تهبط إحدى السيدات من سرفيس (باص) يحمل فوق كتفه عبارة (شارع الثورة) بعد أن نجت من معركة تزاحم الصاعدين في سبيل الظفر بنصف كرسي باعتبار أنه يتسع لشخصين وفق منطق "دبر حالك" الذي ينتهجه السائقون. يمكن التكهن بسهولة كبيرة أن هذه السيدة متوجهة نحو "سوق الحرامية"، فالقادمون إلى هنا معوزون بالفطرة، يقصدون السوق لتوفير بعض الليرات، فما بالك بتكبد كلفة سيارة أجرة للوصول إلى سوق "الفقراء".
كل شيء في هذا السوق القابع وسط العاصمة دمشق يدعوك للاستغراب والدهشة. تُشير التسمية المشبوهة للسوق - الحرامية - بكل صراحة وعلنية إلى مصدر المعروضات. مفارقات عجيبة تحيط بهذا السوق؛ بدءًا من وجود مفرزة أمنية على طرفه تراقب حركات الباعة، وصولًا إلى طرافة المبتاعات التي لا تتوقع وجودها، ناهيك عن ظرافة الباعة.
عند مدخل السوق، تجد بائعة طاعنة في السن، شبه صماء، صغيرة الحجم، متكورة على كرسيها الأصفر تحفظ الجمل عن ظهر قلب وترددها بانتظام، تبسط أغراضها على حصيرة، تفترش الأرض بزجاجات "ويسكي" فارغة تنتمي لماركات عالمية ومفكات براغي وشطاف صحي وغطاء ساعة كهربائية وغيرها من الأشياء الطريفة. عند مرورك من جانبها، تخبرك بالسعر، وحين تحاول الاستفهام أكثر، تشير بيدها أن سمعها ضعيف وأن عليك رفع صوتك للأعلى بما يشبه الصراخ.
[من تصوير الكاتبة].
في هذا السوق الذي لا تتجاوز مساحته مئات الأمتار، تستطيع إيجاد ضالتك مهما كانت في غاية الصعوبة والفرادة، وقد يحدث أن تعثر على غرفة نومك التي نُهبت على عجالة في معركة ما، فالسوق يصنف كأحد الأماكن المثالية لإيجاد مفقودات الحرب، كحال أبو قتيبة الذي فوجئ بغرفة نومه التي يحفظها عن ظهر قلب ويقول عن تجربته: "منذ أربعة أعوام قصدت سوق الحرامية لشراء طاولة عوضًا عن المكسورة في منزلي، لكني وجدت غرفة نومي التي سرقت من منزلي في جوبر، تعرفت عليها جيدًا، كانت معروضة بسعر بخيس، رفضت اقتنائها، فكيف يعقل أن أشتري غرضًا كان ملكي في الأساس! شعرتُ بالظلم وخرجت حينها، لكني تعودت وبدت أقصد السوق على الدوام".
فساتين سهرة وحمالات الصدر
تمسك عائشة (37 عامًا) بفستان أبيض ملطخ بالغبار والأوساخ تحت قبة شمس آب اللهاب، تقلبه يمنة ويسرة مرددة سعره بلهجة حمصية: "معه شاحط طويل على الأرض ومع الغسيل بيطلع أبيض مثل الثلج، سعره 10 آلاف، يا بلاش!". تعبر السيدة عن تذمرها من زبونة كثيرة الإلحاح لشراء عشرة فساتين دفعة واحدة، تقول: "صدعت رأسي من كثرة الاتصال بي، تريد شراء كمية مني ثم تأجير الفساتين مجددًا في الحفلات والمناسبات، اتصلت بي وأنا مشغولة في الانتقال لمنزل آخر. يأتي الكثير من أصحاب محلات الحلاقة إلى هنا". تبيع عائشة فستان واحد يوميًّا، وعند سؤالي لماذا لا تبيعين الفساتين دفعة واحدة، تجيب: "هيك أحسن، بيع كل يوم قطعة، على مزاجي".
على وقع صوت بائعة أخرى، تتوغل يد أم وائل بين أنقاض حمالات الصدر المهترئة متفحصة مدى جودتها وحشوتها المناسبة، أقول لها: "جميعها مرقعة ولا تصلح للاستخدام". تجيب: "دبريها، رخصية بـ500 ليرة سورية فقط، تفي بالغرض، خاصة أنها غير مرئية ومكانها تحت الملابس، أفضل من شرائها خارج السوق بقيمة 6 آلاف ليرة سورية". وتتابع حديثها: "استدليت إلى المكان عن طريق جارتي، أعتقد أن البضاعة مسروقة، أعرف أنه لا يجوز دينيًّا شراؤها، لكنني مجبرة، أوفر النقود لأولويات الطعام والشراب".
