الفراغ الذي يتركه صباح فخري بمغادرته لهذه الدنيا، لن يملأه أحد، هذه ليست مقولة عاطفية انفعالية، إنما هي ناتج تجربة علمية واضحة، فهو ابن مدرسة تعلم فيها حتى صار معلمًا، فتبعه رهط من الفنانين، الذين لم يضيفوا لمقولته الفنية شيئًا، ما يعني أنهم وإن برعوا في تصوير أدائه، فإنهم لن يستطيعوا سد فراغه اليوم.
أهمية صباح فخري ليست مرتبطة فقط بنوع غنائه كواحد من أساطير القدود الحلبية والموشحات، إنما تمتد لتشمل نشأته وإسهامه في التوثيق الصوتي للموسيقى العربية الضائعة، ثم نجاحه في الاقتراب من المستمع ببضاعة ليس من السهل تسويقها.
النشأة وأثرها
نشأ صباح الدين أبو قوس (1933-2021) في مجتمع محافظ في مدينة هجينة وفريدة من نوعها، حلب مدينة تجمع بين الصناعة والتجارة من جهة والفنون من جهة أخرى، وهذه حالة مزجية ومزاجية تقتضي التوقف عليها وتحليلها أنثروبولوجيًّا، في هذا المجتمع المتدين تتلمذ في حلقات الذكر وتجويد القرآن، ذاك الصبي الذي سيمنحه صوته القوي الممرّن جيدًا، بطاقة إلى منبر مسجد الروضة مؤذنًا، وهذه بداية درج عليها شيوخ الفن العربي في مختلف البقاع والأقطار، إذ شق أغلبهم طرق الغناء إما بالأذان أو الابتهالات، إلا أن نشأة كهذه ستمنح صباح فخري لاحقًا، مكنة في الأداء المتمهل للمقام، وخبرة في التطريب التقليدي الذي يبنى عليه التجديد وفقًا لزمانه، كما ستمنحه فصاحة في أداء نصوص صعبة من حيث اللغة والمخيال، وذائقة حصيفة تساعده في اختيار القصائد ذات الموسيقى العالية والصور اللذيذة، فضلًا عن دربة نادرة في تجويد اللغة ومخارج حروفها.
الفنان سامي الشوا كان أول من تعهد برعاية الطفل صباح الدين فنيًّا، فاشتغل على خامته وتطويعها، كما دفعه إلى برامج الراديو، حيث استضافه المذيع صباح القباني شقيق الشاعر الراحل نزار قباني، حتى سمع به النائب فخري البارودي الذي كان مهتمًّا بالتنشئة الفنية في سوريا، عبر تأسيس المدارس والمعاهد الموسيقية، وحين شاءت الأقدار لقاء صباح الدين بالبارودي، منحه لقب "صباح فخري"، وأسهم في رعايته أيضًا.
التعثر والاعتزال
جولات في المحافظات وصولات في الغناء، جعلت من الفتى نجمًا يغني أمام الرئيس السوري شكري القوتلي، بقفزة لم تكن متوقعة، قبل أن يغرق صوته في مسافة التحول في سن المراهقة، وهو ما أرهقه وأسقطه في بئر اليأس، ففي كتابها "صباح فخري سيرة وتراث" تروي الكاتبة السورية شذا نصار، أن هرمونات الرجولة غيّرت من طبيعة صوت صباح فخري وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح، فلعبت الحالة النفسية دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق. فقرر الاعتزال بعد آمال كبيرة عقدها على صوته.
العودة والنجاح
ومع الوقت استعاد صباح فخري صوته، واقترب من ذاته أكثر فعرف ما يريد، ولم ينقطع على ما يبدو، وفقًا للخط الزماني عن مجالسة شيوخه في الفن والمقام خلال الفترة تلك. في مطلع ستينيات القرن المنصرم قدم التلفزيون السوري برنامجًا يُعنى بالموسيقى الشرقية، وقد قام عليه المخرج جميل ولاية، واستعان بالملحن السوري أمين الخياط، الذي رشح له عدة أصوات لتؤدي الموشحات والقدود خلال حلقات البرنامج، وكان من بينها صباح فخري الذي سيقع الاختيار عليه لاحقًا، وسيتوسّط التلفزيون لدى مدير الأوقاف لنقله من حلب إلى دمشق إذ كان ما يزال مؤذنًا، ليحصل بذلك على أول انطلاقة عبر الشاشة الفضية، وما هي إلا فترة وجيزة حتى استقال من الأوقاف وتفرغ للغناء. في الأثناء، أسس أمين الخياط وهو عازف القانون الفريد، فرقة الفجر الموسيقية التي رافقت صباح فخري في أول حفلة خارج سوريا، وكانت في العاصمة الأردنية عمّان، تم تسجيل الحفل وتداوله إذاعيًّا، لتبدأ انطلاقته عربيًّا وعالميًّا، وقد رافقت فرقة الفجر صباح فخري حتى منتصف السبعينيات، وشهدت على تبلور شهرته خارج حدود سوريا.
الطرب من أجل التوثيق
ثمة دور دقيق لعبه صباح فخري كان على درجة عالية من الأهمية، تطرق إليه الباحث والمؤرخ الفلسطيني السوري تيسير خلف، وهو الغناء من أجل التوثيق، يقول خلف بأن علاقة صباح فخري بفخري البارودي، أسست للقائه بعملاق الموشحات الحلبي عمر البطش (1885 -1950) فأخذ عنه جميع معارفه الموسيقية، ونهل أيضًا من الشيخ علي الدرويش (1882-1952) صاحب مشروع البحوث الميدانية والدراسات النظرية في أصول الموسيقى العربية والذي وثق عدة موشحات وفواصل ومنها "اسق العطاش"، والشيخ بكري الكردي، ليضطلع بمهمة حفظ وتوثيق وإحياء التراث الغنائي العربي المشرقي.
هذه المهمة التي أوكلها إليه شيوخه كما أوكلها إليه برنامج جميل ولاية، جعلته صاحب يد طولى في مشروع التوثيق الخجول للموسيقى العربية، والتي جابهت على مر العصور اعتداءات كبيرة وسرقات، سببها غياب مشروع توثيقي، مقابل اهتمام كبير في توثيق الموسيقى الفارسية.
ويرجع الشاعر العراقي مظفر النواب - بحسب الفنان العراقي سعدون جابر - أسباب هذه الحالة إلى أن الثقافة الموسيقية العربية شعرية المبنى والأساس، على عكس الشعوب الأخرى التي تشكل الموسيقى بالنسبة إليها أصلا ثقافيًّا مستقلًّا.
الطرب من أجل الطرب
بقدود خالدة مثل "يا مال الشام" و "مالك يا حلوة" استطاع صباح فخري أن يغزو الساحات العربية واحدة تلو الأخرى، إلا أنه لم يتكل عليها كل الاتكال، فاجترح من التاريخ موشحات وأغاني أخرى، وقدمها بجرأة، فسجل قرابة 160 لحنًا بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، محافظًا على التراث الموسيقي العربي، وعلى السمات الحلبية للغناء، واشتملت أغنياته على قصائد عربية كبيرة، لأبي الطيب المتنبي، وأبي فراس الحمداني، ومسكين الدارمي، ولسان الدين الخطيب، وابن الفارض، وابن زيدون، والرواس، وابن زهر الأندلسي، وغيرهم.
وفي رصيده فيلمان، هما الصعاليك والمدينة الهادئة، ومسلسل هو الوادي الكبير، بمشاركة الفنانة وردة الجزائرية.
ويذكر أمين الخياط، أن صحته لم تعد تعينه على مرافقة صباح فخري الذي اتخذ الحفلات مدرجًا للتحليق، فلم تقل واحدة منها عن ست ساعات، حتى سجل في إحداها رقمًا قياسيًّا باقترابه من 10 ساعات غناء متواصل في حفل في العاصمة الفنزويلية كاراكس.