عندما تضيقُ الجغرافيا تضيقُ مساحة السياسة، وتغيب الدولة، تتحوّل الدولة إلى خطاب بلاغيٍّ أو احتمالٍ مرهون بالتحرير وبالقضاء على الإرهاب، وإلى مشروع مستقبلي قائم على الوعود لا ملامح له، نسمعُ عنه في تصريحاتٍ ومطوّلات بلاغية ومقابلات صحفية وخطابات أقل ما يمكن أن يُقال عنها: إنها في واد ونهر الواقع يتدفق في واد آخر. وحين تغيبُ الدقة في تناول الظواهر، وفي تقديم الحلول للمشاكل القائمة التي تزيد من معاناة المواطنين العاديين، تتحول اللغة نفسها إلى نوع من الكذب الذي تحوّلهُ القوة إلى صدق، أو تفرضهُ على الآخرين كصدق. وحين يكون الآخرون مهددين ولا مستقبل لهم، ولا بوصلة تقودهم، فإن خوفهم وغرائزهم تسيّرهم ويصبحون جاهزين لقبول الأكاذيب المفروضة والمُسوَّقة كحقائق. وحين يتم تغليب المعادلة الأمنية على المعادلة العقلية في معالجة اضطرابات البلدان تتحوّل السياسة إلى إجراءات عنفية ثم تَعْلق في حالة من الاستمرارية النفعية، التي تفيد، أو تسند وجودًا آنيًّا لا يدوم على المدى الطويل، فيما يتحول الإعلام إلى بوقٍ تبريري تسويغي، يُنفخ كي يصدر ألفاظه الهوائية، أو يولد ضبابًا يحجب القضايا الجوهرية، وهذا ما يجري حاليًّا في سوريا، فالكل منشغل ليس بتأمين حياة حرة وكريمة للإنسان السوري، ولبناء دولة مدنية تعددية علمانية وديمقراطية، بل باقتتال لانتزاع الكرسي أو للحفاظ عليه، وفي خضم هذا الاقتتال، تتآكل الجغرافيا ويتفكك معها الوطن، وتصبح الحدود ضبابية، ولا نعرف الشكل الذي ستتكشف عنه، أو من الذي سيرسمها.
غير أن المشاكل في سوريا ليست سياسية واقتصادية واجتماعية فحسب، بل يمكن أن نضيف إليها مشاكل بيئية إما ناجمة عن أخطاء بشرية كبقعة الوقود (الفيول) التي تسربت من مصفاة بانياس مؤخرًا ولوثت الساحل السوري الضيق كله وامتدت حتى جبلة واللاذقية وصولًا إلى قبرص وتركيا مما يهدد ما تبقى من آثار حيوات بحرية في المتوسط، أو ناجمة عن سياسات إقليمية كدور تركيا في أزمة مياه نهر الفرات والذي أدى إلى خفض منسوبه بشكل خطير، أو عن عوامل مناخية بدأت بالظهور أخيرًا في الساحة السورية مكشرة عن أنيابها، فبحسب تقارير عالمية سوريا هي بين تسع دول مهددة بخطر حقيقي نتيجة التغير المناخي، كما أن خطر الجفاف يتربص بها، وساهم الاحتباس الحراري في ضعف الرياح التي تحمل أمطار البحر المتوسط كما قال بعض علماء المناخ، ولم يكن تحذير رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مزحة حين صرح مؤخرًا أن الحضارة البشرية مهددة بالانهيار على غرار الإمبراطورية الرومانية إذا لم تعالج مشكلة التغير المناخي، فكيف هو الحال إذا كان البلد المهدد صغيرًا وتعصف به الصراعات كسورية، وخاصة أن موجات الجفاف قد بدأت منذ أكثر من عقد توجه لكماتها إلى الجسد السوري المنهك وشبه المتصحر كأنه كيس رمل معلق في فراغ صنعته السياسة؟ وبدأ انحسار منسوب مياه نهر الفرات وتضررت زراعة القطن والقمح وترافق هذا مع نضوب الآبار في أرياف كثيرة لم يعد يتوفر فيها ماء الشرب أو ماء الريّ، ومع هجرة مكثفة من مناطق لم تعد قابلة للسكن إلى مدن هي الأخرى لا توفر سبل حياة كريمة، وتتسم باتساع أحياء صفيحها، وبتحول السكن فيها إلى إقامة مؤقتة في ريح الظروف المتقلبة والكل ينتظر فيما الواقع يزداد سوءًا. وربما كان هذا الوضع الذي بدأ قبل ٢٠١١ هو الذي دفع البعض إلى التحدث عن عوامل مناخية وبيئية لعبت دورًا في الصراع السوري، حتى أنه صار يمكن القول إن التغير المناخي تواطأ مع الاضطرابات السياسية وأدى إلى الوضع المأساوي في سورية.
