جمال حيدر
(لندن للنشر والتوزيع، لندن، 2021)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
جمال حيدر (ج. ح.): في زيارتي الأخيرة إلى العراق عام 2017 قررت زيارة قبر أبي في مقبرة وادي السلام، في مدينة النجف الأشرف، المقبرة الأكبر على الأرض، مساحتها تقارب بلدًا جميلًا متخمًا بالحياة مثل لبنان. لم أزر تلك المقبرة منذ صغري. هناك هالتني سيماء المكان، وأسرني مشهد القبور الممتدة على مرمى البصر، والشواهد التي تخيلتها حمامات بيضاء تحلق في سماء المقبرة. ظل المشهد يرواد مخيلتي، ليغدو بالتالي المسرح الطبيعي الذي يحتفي بأحداث الرواية.
خطواتي الاولى في المقبرة كانت مربكة، ومع كل خطوة في أعماقها يتصاعد أنين يعصف بجسدي ويترك ظله المتكسر على الأرض الساخنة. أسير برفقة شقيقتي التي تعرف المكان مليًّا. وبخطوات حذرة نبحث عن قبر أبي، تاهت أقدامنا في الدروب الملتوية حول القبور، لكن المقبرة مكثت عميقًا في ذاتي.. وما زالت.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ج. ح.): يتناول العمل تفصيلًا صغيرًا من مشهد الانتفاضة الشعبية التي شهدها العراق عام 1991 ضد النظام الحاكم آنذاك. ويتمحور حول شخصيات متناقضة المنابت والأقدار تتخذ من المقبرة ملاذًا لها هربًا من الأجهزة الأمنية، إضافة إلى علاقتها بالمكان: القبور الممتدة على مرمى البصر تحت الشمس والغبار، والطرق الترابية الفاصلة بينها، وهديل الحمام، وظلال أشجار السدر الموزعة في مفارق المكان. تتواصل الأحداث في سياق البحث عن منفذ للهروب من المصير المفزع الذي يحاصر أيامهم.
في المقبرة، حيث يختفي الرجال، ثمة صمت جليل يكلل المكان، إنه صمت الموت وسكون الموتى. تمر نساء ينتحبن ويمسحن دموعهن بأذيال عباءاتهن السوداء، يخاطبن أمواتهن عن بعد بحزن وحرقة وبنحيب يحمل الكثير من الفقد.. فقدان الأحبة. في هذه المناخات تتحرك الشخصيات التي تتقاطع حينًا، وتتواصل حينًا آخر في حياة تجاور الموت والموتى بأدق تفاصيله.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ج. ح.): أمام تراجع الشعر قليلًا عن الواجهة بدأت الرواية تتقدم في مسارات النشر والتوزيع والقراءة، إلى الدرجة أن أسماء عدة لا حصر لها من شعراء على درجة من الشهرة، في مشرق المنطقة وغربها.. وحتى خارج حدودها الجغرافية خطت مسارها في كتابة الرواية. وكأن هذا الجنس الأدبي بدأ يتقدم بعدما منحه الشعر مساحة كافية في واجهة الإبداع العربي، إذ حظيت الرواية على موقع «الأكثر مبيعًا» مكانًا لم تحظ به كتب الشعر. وهنا ينبري السؤال الأهم، وهو: هل تخلى العرب عن ديوانهم.. ولماذا؟
ربما أصبح للرواية الآن سوقًا وقراء وجوائز مغرية، بالمقابل بدأت صناعة الشعر بالتراجع، خاصة مع تأفف الناشر من طبع مجموعات شعرية بذرائع شتى أهمها غياب القارئ أولًا والناقد ثانيًا، وصعوبة تسويقها، رغم جودة الكثير منها.
يقال إن الرواية ابنة المدينة، على عكس الشعر فهو ابن البادية، وفي ربوعها ترعرع واتسعت معالمه، لذا فالشعر صناعة عربية بحت، على عكس الرواية فهي صناعة أوروبية. غير أن تلك المعادلة تغيرت تمامًا لصالح الرواية، لتغدو منذ أقل من عقد صوتًا إبداعيًّا عربيًّا ملحوظًا لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزه.