مشاهدات متفرقة
يتوقف طاهر عند بداية سوق الحرامية للسؤال عن سعر دراجة نارية أعجبته وتبدو جديدة، يرد عليه البائع بجملته الشهيرة: "تحتاج فقط لتعديلات بسيطة، وبترجع جديدة وكالة، بتاخدك لوين ما بدك بطاسة بنزين". يقول الشاب: "سعرها 80 ألف ليرة سورية، رخيصة، توفر لي عناء المواصلات، لكني لا أعرف مصدرها، أخشى أن تكون مسروقة وأتعرض للمتاعب".
[من تصوير الكاتبة].
أحذية ممزقة مصطفة على نحو مهمل وأخرى متكدسة فوق بعضها البعض، تقف البائعة أم خضر (خمسون عامًا) قائلة: "كل قطعة بـ500 ليرة". تلح على الزبونة التي تبحث جاهدة عن حذاء غير معطوب محاولة دفعها للشراء قائلة لها: "خلص خديه بـ250 ليرة، تكرم عيونك الحلوة". ليس الفقر وحده ما دفعها للعمل هنا، بل خسارتها الفادحة لمنزلها في الرقة والاستيلاء على جميع موارد رزقها وأراضيها من قبل تنظيم داعش، إلى جانب فقدانها لأحد أطفالها في الحرب، تتابع حديثها: "أجني قرابة 7000 ليرة يوميًّا، أقضي ساعات طويلة هنا، لقمة عيش مغمسة بالعرق والشقاء".
تحاول زبونة ثالثة مفاصلة البائع على مدفأة مهترئة، تصفها بأنها "نصف عمر"، غير أنه يتجاهلها.
زائرون من محافظات أخرى
لا يعد سوق الحرامية حكرًا على سكان محافظة دمشق، بل ذاع صيته في بقية المحافظات السورية، وأصبح ملاذًا اقتصاديًّا للعديد من معدومي الحال. وهناك من ينتهزون فرصة تواجدهم في العاصمة لزيارته والتبضع منه، كحال أم زايد التي جاءت إلى السوق بعد زيارة الطبيب من أجل حفيدها الرضيع، تحمله متجولة في السوق تحت الشمس اللاهبة دون قبعة واقية تحمي رأس الطفل. تقول أم زايد عن قصتها: "جئت من دير الزور إلى العاصمة لمعالجة حفيدي، مريض ولا أعرف ما خطبه، خرجت للتو ومررت بالسوق لشراء عباءة سوداء". تتجادل مطولًا مع البائع حول السعر، يرفض بيعها بـ1500 ليرة سورية ويختم مفاصلته معها "لدي بـ4000 فقط، طلبك غير موجود".
هناك من يضطر لبيع أثاث بيته بداعي السفر
معظم البضائع المباعة في سوق الحرامية يكون مصدرها السرقة أو "التعفيش" وهو مصطلح شعبي شاع استخدامه خلال سنوات الحرب السورية للتعبير عن حالات السرقة التي كانت تحدث خلال العمليات العسكرية. لكن في المقابل، هناك العديد من الأشخاص الذي يعرضون أثاث منازلهم للبيع لداعي السفر والهجرة خارج سورية. فمثلًا يبيع أبو عبد في محله غرف نوم وجلوس وبرادات وغسالات وفرش نوم مستعملة وغيرها يوضح قائلًا: "أرفض بيع المسروقات حتى لو كانت مربحة، يأتي إلي الكثير عارضين مقتنياتهم، أبيع فقط لأصحابها بعد أن أتأكد أنهم يودون تصريفها بداعي السفر أو حدوث أعطال كثيرة ويودون استبدالها بجديدة".
ما قبل عام 2011
يُعد سوق الحرامية أحد أشهر الأسواق الشعبية في العاصمة دمشق، ليذيع صيته في بقية المحافظات السورية. ويقدر عمر السوق بين 30 - 50 سنة. ويشارك أبو عمر الستيني الذي يعمل بائعًا في كشك مجاور للسوق بعض التفاصيل عن تاريخ المكان: "في السابق اعتاد البائعون شراء بضاعات مسروقة من أماكن مجهولة، إذ يأتي أحدهم ويتفاوض مع البائع على غرض بعينه ثم يتفقان على سعره الذي غالبًا ما يكون بخيسًا نظرًا لكونه مسروقًا، مما يقلل من قيمته المالية". ووفقًا لأبي عمر، بعد الاتفاق يسلم الرجل صاحب الغرض البضاعة في اليوم التالي. وجميع من يتعامل مع السوق على دراية بمصدر المعروضات حتى أجهزة الشرطة في المدينة.