بعد مرور أكثر من عقد على الحرب يبدو مستقبل سورية غائمًا كليًّا، وهذه الغيوم لا تبشّر بمطر، ذلك أن أقسامًا كبيرة من البلاد ما تزال مهدمة، وبلغ عدد النازحين والمهجرين والمهاجرين أرقامًا خيالية، كما أن الوضع العسكري على الأرض لم يتغير إلا قليلًا ذلك أن البلاد تبدو الآن مقسمة وما تزال أجزاء كبيرة منها تحت سيطرة الجيوش الأجنبية، كما أن الطيران الإسرائيلي يخترق الأجواء السورية معربدًا، دونما أيما اعتبار لوجود أحد، كما لو أن إسرائيل تقول بصوت طائراتها الخارق لجدار اللامبالاة العربية والروسية إنها الآن شرطي المنطقة ولا أحد يستطيع أن يقول لها لا.
على صعيد آخر ما يزال النشاط السياسي المتعلق بالأزمة السورية يشير نحو التصعيد العسكري، ذلك أن تحالفات عسكرية جديدة قد أُعلن عنها، وشاهدنا فيديوهات تصوّر تخريج مقاتلين جدد في الأراضي التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة، تحت عناوين لا نعرف حقيقتها المستترة، كما أن المناطق التي تسيطر عليها قوى السلفية الجهادية المتمركزة في إدلب وجبال اللاذقية تشهد تسارعًا في الأحداث كان أحدثها محاولة أبي محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) التخلص من مسلم الشيشاني طالبًا منه تفكيك فصيل "جنود الشام القوقاز" والرحيل، ما يشير إلى ترتيبات إقليمية لا نعرف فحواها حتى الآن، كما أن محاولات التجميل الإعلامية التي قامت أطراف دولية من خلالها بإضفاء لمسات تهذيب وصقل مدنية على الصورة السلفية الجهادية لأبي محمد الجولاني، المتحدر من رحم القاعدة، والذي ظهر في إطارها في بدلة عصرية تقطع مع لباس أعضاء القاعدة (الذي يذكّر بالعصور الغابرة) توحي بجاهزيته لبيع نفسه لأي مشتر دولي، وتنبئ بتحولات لدى القوى الغربية الكبرى قد تتمخض عن الإقرار بشرعية ما اعتبره الغرب دومًا في إعلامه من قوى الإرهاب والظلام، وليس هذا مستبعدًا ولا مفاجئًا من الدول الغربية التي قد تدفعها مصالحها إلى خيارات أنانية ضيقة، فما يهمها في النهاية ليس إنسان المنطقة العربية بل مواردها وأسواقها، كما يشهد التاريخ.
على صعيد آخر، برهنت الحكومة في سوريا أنها غير قادرة على تلبية احتياجات السكان، أو على إعادة الإعمار، واستعادة السيادة، والتي كانت الكلمة الأساس في خطابها السياسي على مر الأعوام السابقة. وعاد الوضع في كثير من المناطق إلى عصر ما قبل الكهرباء والهاتف، فقد انطفأت المصابيح وتوقفت البرادات عن العمل، وصارت جرة الغاز حلمًا كرغيف الخبز، ولجأ الناس إلى العادات القديمة في الطبخ والغسل والجلي، واحتُطبت الغابات من قبل مافيات تجارة الأخشاب وبيعت كوقود، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية وفقدت الليرة السورية قيمتها إلى درجة أن معاناة السوريين قد طوفت قصصها في الآفاق حتى صارت على كل لسان وفي كل موقع على الإنترنت من خلال الصوت والصورة بحيث أن دوائر الرقابة التقليدية التابعة لوزارة الإعلام لم تعد قادرة على حجب الحقائق. وجاءت العقوبات الغربية كي تزيد من معاناة الناس.
غير أن المشكلة الخطيرة الأخرى التي تهدد سوريا، والتي يمكن اعتبارها متداخلة مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي المشكلة البيئية التي لا أحد يدق ناقوس خطرها الآن، ففضلًا عن تلوث المزروعات بسموم الذخائر المنفجرة على مر أعوام الصراع، وتغلغل هذه السموم في التربة، وارتفاع نسبة السرطانات بين السوريين، حذر علماء المناخ من دورات قاسية في منطقة شرق المتوسط قد تؤدي إلى تغييرات كارثية، مما يعني أن ملف الأزمات التي يجب حلها، والذي سيقع على عاتق أي مشروع سياسي مستقبلي في سوريا سيكون هائلًا وضخمًا وخطيرًا. حتى أنه يمكن القول إنه سيكون مسألة حياة أو موت. وإذا ما استمر الوضع على حاله، دون حسم أو حل في الأفق، ودون إجماع سوري على حل، وإذا ما تواصل الاتكال على الأوضاع القائمة واستغلالها، وعلى جيوش تحرس مصالح متضاربة ولا يهمها سوريا والسوريين، وإذا ما استمر العيش في ظل الحروب والاضطرابات، والتي تقدم فسحة آنية للاستمرارية بالنسبة لبنى القوة في سوريا فإن المستقبل ينذر بما هو أبعد من العودة إلى ما قبل الدولة.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن الانتماء الطائفي أقوى من الانتماء الوطني في سوريا، وأن الحياة السياسية المدنية معطلة بشكل كامل، وأن المال السياسي أفسد أشخاصًا كثيرين من العاملين في التيارات السياسية المعارضة، بل إن بعض من خاض التجربة اكتشف بنفسه، وصرّح علنًا أن اللجوء إلى الآخر الإقليمي أو الدولي يؤدي إلى نهاية ذليلة، هذا إذا لم تكن مأساوية. ذلك أن المال الإقليمي أو الدولي الموظف في السياسة يديره خبراء ماهرون، ينصبون الفخاخ وقادرون على إفساد الملائكة فكيف ببني البشر، ولا شك أن هذا المال لم يُدفع حبًّا بالسوريين بل للقضاء على أي جوهر مدني لديهم قد يتجاوز الحدود وينتقل، ناقلًا معه نداءات الأجيال الجديدة، مما يقتضي من السوريين أن يُجمعوا وأن يقتنعوا بأن الحل يجب أن يخرج من صلب معاناتهم. قد يبدو هذا الكلام مجازيًّا أو شعريًّا، وينافي الواقع ويقارب المستحيل، لكنه مجرد فكرة أستضيء بها في هذا الظلام كي يكون بوسعي القول بكل قوة إن كل الرهانات السابقة على الأجنبي والإقليمي أدخلت سوريا في متاهة التوازنات على حافة الهاوية وقضت على روح شبابها المدنية أو حيدتها إلى حين، وبالتالي، فإن الوضع الاقتصادي المتفاقم والوضع البيئي المتفاقم والوضع العسكري المتفاقم والوضع الاقتصادي المتفاقم والوضع الاجتماعي المتفاقم كلهم ينذرون بالانفجار، وبتهديد حياة السوريين على المستويين الآني والمستقبلي، وإذا لم تُطرح حلول جذرية فورية قائمة على إجماع سوري فإن سوريا قد تصبح في المستقبل القريب أرضًا غير قابلة للسكن أو صالحة للعيش.