الروايات الصادرة في الأعوام القليلة الماضية تجسد المكان بمثابة المحور الأهم في حبكتها، إذ تمثل فيها أهمية بالغة في دلالة الحبكة وتنامي الأحداث وتحديد مسارها وأقدار شخوصها، إلى جانب كشفها للمناخات الاجتماعية. لذا يمكن القول إن الرواية العربية الحديثة بدأت تتلمس طريقها في ملامسة حياة الناس وتفاصيلهم اليومية، لهذا كان اختياري للرواية كمنفذ وأداة ووسيلة.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ج. ح.): ليس ثمة صعوبات تذكر، غير أن التحدي الأهم تمثّل في تقويض البطولة الفردية، الجميع بنظري أبطال بمستويات متمايزة ونسب متفاوتة، وبالتالي هم من يصنعون التغيير. أنا ضد ظاهرة الـ"سوبر مان" بشكل مطلق، وبهذا المعنى استغنيت عن البطولة الفردية في الرواية واستعضت عنها ببطولة جماعية توزعت على خمس شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية مؤازرة، تنوعت بين رجال ونساء على حد سواء.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ج. ح.): صدر لي العديد من الكتب توزعت بين النقد والأدب والاجتماع والرواية وأدب الرحلات والترجمة. على صعيد الترجمة ثمة خمسة مجلدات للأعمال الكاملة للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس، بالاشتراك مع الصديق الشاعر عبد الكريم كاصد. يأتي تسلسل الرواية ضمن 19 كتابًا مثلت تجربتي في الكتابة. وستظل تلك (التجربة - المحاولة) ماضية في مسارها حتى الشهيق الأخير.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ج. ح.): أكتب إلى عالمي الصغير: ابني وابنتي وأصدقائي وحبيبتي، وبصورة أكثر تحديدًا، أكتب إلى قارئ يُدعى جمال حيدر. أكتب له ليغدو أكثر قربًا مني، وليترسخ عميقًا حوارنا المتبادل من أجل فهم هذا العالم المتخم بالتناقضات. لهذا أستقطر المفردة وأغور عميقًا في المعاني المرادفة غير المباشرة. يأسرني ظل المعنى والكتابة المخاتلة المخفية بعناية للواجهة المرئية التي تخطو بأقدام ثابتة وإيقاع رتيب نحو الهدف. تغريني الكتابة التي غالبًا ما تكون على حافة الشعر، إنها السحر الذي يلف المعنى. أوليس الشعر سحرًا؟
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ج. ح.): ما زلت أقرأ بنهم لأن القراءة هي الدافع الحقيقي للكتابة. فالقراءة هي الومضة التي تقدح شرارات عالم الكتابة وتلهبها. الكاتب الجيد هو بالأساس قارىء جيد، ولعل الكثير من الكتابات في المنطقة العربية تشير إلى حجم تدهور نسبة القراءة حتى من قبل أهل المهنة وصنّاعها. الكثير من الكتب قرأتها مرات عدة، أعود إليها في مفاصل زمنية خاصة، عديدة هي الأسباب التي تدعوني لعشق هذه الكتب، ربما لأنها تذكرني بقيمة الحياة، أو تطرح أسئلة جادة عن ماهية الحياة ومساحتي فيها، أسئلة كبيرة وعسيرة تطرق عالمي بقوة، خاصة بعد مسار حياتيّ طويل.. ربما لأن المقبل من الزمن أقصر بكثير مما انقضى، وبهذا يغدو الماضي هو كل ما تبقى لنا من حياة.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ج. ح.): لم أدرك جيدًا أن سنوات العمر ستمضي بهذا القدر المتلاحق من اللهاث. لا بد من الاعتراف في هذه الأعوام عجزت عن طرق أبواب أمكنة الحاضر وليس ثمة من يفتح، ربما لا أحد في الداخل. أعيد ترتيب صور ضاعت ملامحها هي البقية المتبقية من حكايا الطفولة، أو أقرب إلى اعتذار من مكان غادرته على عجل. وضعت أشيائي في الحقيبة، لكن ملاعب طفولتي وذكريات صباي ووجوه أهلي وأصدقائي ما زالت هناك. مددت إليها يدي لأتلفع بها.. أنا التائه والمبعد عن وطني. فالمتسلل خلسة لا يودع عادة الأشياء الجميلة القريبة من روحه، بل يظل مقيدًا فيها حتى مماته.
