفات التي ينسبها الباحثون إليها. و أي مسعى لتعريفها يجب ان يمر عبر الاعتراف وفهم عناصرها الثقافية والسينمائية التي تمثلها منظومة من المواقع الجغرافية والاجتماعية، يتم التعبير عنها بلغات متعددة. وعوضا عن النظر إلى هذه السينما من منظار واحد، نعتمد على وجهات نظرنا كأمناء على المهرجان ونقاربها على أنّها عمليّة إبداعيّة مستمرّة ومتنوعة تحدّدها كيفيّة بناء المعنى عبر استخدام الموقع واللغة والمراجع الثقافيّة والذاكرة والوقائع المعاشة بالإضافة إلى عناصر التشخيص السينمائي مثل الأزياء والموسيقى والإخراج المتعلّقة بالأمازيغيين. ونعتبر أن تعدد العناصر أمر أساسيّ.
وكما ذكرنا سابقا، فإنّه من المهم التشديد على أن السينما الأمازيغيّة ليست محصورة جغرافيا، مما يعني أن الأفلام التي تعتبر أمازيغية ليس ضروريا أن تصوّر في شمال أفريقيا أو، للدّقة، داخل مجتمعات ناطقة بالأمازيغية. الأفلام الأمازيغيّة التي تنتج في الشتات تحمل عناصر يمكن اعتبارها أمازيغية وإن كانت لا تدور في مواقع جغرافية تعدّ ناطقة بالأمازيغيّة. وتشمل الأمثلة "ثازاكزرث" (الحمامة 2017) وهو فيلم قصير عن السيرة الذاتيّة للسينمائية الأميركية مريم سعدون التي تستخدم أسطورة أمازغية واسمًا معروفًا هو الكاهنة لاستذكار الأحداث التي أدت إلى موت والدتها الأمازيغيّة فيما كانت تمشي في غابة في أميركا الشمالية. وأيضا فيلم "لقد وُعدوا بالبحر" (2012) للسينمائية الكندية كاثي وازانا التي تقدم فيلما من جنس أفلام الطريق صوُّر في المغرب، وفي فلسطين-إسرائيل، وفي نيويورك أيضا وهو يتتبع السينمائية فيما تحاول فهم الهجرة الكثيفة لليهود المغاربة من المغرب في الستينيات وتاريخ عائلتها الشخصيّ. ويطلق الفيلمان العنان لسيل معقّد من الأسئلة حول الهويّة المزدوجة، والتحديات التي يواجهها الأشخاص الممزقين بين الوطن وبين الأرض "الموعودة".
نتفهم أنّه بسبب مركزية اللغة بالنسبة للشعب الأمازيغي، فقد استُخدمت كعنصر دال في السينما الأمازيغيّة. ميرولا (2019) تقول إنه يبدو أن التعريف الأكثر أهمية لـ "الفيلم الأمازيغي" يعتمد بشدة على اللغة المستخدمة في الحوارات والسرد الصوتي وفيما تؤدّي اللغة دورا بنيويا في تعريف وتحديد وقائع الثقافة كما في رسم الحدود الجغرافية، فإن استخدامها كمعيار وحيد لتعريف "الفيلم الأمازيغي" يحجب أبعادا أخرى مرتبطة بالطبيعة المتعددة اللغات للإطار الأمازيغي- أيّ المغرب الكبير اليوم. وتقترح ميرولا (2019) مقاربة يميزها مسار متصل حيث تتفاعل خصائص متعدّدة، مثل المشاهد والشخصيات والأماكن والتاريخ والموضوعات وتعدد اللغات، لتؤثّر على ما يمكن أن يجعل من فيلم ما أمازيغيا. وفي مقابلة مع الصحافي والناشط في مجال حقوق الإنسان القبائلي (نسبة إلى منطقة القبائل في الجزائر) مازن فركال، ابدى بلقاسم حجاج، صاحب فيلم "ماشاهو" (1955) وهو واحد من الأفلام الاولى الناطقة باللغة القبائلية، دعمه لهذه المقاربة حين رفض فكرة اعتبار فيلمه أمازيغيا بناء على العامل اللغوي فقط بما أنّه كُتب بالامازيغية. ويشير إلى أنّ: "أيّ فيلم هو أمازيغي إذا كان يخاطب القيم العميقة للمجتمع الجزائري. وذلك لأن الجزائريين كلّهم أمازيغيون حتّى لو كانوا لا يتقنون اللغة" (ميرولا 2019). إن منتدى "نيفاف" يميل إلى مقاربة السينما الأمازيغيّة من هذا المنطلق.
