توطئة المُترجم
[فِي كل سياقات الحُروب والنزاعات والاستعمار دائمًا ما تتم الإشارة الأولى إلى صُور النساء والأطفال على أنهم الضحايا، ويكون هذا في تجاهل تام أو شبه تام للرجال منهم. في الآونة الأخيرة مثلًا، مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ضجّت المواقع الإخبارية الأميركية والأوروبية وكثير من المواقع العربية بصورٍ للنساء الأفغانيات في السبعينيات أو لصور المحال التجارية أو لقصص عن النساءِ بوصفهن ضحايًا لما يحصل هناك، وتحول الجميع إلى فُرسانٍ وأبطال يريدون إنقاذهنّ. وفي الحروب المُتكررة على قِطاع غزّة، عادةً ما تتم الإشارة إلى عدد الشهداء، مع تركيز كبير على عدد النساء والأطفال، وهو ما قد يعني أنهن الضحايا فقط، وأن الرجال ليسوا ضحايا في هذا الفعل البربري القاتل. قد تكون هذه الإشارة محاولة من الصحفيين أو المحليين لجلب التعاطف، ولكن تجد الإشارة إلى أن هذه الفعل ليس بريئًا. في هذه المادة من مايا مكداشي، تتناول الكاتبة هذا الموضوع بحذر وبحساسية نقديّة عاليّة يجب الانتباه إليها.
جدير بالذكر أن هذه المادة كانت قد كُتبت خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014].
***
نصحو كل صباحٍ على تعداد قتلى جَديد: ذبحت آلة الحرب الإسرائيلية مئة أو مئتي أو أربعمئة أو ستمئة فلسطينيّ. تعكس الأرقام أعلاه عدة معلومات: أغلب أهل قطاع غزّة، أحد أعلى المناطق كثافة سكانية في العالم، لاجئون من فلسطين التاريخية. يخضع القطاع لحصار ضَارٍ ولا يمكنك لأحد الاختباء من المجزرة. قبل هذه الحرب كانت غزّة تشبه موقعًا للحجر الصحي، حيث يقبع سكانها أسرىً وتحت رحمة (خِسّة) قدرة إسرائيل على كسر القانون الدولي دون أية مُراجعة أو عقاب. يعيش الفلسطينيون هناك بعلاقة تبعية مع مستعمرهم من ناحية الغذاء والماء الدواء وحتى التنقل. وفي حالة حصل وقفٌ لإطلاق النار، فستبقى غزّة مُحتلة ومعزولة وتحت الحِصار. ستبقى سجنًا مفتوحًا ومخيم لجوءٍ كبير.
ومن المُلاحظات المُهمّة حول النقل الإعلامي للأحداث في غزة عبر وسائل الإعلام الغربيّة: الغالبية العظمى من القتلى الفلسطينيين في غزة هم مدنيون، وتفيد المصادر بأن نسبة كبيرة منهم كانت من النساء والأطفال. قطعًا قتل النساء والأطفال أمرٌ مروّع، ولكن تكرار هذا السطر مزعجٌ، لأنه ينطوي على إخفاء جزء من الحقيقة: الحداد العلني على الرجال الفلسطينيين الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية. صاغت سينثيا إنلو مصطلح «النساء والأطفال» لأول مرة عام 1990 لتوظيف الخطاب الجندري من أجل تبرير حرب الخليج الأولى. علينا الآن أن نكون أكثر وعيًا في توظيف هذا المفهوم عند الحديث عن غزة بشكل خاص وفلسطين بشكل عام. يُحقق هذا المفهوم عدة أغراض خطابية، أبرزها: جمع النساء والأطفال في مجموعة لا يمكن تمييزها ويجمعها «تشابه» النوع الاجتماعي (الجندر) والجنس، وإعادة إنتاج جسد الذكر الفلسطيني (وجسد الذكر العربي بشكل عام) ليكون بالوضع طبيعي جسدًا خطيرًا. وعليهِ، فإن وصف الفلسطينيين الذكور (يشمل الأولاد من سن الخامسة عشرة وما فوق، وأحيانًا يبدأ من سن الثالثة عشرة) على أنهم «مدنيون» يكون وصفًا حذرًا ومحسوبًا.
يأتي سياق جندرة الحرب الإسرائيلية على غزة ضمن الصورة الكاملة لخطاب الحرب على الإرهاب، وكما حاجّت لاله خلیلی بقوّة: استراتيجية مكافحة التمرد ونشر الحرب على نطاق واسع. في هذا الإطار، يكون قتل النساء والبنات والأطفال المراهقين والصِغار في السن أمرًا مُلاحظًا، ولكن الصبيان والرجال فهم مذنبون -افتراضيًّا- بما قد يفعلونه إذا سُمح لهم أن يعيشوا حياتهم. وهؤلاء الصبية والرجال يشكلون خطرًا، ليس على الجنود الذين يحتلونهم، ولكن على النساء والأطفال، المدنيون افتراضًا، فقد يكبر الصبية الصغار ويتحولون إلى متطرفين مُعنِّفِين. وبناءً على كل هذا الافتراض، اقتل الجسد، وأغلق باب الاحتمالات.
فقط ضمن هذا المنطق يمكن الرد على انتقادات حرب إسرائيل على غزة بشكل مباشر، وبتصريحات حول «مصير» النساء والمثليين جنسيًّا «تحت» حكم حماس. في الآونة الأخيرة، ردّ متحدث باسم إسرائيل على إدانة نورا عريقات لانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان الدولية بمشاركته لهذه الحكمة: «لن تسمح حماس لامرأة شابة ليبرالية علمانية مثلكِ بالتعبير عن آرائها. يا سيدتي، حماس لم تسمح لأصدقائي المثليين بالتعبير عن حياتهم الجنسية بحرية». يهدف هذا النوع من البيانات إلى توظيف وتعبئة الخطاب الجندري في الحرب على الإرهاب، وهو خطاب يعزفُ ويلّحن على الأوتار العاطفية لليبرالية الأميركية من خلال التقويد والسمسرة بالحقوق النسوية وحقوق المثليين. تسمح هذه السمسرة بجعل رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) والحرب تبدو على أنها منفعة عامة ودولية، ففي النهاية، «نحن» ندافع عن العاجزين من ويلات الرجال المسلمين والعرب. وقد أطلقت لاله خلیلی على هذا اسمًا، «استخدام "الإملاء" الجندري للتمييز بين أولئك الذين يجب حمايتهم وبين أولئك الذين يجب الخوف منهم أو تدميرهم». هذا الخطاب قوي لدرجة أنه لا يحتاج إلى الاعتماد على الحقائق، لقد تجاوزها في الواقع وحددها مسبقًا.
لا تحمي آلة الحرب الإسرائيلية، ولا الأميركية في العراق وأفغانستان، المثليين والنساء والأطفال الفلسطينيين، بل هي تقتلهم وتشوههم وتحرمهم هم وأحبائهم من كل شيء، وهذا لسبب واحدٍ فقط، أنهم فلسطينيون، وهو ما يعطيهم الذريعة ليقتلوهم على مرأى من العالم أجمع، دون مراجعة أو مُحاسبة. الفرق اليوم بين النساء والأطفال الفلسطينيين والرجال الفلسطينيين ليس في إنتاج الأجساد، بل بالأحرى في تداول تلك الأجساد ضمن الأطر الخطابية السائدة والمهيمنة والتي تحدد على مَن يمكننا الحزن علنًا لأنهم «ضحايا» آلة الحرب الإسرائيلية. بناءً على ذلك، فإن العدد الهائل من القتلى من النساء والأطفال كافٍ لتعبئة رئيس الولايات المتحدة والأمم المتحدة لإصدار بيانات «تدين» العنف، لكن لا أحد يأتي على ذِكر قتل وسجن وتشويه الرجال والأولاد الفلسطينيين في أوقات الحرب ووقف إطلاق النار. أما في إسرائيل، فيصوَّرُ الرجال والمستوطنين وحتى الجنود على أنهم ضحايا للإرهاب والعدوان الفلسطيني. جميعهم يستحقون العزاء والحزن العلني. وعلى العكس من ذلك، لا تعتبر وسائل الإعلام الغربية الرئيسة الصبيان والرجال الفلسطينيين الذين كانوا الهدف الأساسي لإسرائيل ضحايًا للإرهاب والعدوان الإسرائيليين، كما يتضح من عدد السجناء السياسيين والاغتيالات المستهدفة. يُوضع الفلسطينيون في موقف هزيمة ذاتية حيث يتعين عليهم القتال من أجل الاعتراف بهم كبشر، من أجل الاعتراف بهم في حياتهم وموتهم على أنهم ضحايا للسياسات والأفعال الإسرائيلية.