ضمن هذا السياق أحاول كتابة كل ما يتعلق بذلك الماضي الذي ربطني بالطفولة وأعوام الصبا بأرض غادرتها صغيرًا لأعود إليها بعدما تجاوزت عقدي الرابع. يمكن القول إن أغلب أعمالي تتنفس برئة المكان الأول، ذلك المكان كلما ألمح صوره من بعيد أشهق بحسرة وترقرق عيني كطفل انتزع عنوة من أحضان أمه.
ثمة رواية في طريقها للنشر تستعرض الانفجار الإرهابي الذي استهدف مركزًا تجاريًّا في حي الكرادة في بغداد، خلّف ندوبًا في قلوب الأحياء الذين فقدوا أحباءهم، وما زالوا يواصلون التحديق صوب واجهة المجمع المحترق بعد خمس سنوات بحسرة، تلفهم فاجعة الفقدان.
مقتطف من الرواية
القباب الذهبية التي تعلو المرقد تخطف أبصار القادمين إليه، الزاحفين نحوه بقلوب مرتجفة وعيون دامعة، الأبواب المطعمة بالفضة والآيات والنقوش تعكس الأكف المتذرعة التي تمسها، تلك التي تحدوها رغبة التبرك والنجاة من الشرور التي التبستها على مدى عمر بأكمله. رقائق من مرايا صغيرة تتوزع على زوايا الجدران والسقوف تمنح المكان ألقًا مهيبًا، روائح عطور وأدخنة بخور تكتسح بوجل المساحات الفارغة. شفاه تمتم بأدعية متواصلة وتمسح وجهها بباطن أكفها.
تستيقظ المدينة على أذان الفجر الذي يصدح من المساجد الموزعة على المدينة، حيث تبدأ الشمس تبسط كفها لتكشف السماء عن وجهها وتغرق الأسواق والأحياء، وحتى الفسحات الصغيرة بين الأزقة، بوهج الضوء، لكنه يعجز عن الوصول إلى الأزقة التي تلتف حول المنازل المكدسة التي تكاد تغلق الأفق الممتد، والغارقة في سباتها بين الظلال. سيل من جنائز تدخل الصحن محمولة على الأكتاف، ما تلبث أن تخرج منه مكبلة بالدعاء، رجال الدين برفقة قلة من اتباعهم في الطريق إلى الصلاة، معممين شباب متأبطين كتبًا وكراريس يحثون الخطى في أزقة المدينة باتجاه مدارسهم. فلاحون بسطاء يبحثون في الأسواق عن هدايا رخيصة لأحبتهم بعد طقوس زيارة الضريح. المنائر والقباب اللامعة هي بوصلة الاتجاهات في المدينة ومحلاتها الأربع وأسواقها ومطاعمها الشعبية. الضريح هو المقصد الأول للزائرين، فيما تأتي المقبرة التي تطوق المدينة بالموت، تاليًا.
يحترف عدد من شباب المدينة الصناعات المتوشجة مع الموت، كصنع التوابيت ونقش شاهدة المرمر باسم المتوفي وتاريخ ميلاده ورحيله، وثمة من يسعى إلى استقبال الجنائز وإخبار الدفان بوصولها، دراجات هوائية تتسابق مع الهواء لإيصال البلاغات إلى هدفها الحقيقي. فلكل دفان موتاه، وليس مسموحًا تجاوز هذا العُرف.
يحفظ الدفان عادة أسرار وتفاصيل مساحته، أسماء المتوفين وتاريخ دفنهم وأماكنهم. آخرون تقتصر مهتهم على الحفر. الحفارون عادة ما يسبقون الجنازة، يحفرون في الأرض ما يسع الجسد البشري، تنتقل الجنازة من يد إلى أخرى لتوارى الثرى في الحفرة الرملية، وسط حزن وعويل الأهل وصوت الآيات القرآنية التي يرتلها القارىء. الجنازون يعملون بجدية واضحة وعجيبة، لا مكان للعواطف. إنها دورة متواصلة متوشجة مع دوران الأيام.
المقبرة ممتدة على مرمى البصر، إنها الأكثر سعة وفوضوية في التاريخ البشري، ومن الممكن أن تتوه قبل أن تجد قبور أحبتك.
