غنوة فضة
(الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2020)
جدلية (ج): كيف وُلدت فكرة النص، ماهي أهمّ منابعه وروافده ومراحل تطوره؟
غنوة فضة (غ. ف.): من أين تنبع أفكارنا؟ لا أعلم حقيقة، لكن أستطيع الحديث عن التأثيرات التي تدفعنا للتفكير بطريقة ما أثناء الكتابة: قراءاتنا، همومنا، خبراتنا السابقة مضافةً إلى السؤال الأهمّ حول غرضنا الأول من الكتابة. يصحّ لنا أن نسأل أنفسنا عنه، في نوفيلا "شجرة الكليمونتين" كانت غايتي كتابة عرض على شكل مذكرات أحدٍ ما، هل سأتمكن عبر مئة صفحة من طرح سرد يبلغُ مداه مئةَ عامٍ؟ وهل أستطيع تكثيف الحدث لصالح إنجاز تصاعدٍ درامي متقن؟ وهل يحق لنا اليوم أن نحمّل الرواية شكلًا جديدًا مختلفًا عن شكلها التقليدي؟ إذن فالنص هنا هو بمثابةِ عرض روائي أُرِيدَ له الابتعاد عن تقنيات الكتابة المعتادة.
(ج): ما هي الثيمة الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(غ. ف.): يحضر النص في "شجرة الكليمونتين" بصورة ومضات أو فلاشات لأحداثٍ مكتوبة على شكل مذكرات طفلة، ويأخذ القارئ للحديث عن الآلام التي تخلفها الحروب عبر امتداد تاريخي وغورٍ في زمنٍ سردي مكثف. هو حديث عن شجرة منحت قصتها لطفلة، وتماهٍ بين قصتيهما، فالطفلة شاهدة على أحداث غزو الكويت في التسعينيات، كما كان الكليمونتين شاهدًا على نزوح جدّها أثناء الاجتياح التركي لأراضي لواء اسكندرون. هو التفاف الحكاية على زمن دائري في الأصل، حيث تُنمّي الحروب في داخل من يحيا رعبها جذورًا عصية على الزوال.
(ج): كتابك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريدين قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(غ. ف.): ذكرتُ أن الكتابة كانت لعرض الحدث بصورة سردية مكثفة، هل كان من الممكن عرضه بقصيدة؟ ربما. أو مسرحية؟ ولم لا! للأحداث والقصص التي نريد أن نحكيها طريقتها الخاصة في الظهور، إنها تختار أشكالها دون أن يخفى تأثير قراءاتنا ورغبتنا الخاصة في صياغتها النهائية. في "شجرة الكليمونتين" أردتُ للحكاية أن تظهر على شكل ومضات خاطفة، كان من الممكن أن تتمدد كما من الممكن أن تُحكى بقصة قصيرة، أعتقد أنها حيلة اللغة، وقدرتها على المراوغة والإدهاش، وذكاؤها في منح الكاتب لموقعه المعتاد؛ موقع المخيال الذي يستمر في مساءلة قبعته السوداء: ترى هل أخرِجُ أرنبًا أم حمامة؟
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(غ. ف.): بالنسبة للفضاء المكاني وجزء من فضاء الحكاية الزماني، فقد عايشته وراقبتهُ عن قرب. كان التحدي الوحيد أثناء الكتابة هو عرض الحكاية ضمن نوفيلا مختزلة، ضمان تكثيف الحدث بما يحفظ تماسك النص ويمنحه منطقيته وأمانه من التفلّت، كان لا بد إضافة لذلك الأخذ بيد الشخصيات نحو وجهاتها خوفًا من تعثرها ضمن حيز روائي ضيق.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(غ. ف.): هو كتابي الثالث، وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتّاب 2020، صدر قبله رواية "قمر موسى" في سوريا 2018، ومجموعة قصصية عن دار دال 2019 بعنوان "على مقام النهاوند".
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(غ. ف.): لا شك أن نوعية قراءاتنا تؤثر في ما نكتب. عندما كتبت شجرة الكليمونتين، كنت قد قرأتُ عددًا لا بأس به من نوفيلات إيمانويل شميدت وفارغاس يوسا وحنا مينة. جذبتني الكتابة عن أحداث عميقة كما أوسكار والسيدة الوردية لشميدت وحيزها السردي الصغير، ترى هل لحكاياتنا الديمومة في أن تتخذ حجم المجلدات؟ إنها جمالية الاختزال، وجاذبية البلاغة، وخفة حجم النص التي ترافق قوة تأثيره.