يُنظر غالبًا إلى الجِنس على أنه حادث ولادة: فنحن لم نختر كيفية تطورنا في الرحم. لم نبدِ رأيًا عندما قرر الآخرون أننا ولدنا بمهبل (وبالتالي إناثًا) أو ولدنا بقضيب (وبالتالي ذكورًا). وبالمثل، فإن الخطيئة الأولى لأكثر من مليون غزّي، والتي تجعل قتلهم وتشويههم وحرمانهم من الهواء والأرض والبحر حلالًا زلالًا، هو أنهم ولدوا فلسطينيين. فكلمة «الفلسطيني» تصدّرهم على أنهم تهديدًا وأهدافًا، أما كلمات من قبيل «رجال» و«نساء»، فهي تقرر فقط ما إذا كان قتلهم يستحق الحزن عليهِ علنًا أم لا. لم يختر الفلسطينيون أن يولدوا في فلسطين تحت الاستعمار الاستيطاني ولا أن يولدوا في مخيمات اللجوء المتبعثرة على حدود الدول القومية. لم يختاروا ترك بيوتهم واللجوء إلى غزة. ولأقتبس مالكوم إكس بتصرّف: لم يأتِ (الفلسطينيون) ولم يحطّوا في إسرائيل، بل إسرائيل هي التي جاءتً وحطَّت عليهم.
يزيد التركيز على قتل النساء والأطفال، مع استبعاد الصبيان والرجال الفلسطينيين، من التطبيع مع ومحو هياكل ونجاحات الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. يتم اختيار «المدنيين» و«غير المقاتلين». الرجال دائمًا في موضع الشك والريبة، مع أن إمكانية احتمالية العنف موجودة في الجسد البشري عامةً. ولكن التركيز الفرداني والشخصي يكون لحياة الإناث وحياة الأطفال ويجري الحديث عنه في الإحصائيات. يؤطَّر الفلسطينيون على أنهم يتمتعون بالقدرة على اختيار ما إذا كانوا يشكلون تهديدًا لإسرائيل، وبالتالي يستحقون الموت أم لا، وعليهِ، فهم يستحقون استمرار الاستعمار الذي يبقى ويستمر مُغلفًا تحت عناوين عدّة مثل «وقف إطلاق النار» أو حتى تحت عنوان «السلام» الواهِم والخادِع.
وفي السياق الفلسطيني، لا يستوجب الأمر حمل سلاحٍ لتستحق صفة الثوري أو العدو لدولة إسرائيل، ولا يستوجب الأمر عليك أن تشارك في الاحتجاجات أو أن ترمي الحجارة أو أن ترفع علم فلسطين لتكون خطيرًا، ولا يستوجب الأمر عليك أن تستخدم الأنفاق الأرضية لتهريب الأكل وعلاج السرطان لتكون جزءًا من الشبكة المدنية لدعم الإرهاب. أن تكون فلسطينيًا، يعني أن تكون تهديدًا لإسرائيل. بالنسبة لدولة إسرائيل، وجود الفلسطينيين يذكّرهم دائمًا بوجود آخر «هناك»، يذكرهم بوجود إزعاج ووصمة وإدراك واعٍ أو غير واعٍ لدى الإسرائيليين بأن قيام دولة قومية يهودية أو دولة يهودية ديمقراطية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوجودٍ «آخرٍ» و/أو بمحوهِ.