هذا وكانت أرصفة سوق "الحرامية" تشهد اكتظاظًا كبيرًا بعمال مهاجرين داخليًّا من الأرياف والمحافظات الأخرى القادمين إلى دمشق بحثًا عن لقمة عيشهم إضافة إلى العديد من المهجرين من العراق ما بعد الاجتياح الأمريكي للبلد.
مطاردات وإخلاء سبيل ونسبة ربح
هذا وكانت الحكومة السورية تفرض الضرائب والجبايات على الباعة قبل عام 2011، إذ كان يفرض عليهم تسعيرة وفق المتر التي كانت تترواح آنذاك بين 25 ـ 50 ليرة سورية (ما يوازي في ذلك الوقت دولارًا أميركيًّا أو ٥٠ سنتًا) وقد تصل إلى 200 ليرة لأصحاب البسطات الكبيرة (ما يوازي ٤ دولارات أميركية)، أما خلال سنوات الحرب فقد تغيرت الآلية وباتت محافظة دمشق تمنح رخص البسطات والإشغالات لذوي الشهداء والجرحى ومصابي الحرب. لكن هذه السياسة الحكومية سرعان ما بدأت تحكمها الوساطات وتوصيات أقارب المسؤولين. يقول صافي (اسم مستعار) بصوت مخنوق: "أنا جريح حرب، حاولت مرارًا الحصول على رخصة كشك للترزق، لكن دون جدوى، لأكتشف لاحقًا أنهم قاموا بمنحها لشخص آخر تبين أنه قريب أحد الوزراء".
للأسف في سوق الحرامية الجميع في صراع يومي للبقاء، كتلك المرأتين اللتان بدأتا بالشجار والتلاسن من أجل كسب زبونة، تقول الأولى "أنا رأيتها أولًا فلا تتدخلي"، لتجيب الثانية: "غير صحيح أنا رأيتها قبلك". لتذهب الزبونة هربًا من الاثنتين خاوية اليدين.
الأقدمية لها الأحقية في إدارة السوق وتيسير الأمور
لا ضير من إقامة علاقات طيبة مع رجال الشرطة ممن يغضون الطرف عن رواد سوق الحرامية باستثناء حالات معينة. يقول عنصر في الشرطة فضل عدم الكشف عن اسمه: "نصرف النظر عن الكثير من التجاوزات التي تحصل هنا كالشجارات بين الباعة والتنافسات فيما بينهم، لكن أحيانًا نضطر لاعتقالهم لكن نفرج عنهم بعد أيام قليلة كي لا يثيروا المتاعب، وهناك حالات لا يمكن إغفالها، فكثيرًا ما يأتي إلى هنا أناس يتعاطون المخدرات والأدوية المخدرة". يتابع الشرطي حديثه بالقول: "في إحدى المرات أتت سيدة إلى السوق وبسّطت بضاعتها على الشارع ثم بعد ذلك قامت بقطع أوتار يدها بسبب خلاف مع حبيبها، تبين فيما بعد أنها غير متوازنة نفسيًّا وتتعاطى المهدئات". في هكذا حالات تتدخل الشرطة لضبط تداعيات الأحداث.
وهناك تراتبية للسلطة داخل السوق، فماهر أحد الباعة القدامى في سوق الحرامية، حيث يعمل منذ أكثر من 13 عشر عامًا، يتمتع بسلطة ونفوذ في المكان، إذ يروي أنه يستطيع تدبير أمر أي أحد يرغب في تنصيب بسطة حتى لو رفضت المحافظة ذلك. بسبب هذا الوضع يلجأ إليه الكثير من الراغبون في العمل بالسوق، وعن هذا يمازح قائلًا: "إذا أردتِ العمل هنا أخبريني فقط وكل شيء محلول، ستكوني بحمايتي ولن يزعجك أحد". يرفض الشاب تقاضي أي أجر أو نسبة ربح مقابل السماح بالتبسيط، لكنه لا ينفي وجود الكثير ممن يقوم بذلك وفق تسعيرة يتفق عليها الاثنين وتناسب الطرفين وذلك حسب قوله.
بعد ساعات طويلة من التحدث للباعة والزبائن، أخرج من السوق وأنظر خلفي، تتراءى لي بقعة من العشوائيات والفوضى العارمة، أردد في نفسي: "كم تشبه تسمية هذا السوق حال بلدنا!".