في المقبرة تهدأ الأرواح قليلًا أمام جلل الموت، تغدو الحياة خالية تمامًا من قيمتها الحقيقية حين يتراءى للجميع فصلها الأخير. في الليل تهدأ المقبرة، لكنها لا ترقد، لا شيء سوى القمر الذي يلقي ضوءه الشاحب على الشواهد والقبور ليحيل كل شيء إلى شحوب أزرق. هناك تتلون حكايات الجن والأموات الذين ينهضون من قبورهم ويتجولون في طرقات المقبرة. تتغير تلك الحكايا حين تلوكها الأفواه، تجتاز أسوار المقبرة لتصل إلى المدينة بكل أحيائها، لتجثم بقوة على حياة الناس وعلاقتهم مع الموت.
تنشر العتمة جناحها على المقبرة سريعًا بعد غياب الشمس حين تميل إلى الجانب الآخر.. الجانب البعيد والمقفر، ثم تغادر تاركة وراءها خيطًا رفيعًا من اللون الأحمر يومض مع ما تبقى من شعاع باهت. تتلبد السماء بالغيوم وتكتسي باللون الرمادي الغامق، سرعان ما ينهمر المطر، مطر غزير يصل صوته إلى الرجال وهو يتساقط على شواهد وحجارة القبور وسقوف الحديد التي تغطي بعضها. إيقاع متواصل وممل يبعث على الحزن. تتدفق أصوات المطر من بعيد كنهر جارف، تفوح رائحة عطنة في الهواء، رائحة ترتفع عن الأرض بعد كل زخة مطر ثم تمتد وئيدٍا لتصل إلى القلوب. الشتاء طويل هذا العام، طويل لغاية الملل، ولم يحل الربيع بعد في الآفاق.
اقترب النهار من نهايته لتهب على المكان بعد زخات المطر ريح باردة.. ارتجف الرجال، الأنوار البعيدة تتوهج بذبول. خيم صمت مربك، ثمة عجز عن التعبير، لذا حين تعجز الكلمات يغدو الصمت الرسالة الأكثر بلاغة. الألم يمتد عميقًا، ليس ثمة نهاية مرئية له، لا شيء سوى عويل يتردد صداه في كل مكان، عويل بنغم محير وحزين انثال على الجميع، عويل يأتي من وراء القبور. خرج عبود من مخبئه سائرًا وسط مياه الأمطار التي تركت فسحات من برك الوحل، جلس قليلًا فوق مصطبة قبر تحت شجرة سدر عالية مدت أذرعها بعيدًا عن جسدها، سرح بعيدًا في فراغ المقبرة الممتدة أمامه، اجتاحته موجة حنين، بدأ يغني بصوت حزين وهامس ، غناء يقطر حزنًا ولوعة، بدا صوته ليس بعيدًا عن أسماع بقية الرجال. صوت يخترق الصمت ثم يتلاشى في العتمة، يعود ليعلو ثانية. صمت الرجال وأنصتوا بشغف للصوت الريفي المحمل بقسوة الإقطاع وعتاب الأرض، ذلك الصوت يزيد من جروحهم إيلامًا. ضاق قلب عبود بين أضلاعه وهو يغني، فهو لم يشعر بالرضا أبدًا في حياته، ثمة ما ينقصه على الدوام، لا يعرف ما هو، فكر لو قدر لإنسان أن يبصق ماضيه مثلما يبصق لعابه لتخلص فجأة من كل همومه العالقة. استبد به الألم، صرخ بقوة آه عميقة بعمق الروح، ليتطاير صوته في عراء المكان. تذكر قرية "كحل العين" وزوجته وطفلتيه الصغيرتين ووالدته العليلة وشقيقاته، تذكر الشقاء الذي رافقه منذ يفاعته، مرت كل الأحداث أمام عينيه كشريط يحمل هذه الصور، تذكر.. ليصمت بعدها تمامًا وسط السكون المريب. لا شيء سوى إيقاع أنفاسه التي بدأت تتعالى، وأصوات جنادب وحفيف خفافيش. رفع يده ومسح وجهه، ثم همد المكان ثانية.
رقد الرجال بعدما تلفعوا ببقايا أمل، لم يشعروا بلسعة البرد الذي داهم المقبرة، أغلقوا جفونهم بانتظار يوم جديد.. سيكون هكذا لا محالة، رغم الخواء الذي يلفهم.. خواء يتسع مع الأيام.
*ولد جمال حيدر في بغداد وغادرها في النصف الثاني من عقد السبعينيات، إثر الهجمة التي تعرض لها اليسار. تنقل بين مناف عدة ويقيم حاليًّا في لندن. حصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية.