أحمد الواصل
(دار الجمل، بغداد، 2021)
[أحمد الواصل أكاديمي وشاعر سعودي، تنشر جدلية له فصلًا من كتابه "سرديولوجيا الجزيرة العربية: البداوة، المرأة والنسب" الذي يندرج تحت مجال الدراسات الحضارية، ويحتوي على فصلين وأربعة أقسام، تدرس مفهوم السرديات من كونها جنسًا يعبر عن ذاكرة مجتمع، ويقرأ تاريخ المرأة والبداوة والنسب، بوصفها قوانين اللعبة السياسية والاقتصادية والدينية في مجتمع الجزيرة العربية، خاصة، في المجتمع النجدي. أدناه مقطع من القسم الأخير من الكتاب].
سرديات النسب: قوانين المجتمع النجدي السرية
الرياض الأسر القديمة والكريمة
عندما شرع حمد الجاسر (1907 - 2000) في وضع معجم عن "أصول الأسر المتحضرة في نجد" في منتصف عام 1980، وجه النداء إلى العارفين بأصولهم وأقاربهم أو معارفهم على مستوى بلدات نجد أو مدنها وقراها، وقد بعث أحمد بن محمد بن سليمان (1932 - 2009) بمقالة عنوانها: "أصول الأسر القديمة في مدينة الرياض" ثم بعث بعد ست عشرة سنة، وبناء على طلب من الجاسر أيضاً، مقالة عنوانها "أسر كريمة من أهل الرياض" وخصها بالأسر الفاقدة نسبها عربياً، وسك فرضية تبريرية لفقد النسب، بينما هي أسر وافدة من أجناس آسيوية وأفريقية، وألقابها صفات تحقيرية أو محرفة عن تسميات أعجمية.
ودعونا نتأمل في فرضيات الأسر المنسوبة، في مقالته الأولى، والأسر المقطوعة، في الثانية، وهي تكشف عن ذهنية المجتمع النجدي، على الأقل يعد مجتمع الرياض، نموذجاً غير معمم لكنه يمكن أن يمنحنا التكوين الاجتماعي وحدوده الاقتصادية والسياسية والثقافية.
ففي مقالته الأولى، حدد فيها مائة وستة وسبعون أسرة تعود إلى ثلاث جماعات قبلية حددها في بني حنيفة وتميم وعامر بن صعصعة أي إلى جماعات تعود إلى تكتل (أو الجذم) العدناني تندرج ضمن ما يدعى فصيل (أو شعب) مضر السوداء (القيسية) ومنها بنو عامر بن صعصعة، وفصيل مضر الحمراء (الخندفية) ومنها بنو تميم، وفصيل ربيعة ومنها بنو حنيفة.
ويقدم في هذه المقالة مجموعة من الفرضيات الأساسية وما يتصل بها من فرعيات:
مستوطنات نجد الزراعية مستملكة من جماعات بشرية متعددة لألف عام.
1- مرحلة أولى: قبيلة حنيفة وبني عمهم قيس بن ثعلبة.
2- مرحلة ثانية: قبيلة تميم وعامر والرباب.
3- مرحلة ثالثة: قبيلة مطير وسبيع وسهول.
تحول جماعات بدوية إلى حضرية.
انعدام تدوين سلاسل أو شجرات النسب متصلة:
1- اندثار قبائل وانقطاع وجودها.
2- النسّابة ذوو هوى لأنسابهم.
3- معرفة (أهل العلم والمعرفة) بأنسابهم.
4- جهل العوام بنسبهم ونسب غيرهم.
وأما الفرضية الأولى ظاهرة الاستيطان، في منطقة نجد، فهي حقيقة جغرافية وتاريخية أبعد من ألف عام، تعود إلى مجموعة من عصور وجود البشر السابقة لعصور الحضارات البشرية ، ويهمنا هنا تحديد عصور الممالك العربية الأولى (قيدار) والوسيطة (كندة الأولى والأنباط) والمتأخرة (تدمر والحضر وكندة الثانية والغساسنة والمناذرة) (من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي)، ثم الخلافات العربية الأولى (الأموية والعباسية) والوسيطة (الأخيضرية والأموية الثانية والفاطمية والحمدانية) (من القرن السابع حتى الثالث عشر الميلادي) ثم الإمارات العربية متعاقبة ومتزامنة (العصفورية والجروانية والجبرية والسعودية والرشيدية) (من القرن الرابع عشر حتى العشرين).