وانطلاقًا من هذا، يعيش الكل الفلسطيني، من الرجال والنساء والأطفال، ضمن بنية تحتية خطابية ومادية تحددهم وتحجزهم وتعزلهم وتحتلهم وتفرقهم وتحرمهم من حقوقهم وتعيق تنميتهم وتضعهم تحت الحصار وتشن حربًا عليهم، دون محاسبة أو عقاب. لم تعد هذه الممارسات اليومية تصدمنا. ربما لم يعد الأمر مفاجئًا، نظرًا لتطبيع الموت البطيء والإبادة الجماعية والعنف البنيوي والتبعية التي تعيشها يوميًا محميات الأميركيين الأصليين أو الأراضي الأسترالية الأصلية. حقيقة الأمر أن تطبيع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هو الذي ينتج الحرب اليوم على اللاجئين الذين يعيشون في سجن مفتوح في غزة باعتبارها «حدثًا» منفصلًا ومدانًا.
يُحسب نجاحًا للاستعمار الاستيطاني حين يكون الحديث عن «غزة» على أنها منفصلة إلى حد ما ومختلفة عن فلسطين التاريخية، وأن «الضفة الغربية» و«غزة» كيانان منفصلان، بدلاً من كونهما جزء من دولة واحدة مقسمة ومنفية إلى مناطق منفصلة من خلال ممارسات الاستعمار. تتمثل حرب اليوم في السلسلة المتواصلة من العنف البنيوي اليومي وغير الرسمي الذي يواجهه الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية والقدس أو المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل: فهم يعانون من احتكار الموارد ونقص المياه وهدم المنازل ونقاط التفتيش والطرق المخصصة للمستوطنين فقط، وثمة حديثٌ عن «نقل» للسكان إلى السجون المكتظة وإلى المواطنة من الدرجة الثانية. فلسطين التاريخية بكاملها، من النهر إلى البحر، هي الآن مُستعمرة استيطانية إسرائيلية في مراحل مختلفة من النجاح في فرد السيطرة وإبادة الإرادة.
الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيون، كلهم شعب واحد، ويعيش تحت الحصار معًا وفي ظل ظروف استعمارية استيطانية. لا ينبغي الفصل بينهم في الموت وتمييزهم بناءً على أعضائهم التناسلية، لأن هذا الفصل يعيد إنتاج تسلسل هرمي للضحايا والوفيات التي تستحق جميعها الحداد والعزاء. يحتل الإسرائيليون اليهود (بما في ذلك الجنود والمستوطنين) أعلى درجات هذا السلم المروع، بينما نجدُ الرجال الفلسطينيين في أدنى دركاتهِ. هذا التسلسل الهرمي عنصري وجندري على حد سواء، ويسمح للنساء والأطفال الفلسطينيين باكتسابٍ نوعٍ من الحُزن والعزاء العلني فقط في حالات العنف أو «الحرب»، ولكن ليس في حالات الموت البطيء والصامت في ظل الظروف الاستعمارية الاستيطانية أو في حالات وقف إطلاق النار المؤقتة. إن الإصرار على الحداد العلني لجميع القتلى الفلسطينيين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، في لحظات الغزو العسكري وفي أثناء الاحتلال والاستعمار اليومي، لهو إصرارٌ على حقهم في أن يكونوا أحياءً بالمقام الأول.
[نشرت المقالة بالإنجليزية على موقع جدلية. ترجمة أنس سمحان].