وأحد النماذج الصارخة لهذه "الاستمرارية" هو الفيلم الإثنوغرافي الذي قامت به طالا حديد بعدما أمضت مدة طويلة مع عائلة في جبال الأطلس الكبير والذي أثمر فيلم "منزل في الحقول" (2017). يتمحور شريطها الوثائقي حول قصة فتاة مراهقة و تجربتها في تعلم اللغة العربيّة بموازاة مع تعلم لغة المساواة في الحقوق، وتكتسب هذه التجربة معنىً وعمقا من خلال نزهات طويلة في الحقول وموسيقى «الڭناوة» (أو «الغّْناوة» أو «الڨناوة) لعازف الكمبري (أو السنتير). وبالفعل فإن ما يميّز تجربة الأمازيغيين هي اللغة مقارنة باللغات الأخرى بالإضافة إلى ثقافة وتاريخ وأخلاق تقليدية مشتركة. زد على ذلك نضالهم للحفاظ على نمط العيش الأمازيغي ونقله عبر سبل مختلفة. والغاية ان هناك واجب مقاومة الموت الثقافي والاحتفال بإحيائه، وغالبا ما يكون هذا عن طريق التنقل أو إنعاش هذه الثقافة. وهناك نموذج آخر هو "أمان" (واتر 2016) وهو فيلم درامي قصير لإستريللا مونتيري من جزر الكناري يقدّم صورة متخيّلة عن السكان الأصليين القدامى في تلك الجزيرة وهي منطقة مستقلّة عن إسبانيا توجد في شرق الساحل الأفريقي. وعبر استخدام اللغة الغوانشية المنقرضة، يزيد "أمان" الوعي إزاء ضرورة حماية الإرث الثقافي للسكان الأصليين والمحافظة عليه من خلال المتخيل المرئي.
أفلام وثائقيّة وروائية
كوننا غير ملزمين بعرض الأفلام ذات الطبيعة الدراميّة فقط والتي يمكن أن تتطلّب ترجمة ثقافية أكثر عمقا، كان لنا حظ عرض ودراسة بعض الوثائقيات التي تنطلق من انعكاس ذاتي راسخ أو "وعي مزدوج" لكتاب أمازيغيين مثل آسيا جبار ومولود فرعون وزاهية رحماني الذين يعيدون تشكيل التاريخ عوضا عن سرده (حاج موسى 188).
أحيانا، تهدف هذه الوثائقيات إلى إيقاظ اللا محكي التاريخي أو الحميمي. ويعدّ وثائقي "ازول" Azul (2013) لوسيم القربي سعيًا خلف هوية شبه ضائعة. وهو يسأل التونسيين عن التقاليد والعادات واللغة التي تتحدث بها قلة منهم، مواجها ذكرى نظام بورقيبة والأذى الذي سببه حين كانت العربية هي اللغة الوحيدة الرائجة، ومُحيت حينذاك أي آثار للأمازيغية. أمّا وثائقي كمال هشكار "تاسانو تايرينو" (كبدي، حبي) (2017) فيعالج موضوع الحب عبر مقابلات مع شبان وكهول أمازيغيين من النساء والرجال. ولإضافة لمسة على سرديته، يستعيد هشكار قصة مريريدا التي نبذها مجتمعها الأمازيغي لأنها عبّرت عن حبها علنا. وعلى امتداد الوثائقي، نسمع قصائدها التي أدت الى نبذها كما أنّها شكّلت ذاكرتها والفترة التي عاشت فيها. والوثائقيان يسعيان لإعادة إحياء أوجه من الهوية الأمازيغية وتشجيع الناس على تجاوز التأريخ المقيّد أو الموجه المتعلق باللغة وبالصوت. بثّت الثورة التونسية في العام 2011 بصيص أمل للكثير من التونسيين الذين كانوا ينتظرون دومًا استعادة الروابط مع أصولهم الأمازيغيّة لا سيما في الجنوب والوثائقي الذي أخرجه وسيم قربي كان أحد ثمارها. بالنسبة لهشكار فشريطه عودة إلى الإرث الثقافي للشعب الأمازيغي وطرق تعبيرهم عن حميميتهم وممارساتهم الجنسية من خلال الشعر.
في "بيت في الحقول" لتالا حديد، وكما ذكر سابقا، وفي "رحلة خديجة" (2017) لطارق الإدريسي، و"إسلام طفولتي" (2019) لناديا زواوي، تشكل قضية الجندرة الموضوع الرئيسي. وتصف الوثائقيات الثلاثة تجارب فريدة لنساء أمازيغيات في شمال أفريقيا. تقدّم حديد لشبان وشابات منبرا لسماع أصواتهم والتعبير عن أحلامهم حول مستقبلهم، وبوجه خاص، إلى الشاهد الخفي-أي صانعة الفيلم ومشاهديه. في "رحلة خديجة" نلتقي بشابة أمضت حياتها في هولندا وكوّنت هويّتها النسويّة الشرسة والقوية هناك وقد كانت متأثرة بإرثها، ولاسيّما شخصيّة جدّتها القويّة. وتقرر زيارة عائلتها في بلادها في شمال المغرب، وهي منطقة ناطقة بالأمازيغية في غالبيتها، وهناك تتحدّى المحظور الديني والصور النمطيّة عن المرأة ولكن في إطار جو متسامح توفره لها أسرتها المنفتحة. أما السينمائية والصحافية الجزائرية الكندية نادية زواوي في فيلم "إسلام طفولتي"، فتلجأ إلى تقنية السرد الصوتي لمساءلة شرعية العنف المدني وموقع الدين في الجزائر. وفي محاولة لاستذكار تجربتها مع الدين كما اختبرته وهي تكبر، تمزج زواوي بين الحنين لإرث متسامح وبين تحليل نقدي للتغيير القمعي في بلدتها الأمازيغيّة الصغيرة والحدود الواضحة التي تمنع القدرة على تجاوزها.
وفيما كنا نشاهد هذه الوثائقيات ونناقشها مع زملاء وطلّاب، أدهشتنا القدرة لدى من هم خارج الدوائر الأمازيغية على إيجاد صلة مع تحديات وقدرات هذه الشخصيات الواقعية أو تلك الروائية. حين تتحدث نادية أو خديجة، وتعرّف عن نفسها بأنّها امرأة أمازيغية متعددة الإثنيات وتنتمي إلى تاريخ طويل وتقاليد متفرّدة همشها الإعلام السائد كما الخطاب الرسمي، أو حين يستخدم قربي وهشكار وقائع تاريخيّة لاستعادة هويتهما الأمازيغية وإظهار تعدّدها، فإن الطبيعة الجامعة والمعاصرة لهذه المساعي تصبح ملموسة. وسواء كان موقعها المغرب أو الجزائر أو تونس أو ليبيا أو جزر الكناري فإن هذه الأفلام تتشارك في هدف واحد: جعل الهويات الثقافية واللغوية المتنوعة للشعب الأمازيغي مرئية لكل من لا يعرفها، وبناء ثقافة مترسخة ومدركة لذاتها، قادرة على صناعة الألفة والانتشار داخل الحدود الثقافية وخارجها في آن واحد، مع الاتفاق على قاعدة شرف مشتركة وأعراف صارمة من خلال ما أصبح الآن ممارسة سينمائية تستطيع الانتشار. وبالفعل، ففي الإنتاجات الناشئة للسينمائيين الأمازيغيين، تفتح هذه المساحة من الترجمة السيميائية التبادليّة بابا نحو مجتمعات أخرى تعتبر من الأقليات وهي معروفة ولكن بدرجة أدنى في أنحاء أخرى من العالم.
في مواسمه السبع السابقة، كان لـ "نيفاف" أيضا امتياز عرض العديد من الأفلام الروائية، التي غالبا ما تضع انقطاع الذاكرة ومحدوديّة السرديات المتوارثة في إطار درامي. في "المنزل الأصفر" (2007) لعمر حكّار تُلمِّح المَشَاهِد الثابتة والحركات البطيئة لآلة التصوير إلى الجمود والركود الذي يجلب الموت مع الوقت، مما يتسبب في صدمة لأسرة من قرية أمازيغيّة نائية، ولاسيّما للأم. وفي ما يعكس إحالة لنشوء السينما الأمازيغيّة، يشكّل اكتشاف تسجيل فيديو "في أتش أس" بين ممتلكات الابن المتوفي بداية جديدة. ويتضمن التسجيل المصور مشاهد للابن وهو يتحدّث مباشرة إلى عائلته، خالقا إحساسا بالوجود، وبالآنيّة وبالتغيير. في فيلم "شرف" (أدُّور) (2017)، يسافر أحمد بايدو إلى الماضي لإعادة إِحياء أسطورة المقاوم زايد أحماد الذي قاوم المستعمرين الفرنسيين في منطقة تنغير في المغرب. وعلى الرغم من أن قضية المقاومة ليست جديدة في الأفلام المغربية، إلّا أنّ "شرف" هو الأوّل الذي يستخدم الامازيغية على امتداد رواية الفيلم ويتناول شخصيّة تفتخر بانتمائها الأمازيغي. والفيلم يركّز على الذاكرة الجماعية من خلال الاستذكار، وهو محاولة لإعادة صياغة الأحداث التاريخية للاحتفاء بالمقاومة بعيون أمازيغية. وفي ما يتعلق بالأسطورة، يقوم حكيم بالعباس في فيلمه: "تعريف الحبّ: محاولة فاشلة" (2012) بإلقاء الضوء على قصّة حب إسلي (العريس) وتيسليت (العروس) والتي تفسّر نهايتهما الأليمة تكوّن بحيرتين شهيرتين. ويكشف الأسلوب الوثائقي في صناعة الفيلم تفاصيل معقّدة ومتشابكة حول الطبيعة الإنسانيّة وكيف تُشوّه الحداثة الطبيعة النقيّة للحب.
وختاما، فإن السينما الأمازيغية كـ "حقل" اجتماعي جديد من الترجمة السيميائية التبادليّة تتحدى التعريفات الضيقة المبنية على الحدود الوطنيّة أو الجغرافية. ومجموعة الأفلام التي نعرضها تشارك تجارب المجتمعات الأمازيغيّة، التي عزلتها لوقت طويل القوى الاستعمارية والأيديولوجيات التقسيمية. وعبر تقديم فضاء للتلاقي، يرى مشاهدونا كيف تقوم المجتمعات الأمازيغية في واحة سيوا، مثلا، بنسج خيوط سردية مع المجتمعات الأمازيغية في جبال الأطلس في المغرب عبر تجارب حياتهم الفردية. وتتشارك هذه المجتمعات الأمازيغيّة تجارب البقاء والاستمرار والمقاومة مع المجتمعات العالمية والأجنبية والمحلية التي عاشت المعاناة ذاتها. لقد وجدوا صوتا عن طريق السينما يمنحهم حريّة التعبير عن أنفسهم وتأكيد فرض صورتهم امام انفسهم وامام العالم حولهم. والأفلام التي عرضها "نيفاف" حتّى الآن هي دليل على أنّ لغة الصورة قويّة، ولا تصل إلى قلوب الناس وتلمسها فحسب بل هي أيضا تقنعهم بأن هناك قضايا تستحق ان نقاتل من اجلها. ويبقى أن نرى كيف ستجد هذه السينما شبكات توزيع تمكنّها من الازدهار. لكن على الأقل الآن تقدّم مهرجانات مثل "نيفاف" حضورا متميزا، وظهورًا بارزًا، ومفاتيح تربوية قيمة.
*تنويه: هذا المقال كُتب بمساهمة من د. وفاء بحري.
[ترجمت المقال عن اللغة الإنجليزية هنادي سلمان].
المصادر:
Austin, Guy. Algerian National Cinema. Manchester UP, 2012.
Carter, Sandra Gayle. “Moroccan Berberity, Representational Power and Identity in Video Films.” Gazette (Leiden, Netherlands), vol. 63, no. 2–3, 2001, pp. 241–262.
Hadj-Moussa, Ratiba. "Marginality and Ordinary Memory: Body Centrality and the Plea for Recognition in Recent Algerian Films." Journal of North African Studies. vol. 13. no. 2, 2008, 187-199.
Jay, Cleo “‘Playing the “Berber’: the performance of Amazigh identities in contemporary Morocco.” The Journal of North African Studies, vol. 21, no 1, 2016, pp. 68-80.
Naficy, Hamid. An Accented Cinema: Exilic and Diasporic Filmmaking. Princeton UP, 2001.
Mills, J. First Nations’ Cinema: Hollywood indigenous ‘other.’ Screening the Past, Issue 24. 2012.
Merolla, Daniela. Peut-on parler de cinéma amazigh? Les films “grand écran" et Amazighwood. Comparaison avec le cinéma africain. In Merolla, D., Naït Zerad, K. et A. Ameziane (editors), Les cinémas berbères : De la méconnaissance aux festivals nationaux. Karthala, 2019.
Petty, Sheila and Benbouazza, Brahim (2019). “Trans-Indigenous Aesthetics and Practices in Moroccan Amazigh Film and Video.” Expressions maghrébines, vol. 18, no.1, 2019, pp. 47-62.