وأما الفرضية الثانية، وجود الجماعات العربية المتحضرة والبدوية، رصد بالتوازي دون أي التباس عند مؤرخي نجد منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى القرن العشرين، فهم يفرقون بينها ولا خلط لديهم. أي أنهم لا يتبنون فرضية تحوّل جماعات بدوية إلى حضرية، بل يرون برزخاً حاداً، ويمكن عرض أمثلة ذلك.
النموذج الأول:
"وفي سنة 1192 في ثاني وعشرين من ذي القعدة [11 ديسمبر، 1778] جاء بلد عنيزة سيل عظيم أغرق البلد ومحا بعض منزلتها، فخرج أهل عنيزة إلى الصحراء وبنوا بها بيوت الشعر، وقعدوا فيها حتى عمروا منازلهم".
النموذج الثاني:
"وفي العاشر من شعبان [12 مايو، 1821] قدم آبوش آغا سدير في نحو مائة من الخيل، نصفها من الجيش، وضربوا ضريبة عظيمة أخذوا بها ما أمكنهم من ذهب وفضة وطعام وسلاح ومتاع، وحبسوا وقتلوا وأصاب الناس قلق ووجل وهرب إلى البرية من هرب وإلى البدو وإلى غير بلده، واختفى من اختفى، وقطعوا من نخيل الداخلة أكثر من ألف نخلة وقطع من جلاجل والتويم والحوطة شيئاً قليلاً، وقطع من أيضاً، وحبسوا النساء والأطفال، وأذاقوا جميعهم الذل والهوان (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وفي السادس عشر من رمضان [18 مايو، 1812] سار أبوش آغا من سدير".
إذن، أهل الحاضرة من الصعب تبديهم، وإن أجبرتهم ظروف المناخ السيئة أو الحرب وما تسببه من قتل وأسر أو هروب ومناف قسرية، فإن أمنوا على أنفسهم عادوا من منافيهم، وإن عمروا مبانيهم تركوا خيام الصحراء فليست لهم.
كما يورد المؤرخ الفاخري كل جماعة بدوية بوصفها المحدد "عربان أو أعراب"، في أمثلة عدة: "عربان آل كثير"، عربان الحجاز، وأعراب مطير من بني بريه وعلوي، وقد شهد الرحالة تشارلز داوتي، صراعاً بين عربان مطير وقحطان على حدود بلدة عنيزة، وتحالف حضرها مع بدو مطير رداً على مجزرة قحطان، وقبض على قحطاني تسلل إلى البلدة، وذكر أن عربان عتيبة تنصب خيامها على حدودها أيضاً.
وأما الفرضية الثالثة، انعدام تدوين سلاسل أو شجرات النسب، فإن الذاكرة النجدية قامت بعملية "إعادة تنسيب"، أي ما بعد النسب، قام بها المؤرخون النجديون أنفسهم على رأسهم حمد بن لعبون (1769 - 1844) في تاريخه "تاريخ حمد بن لعبون" (1839) إذ أرخ لعشيرته آل مدلج المنتمية إلى قبيلة عنزة (فصيل ربيعة)، وتأسيس بلدة أشيقر بالمال والرجال والحراثة وجلائهم بضغط من عشائر تنتمي إلى بني تميم (فصيل مضر الحمراء) منها إلى بلدة التويم".
وفعل أيضاً ذلك راشد بن جريس (1834 - 1886) عندما وضع مشجرة نسب آل سعود في كتابه "مثير الوجد في أنساب ملوك نجد" بطلب من المنفي عبد الله باشا بن عبد الله بن ثنيان آل سعود، ابن الأمير السادس عبد الله بن ثنيان حكم (1841 -1843)، فترة الدولة السعودية الثانية، قتيل السم، وقد أعاد نسب الأسرة إلى التكتل العدناني، فصيل ربيعة فأرجعهم إلى بني شيبان، على أن تنازع النسب سيبلغ أشده بين نسبتهم إلى بني عنزة مرة ومرة إلى حنيفة، ونسبوا إلى فصيل مضر الحمراء الخندفية (بنو تميم)، ولكن استقرت الأسرة على نسبها إلى بني حنيفة .
ونخلص إلى جملة حقائق عن مكونات المجتمع النجدي بحسب بن سليمان:
الأولى، جماعات بشرية عربية حضرية مستحدثة.
الثانية، تعايشت مع جماعات عربية (أو منبوذة) بدوية مستحدثة.
الثالثة، استعيد تنسيب الانتماء القبلي بحسب الذاكرة الثقافية.
وأما في مقالته الثانية، ارتكز على ذكر إحدى وثمانين عائلة غير منتسبة، لكنه افترض أنها عربية فاقدة نسبها، فوضع فرضيتين تفسيريتين لانقطاع النسب:
- نسيان النسب أي فقد الذاكرة الثقافية.
- إنكار النسب أي اتقاء شرور الثأر.
ووضع تاريخ وجود هذه الجماعات الحضرية المقطوعة النسب (غير عربية) محدداً إياه في مدينة الرياض وما يجاورها من قراها (الدرعية وعرقة ومنفوحة والمصانع) منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. وعليها، بنى عليها فرضيتين:
- وجود مجتمع حضري مقطوع النسب أو منكر نسبه.
- ادعاء هذا المجتمع الحضري المقطوع النسب بنسيان أصله العربي مع التحضر .
وتكشف تعريفاته لكل أسرة، أصلها الاجتماعي أو دورها السياسي (العسكري) والاقتصادي (التجاري) فهو يصرح بأن واحدة من بين تلك الأسر، أعاد أسرة أخرى إلى عبد أو مولى لمروان بن الحكم عاش في القرن الثامن الميلادي، كما تدعي هذه الأسرة أنها تعود نسباً إليه، أي فترة الحكم الحفصي في اليمامة، وأسرة أخرى تعود إلى عبد أسود لحكام الرياض، عائلة ابن زرعة، في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين بينما رصد منها أربعة وثلاثين أسرة خدمت أسرة آل سعود على مدى قرنين، ويتضح أنها تتوزع بين الرقيق الأبيض والأسود، وقامت بدور الجماعات الوظيفية، في زمن الحروب وأدوارها الدفاعية والهجومية، وزمن الرخاء وأدوارها الخدماتية في البناء والتموين، وفي خدمة القصور تحت بند "الأخويا" ورئاسته ومساعديه.
وأما بقية الأسر، فهي تمتهن وظائف نجدية حضرية، مثل: تاجر ومطوع (قارئ قرآن ومعلم)، ومقري (راوية شعر وسوالف)، ومهن خدماتية، مثل: الفلاحة، والبناء والحدادة والنجارة.
بينما تجاهل بن سليمان، بأن من بين تلك الأسر أربعة على الأقل ذات أصول كردية وتركية، ومنها واحدة تدين باليهودية سابقاً.
إذن، فإن فرضية "نسيان النسب" أو إنكاره ساقطة، وتواليها سقوطاً فرضية أن المجتمع الحضري ينقطع نسبه مع التحضر.
يتوجب الاعتراف بأن المجتمع النجدي في بلداته الكبيرة والصغيرة مثله مثل كل مجتمعات الحواضر العربية متنوع العناصر العربية والأعراق الآسيوية والأفريقية.
وقد نجح طارحاً شخصية ذات نمط حضري تتجانس فيها كل الأعراق المتوطنة، وهذه إحدى مزايا الحضارة العربية على مدى حقبها الطويلة.
وهذه ميزة تاريخية، من العار التخلص منها، لكن يمكن تفهُّم تلك المراحل الصعبة تاريخياً المارة على مجتمعات نجد المفضية إلى مجموعة من العمليات الاجتماعية الطارئة، خارج إنسانيتها، مثل: الثورات البدوية، الإرهاب المذهبي، العنف العسكري، الأوبئة القاتلة، المجاعات المُفنية، وما ينتج عنها من دمار البلدات وخرابها، الموت الجماعي، الهروب الجماعي، والإجلاء (النفي) وهذا ما جرى على كل فئات وطبقات المجتمع النجدي ولكن شكلت البلدات النجدية أيام السعد والرخاء أرض استقطاب لمختلف أنواع العمال والصُّناع ، بل والمشاريع المتعددة (الحراثة والحصاد، وبناء القصور والجوامع والسدود والأسواق)، فهبط عليها من كل العالم، بشر متعددون، كل وغايته، وبعضهم نتيجة عمليات الاندماج الطوعي تعمّد التحكم في الذاكرة، إما قسرياً بإنكار الأصل وإما طوعاً نسيانه بالتعاقب الجيلي..
المجتمع النجدي على سكين السرد
إن الانقطاع الجغرافي النجدي يحتم بعض العمليات التي تتبناها ذهنيات وسلوكيات المجتمع نفسه، مثل: استراتيجية الارتياب (خارج حدود الحمولة عند الحضري أو العشيرة عند البدوي)، وينتج منها معاكسة: تفضيل الغريب وإكرامه ما لم يطل مقامه، وآليات التحامي (خارج حدود البلدة أو الإقليم أو النطاق الجغرافي النجدي) وينتج منها معاكسة: التصلب ضد القريب والشدة عليه إن خالفه في المصلحة.
ولكي أحاول قراءة تاريخ هذه المجتمعات عبر أطوار تاريخية واسعة المدد الزمنية، فسوف أنتقل إلى عرض نصوص أدبية تمثل الذاكرة الثقافية في القرن العشرين، لبعض الروائيين السعوديين، ممن ينتمون إلى عائلات عربية وأخرى ليست عربية وإنما متوطنة، ولكل منهما تصور للهوية التي يقدمها، سواء عن جماعته أو الآخر في مجتمعه، رؤية وتعبيراً في نماذج عدة.
إذا أدركنا أن المجتمعات لا تقلق على جذورها حتى يأتي من يتعدى على حدودها..
كما أن المجتمعات تضع حدوداً حول أسوارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهي تشكل هويتها عبر عمليات وإجراءات متشابكة ومركبة، في حقل ثقافي يرتكز على أعراف وتقاليد وعادات (أو قيم ومبادئ وأفكار) عناصرها موثوقة في تاريخها وجغرافيتها تتجلى في تراثها الثقافي المعنوي والمادي.
تتكدس في لغتها وطعامها ولباسها ورقصها مجازات (أو مكافآت) ورموز (أو علامات)، وتضمر في أحشائها ومساربها تاريخ الجذور والهجرة، الخيمة والترحال، الشجرة واليباس.
في هذا القسم سأستخدم سرديات مختلفة، مثل: سرديات الإبداع (الرواية والسيرة الغيرية)، سرديات التاريخ (حوليات يونانية ورومانية ونجدية).
وذلك لاستقراء التكوين الاجتماعي للمجتمع النجدي، ومفاهيمه في لعبة التذكر ورسم الهوية.
وقسمت من هذا المجتمع، قسمين: مجتمع الاستعادة، ومجتمع الوصمة.
وما يقصد من مجتمع الاستعادة، تلك الجماعات الإنسانية (المتحضرة) التي أجبرها ثالوث النحس (الحروب، الأوبئة، المجاعات) على الهجرة أو المنفى القسري ومن ثم العودة إلى بلداتها وإعمارها، أو (البدوية) القائمة على الترحال والإناخة حول البلدات أو القرى، وخوض الصراع معها سواء مرتزقة في الجيش أو الإغارة عليها ثم استباحتها ونهبها أو إجبارها على التوطين القسري، ويحتفظ المجتمعين بكل ما يمثلها من ذهنية وسلوك، سواء ما يطلق عليه الحضري عادات أو السلوم عند البدوي.
وما يقصد من مجتمع الوصمة، تلك الجماعات الإنسانية العاملة (فلاليح أو فلاحون وذوو الصناعات اليدوية المتوارثة) في القرى الزراعية والبوادي الرعوية، ويبررون جذورهم بفقد النسب أو الانتماء إلى الرقيق الأبيض والأسود المحرّر أو العمّال المهجّرون والمنقطعون عن بلدانهم الآسيوية أو الأفريقية، وأما المنبوذة أو الوضيعة، فهي جماعات تعيش على التنقل (لا الترحال) واستقرارها لاحق، وتتبعت حياة البدو غير أنها ليست منهم (أو غير منسوبة)، ويدرج تسميتها بالصلب أو هتيم -سيعرض لها لاحقاً- وتعادل تسمية الغجر أو النور وما في حكمها.
وتتنوع السلالات (لا الأعراق) في شبه الجزيرة العربية تبعاً لكونها مربط ثلاث قارات عوض عن أنها كانت جزءاً منها قبل الانفكاكات الجغرافية اللاحقة.
وتعود جذور مجتمعات الجزيرة العربية، بما فيها البلاد العربية، إلى أربع سلالات، تسيطر إحداها دون سواها، ثلاثة نشأت في آسيا وواحدة في أفريقيا.
هذه السلالات، وهذا ليس محلها، تتوازع عليها هذه التكوينات الاجتماعية سواء ذات العنصر الحضري، أو البدوي أو المتوطن.