(ج): هل تفكرين بقارئ محدد أثناء الكتابة، صفيهِ لنا؟
(غ. ف.): أفكر في نصّ يحترم ذهنية القارئ، ويبحث عن طريقة جادة وملتزمة للوصول إليه. أثناء الكتابة أبحث عن المتانة والعذوبة حتى الوصول لتلك الأسئلة التي من الممكن يثيرها النص لدى القارئ.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(غ. ف.): بدأت قبل عامين بالعمل على رواية جديدة، أعتقد أنها ستكون قريبًا قيد الصدور والنشر.
مقتطف من الرواية
مطار بيروت 1990:
سِربٌ من حناجر مبحوحة أنا، والحربُ هي الحرب، فاهٌ فتاكٌ، جوعُ وحشٍ لا يسكتهُ إلا الدم. نخلةٌ تتجاذبها عواصفُ تنوء تحت صرخاتهما: أمي وحقيبتها المتأهبة أبدًا، وأبي الساخط، النادم، المحترق، مرةً عليّ، وأخرى على رحيل أمي.
"والدتكَ يا وليد مثل حصانٍ جامح، وهذي البلاد لا تعرف كيف تروّض هذا النوع من الأحصنة". وليد.. يدٌ تأخذني نحو الشمال. أخرى نحو اليمين، والغلبة حسب منطق القوة تكون لابن البلد. ترحل أمي إلى بلادها. تعود. تبكي قليلًا. تحضنني بقوة وتعلن إفلاسها. تقول أحبك يا وليد في اليوم الواحد عشرات المرات. لكنّ عينيها تبقيان معلقتان على رسوماتها ومنحوتاتها. تنحت في يوم، وترسم في آخر. تشتم القدر الذي أحضرها إلى هذه البلاد المستنقع كما تسميها، وأياماً كثيرة كنتُ اصحو ولا أجدها. تتكفّل مدبرة المنزل بإطعامي وترتيب هندامي.
يتردد هذا الشريط أمام عينيّ بعد رحيلها الأسبوع الفائت. كانت قد أقسمت بعدم العودة إلى هذا الجحيم، في حين أنتقلُ مع أبي من بلدٍ إلى آخر، هو في تجارته وأنا بلا أنيس يسلو غربتي سوى كتابٍ أو قصة تتكفل هي الأخرى بالإنصات إلى الأنين وكتم النشيج عند المساء.
أنتظرُ إلى جانب أبي في صالة مطار بيروت، للانتقال منه إلى مطار دمشق الدولي، ثم إلى مدينة اللاذقية على الساحل الشمالي، حيث نزور أقارب قاطنين فيها من جهة جدتي نائلة. "ربما لن تكون زيارة قصيرة.. ربما نمكث مطولًا" قالها أبي بحرقة، في وقت كنت أصغي فيه إلى أحاديث الناس وهمسات القادمين والذاهبين عما سموه قصف الكويت!
حدثيني يا جدتي.. حدثيني عن تلك البلاد. تمد يدها إلى رأسي، وتمسد شعري الأسود وتقول: "مذ لجأتُ وجدتك لمياء وزوجها أحمد إلى حمى شجرة الكليمونتين تلك، ورثنا قدرها، كما سترثونه ويرثه أبناؤكم من بعدكم..".
حدثيني يا جدتي.. حدثيني أكثر عن تلك البلاد، فقد بلغتُ عامي الحادي عشر ولم يزل الرضيع القابع داخلي يشك أنه لن يكبر، حدثيني عنها، أعلم أني زرتها قبلًا، كما لو كان الأمر حلمًا. ضبابٌ يغلفه ضباب. ابن خالة أبي، وطفلةٌ هادئةٌ تحمل كتب فوكنر، جميلة مثلك يا جدتي، لها أمّ حسدتها عليها، وأذكر الكثير الكثير من الكتب، مغارةٌ كبيرة ملأى بالكتب. يقول أبي سنمكث طويلًا، لا أعلم إن كان ذلك لإغضاب أمي وإبعادي عن بلادٍ لا تستطيع فيها مقاضاته أو استرجاعي منه، لكن ما أعرفه أن شبح الحرب قادم، وأنا أشعر بوحدة قاتلة، بسكينٍ تغرز نصلها بعمقٍ وتشحذني كما لو أنها جزارٌ جشع. ما أعرفه في هذه اللحظات أن الأنسَ حاجزٌ غير قابل للاختراق. حجابٌ مستورٌ، لا يُكشَفُ عُريّهُ إلا بعد تمزيق جدران الهوة التي صنعها والداي في داخلي، قبل أن أستأصل جذور الهمّ، همي الكبير الذي سيلاحقني لآخر العمر كما سمعتُ جدتي نائلة تقول: "لقد اورثتماه همًّا كبيرًا.. سيلاحقه حتى آخر أيام حياته".
أبي هنا.. وأمي هناك
أبي هناك.. وأمي هنا..
وأنا ضائعٌ مشتتٌ، لا أرض لي هنا، ولا انتماء لي هناك.