إن السياسات القائمة داخل سوريا وخارجها هي سياسات صفقات: صفقة مع الروسي وصفقة مع الأميركي وصفقة مع التركي وصفقة مع الإسرائيلي وصفقة مع الإيراني وصفقة مع السعودي وصفقة مع القطري إلخ، ولقد أسهمت جميع هذه الصفقات بشكل أو آخر بمآلات الوضع في سوريا، ربما قدم بعضها حلولًا آنية لمشاكل أمنية واقتصادية محدودة غير أنها كلها صفقات متنافرة ومتضاربة وتخدم أجندات مختلفة، وكل طرف قد يتخلى أو يبيع الطرف الآخر في صفقة مصالح مربحة يومًا ما. ولو افترضنا أن الصفقات التي تُنسج على الصعيد السياسي، ستنجح في النهاية فإنها ستؤدي إلى ترتيب الأجساد السياسية للنظام وللمعارضة وبالتالي ستشكل في المستقبل مزيجًا منهما، فهل سيكون هذا مزيجًا إرضائيًّا على الطريقة اللبنانية؟ أم هل سيؤدي إلى حل يغلّب الوطني على الطائفي، الواجب على الحصة، ومستقبل سوريا على المكاسب الآنية؟
لا شيء من هذا واضح في الأفق الحالي لتقلبات الأحداث، والتي تتجه نحو تصعيد عسكري، ومزيد من الجوع والعطش ومحاولات الهرب والهجرة. بالتالي، يجب على الحريصين على سوريا، وعلى المنخرطين في كل القوى التي يهمها مستقبلها، أن يعملوا من أجل سلالات ستنحدر منهم يجب أن تعيش، ويجب أن يقتنعوا في النهاية بأن الوضع الحالي يدمر إمكانية العيش للأجيال القادمة، وأنه آن الأوان للتفكير خارج ما تمنحه المكاسب الآنية.
يحتاج هذا إلى قلب للأوليات، فبدلًا من الصراع على السلطة وسفك الدماء من أجلها أو لحمايتها، تحتاج سوريا إلى إجماع سياسي جديد قائم على الحوار والتفاهم بين مختلف القوى السياسية التي يهمها بناء دولة مواطنة، ويقتضي هذا جيلًا سياسيًّا جديدًا، من أبناء سوريا الذين يؤمنون بأن بلادهم قادرة على منح حياة سعيدة وكريمة لكل أبنائها إذا ما أُديرت بدقة ونزاهة وإنصاف ووضعت مواردها في خدمة هذا المشروع ووفق رؤية سياسية عميقة قادرة على أن تبني أفقًا سياسيًّا للتعدد والحرية والديمقراطية والعلمنة، ولتحويل سوريا إلى فردوس لأبنائها.
لكن منطق السياسة في منطقتنا منطق استيلائي تغيب فيه الديمقراطية والحقوق ولا يوجد آخر، وتتحول فيه الأنا التي تلبسُ الثياب الوطنية أو التدين إلى أنا سلطوية متورمة لا تؤمن إلا بنفسها وبمصالحها ولو كان هذا على حساب شعب منهك.
ثم يأتي العامل المناخي لينفخ في بوقه دون أن نسمع من يطرح حلولًا على هذا الصعيد. ما الذي سيحدث إذا تواصل انحسار منسوب نهر الفرات؟ وما الذي سيجري إذا خرجت مساحات جغرافية شاسعة عن الخدمة الزراعية وتصحرت بفعل التغير المناخي؟ وإلى متى سيبقى وضع الطاقة المأساوي على حاله؟ هل سنلجأ إلى نهر الخطابات التي تدوي في كل مكان في شمال سوريا وجنوبها وشرقها وغربها، حيث العسكرة والتطويع و"الكمون في البداية والهجوم على القوافل"، والتمترس في إدلب وحولها وفي جبال اللاذقية وحولها واحتلال النفط في الشمال الشرقي، وصليل جنازير الدبابات في الشوارع، وتحليق طائرات تنطق بلغات مختلفة في الأجواء، ونشر المقاتلات في المطارات والغواصات وحاملات الطائرات في البحار، والتي تشير كلها إلى أن الجفاف السياسي يشقق وجه سوريا كما يشققه الجفاف الناجم عن التغير المناخي، وأن الصحراء تزحف في خديها والمياه تغور في صدرها، وطبول الحرب تُقرع فوق رأسها، فيما عرض العضلات العسكرية هو الوحيد المرئي على مسرحها الضيق.