لم تعد "صدمةُ الحداثة" في العالم تتجلّى في حركات أدبية جديدة، أو فتوحٍ فلسفية وفكرية تعمّقُ رؤيتنا المعرفية، وتفتحُ الحدود المغلقة بين الثقافات والبلدان واللغات، بل صارت صدمة الحداثة الرجّةَ، أو الزلزلة التي يُحدثُها اختراعٌ عسكريٌّ جديد، ما يجعل فرائص الدول ترتعد، ويدفعها إلى امتصاص الصدمة وتجاوزها بصدمة أخرى على الصعيد نفسه. ويمكن القول إنّ المدارس التي تقود العالم، وتمنح طلابها شهادات خبرة في الطرق الأنجع والأسرع لتدميره، هي شركات ومجمّعات الصناعات العسكرية. وآخر صدمات الحداثة العسكرية هي الصواريخ والمسيّرات (طائرات الدرون) التي تسبق سرعتُها سرعة الصوت أو "الفرط صوتية"، والتي تتنافس الدول العظمى على امتلاك قصب السبق فيها.
تدمْنُ الدول الحديثة عشق الصواريخ، وتتغزّل صحافتها العسكرية بها وتتغنى بخصائصها من ناحية حمل الرؤوس النووية أو الحربية التقليدية، ومن ناحية السرعة والارتفاع، أو سرعة الدوران أو الانخفاض، أو الانقضاض على الهدف، والوزن والمراحل والمدى، وكيفية الإطلاق ونوعية الوقود، والقدرة التدميرية، وربما في المستقبل القريب سنسمع أن جيلاً جديداً من الصواريخ سيحوّل الصواريخ البالستية التقليدية إلى أشياء تنتمي إلى الماضي. ويتجلّى هذا العشق للصواريخ في سباق تكنولوجي مع الزمن لنفخ عروق فحولة الدمار، وحقْن عضلات المتفجرات، ومنح القتل أعقد المكوّنات التي يمكن أن يحلم بها ممارسوه على مرّ التاريخ. وما يزال كثير من العلماء موظفين في خدمة القتل، بل يمكن القول إنه من غير المستبعد أن تتحول صواريخ الدول يوماً ما إلى أوثان وآلهة تُقدَّم لها القرابين كما كان البشر يفعلون في الحضارات القديمة. وربما إذا كُتب للبشرية الخلاص، ولم تُدمرها صواريخها دماراً شاملاً قد تتحول أسماء بعض الصواريخ إلى أسماء آلهة منقذة، وقد تُؤلف لها أناشيد وترقى إلى مصاف الأساطير. وإذا كانت الأساطير الرومانية قد تحدثتْ عن ذكاء بشري ضحّى لكبير الآلهة جوبيتر برؤوس ثومٍ وبصل بعد أن طلبَ أضحيات فيها رؤوسٌ، فإنّ بنى القوة الحالية في العالم جاهزة للتضحية برؤوس البشر وقلوبهم وأكبادهم كي تبقى مسيطرة على الموارد، وكي تظلّ هذ الموارد في أيدي نخبة من مصاصي دماء الشعوب استولت على السلطة إما انقلابياً أو من خلال انتخابات ديمقراطية رؤوس الأموال.
والغريب أن الصواريخ والقنابل صارت في بعض البلدان منتجات لها طابع هوياتيّ، أو أُضْفيتْ عليها هوية وطنية أو دينية أو عرقية، فأسماء الصواريخ صارت أسماء حسنى تعكس ثقافات العالم وأديانها، وخير مثال على ذلك ما ذكرتْهُ مرة الروائية الهندية آروندهاتي روي في مقالة نشرتْها في صحيفة "الغارديان" منذ أكثر من عشر سنوات، يمكن العودة إليها في كتاب يضم مقالات مختارة من ترجمتي صدر العام الماضي في طبعة ثانية عن دار التكوين في سوريا بعنوان "نهاية البشرية"، قالت فيها إن القنبلة النووية الهندية سُميت القنبلة "الهندوسية"، فيما القنبلة النووية الباكستانية صارت "إسلامية". كما أن من يتتبع أسماء الصواريخ في بعض البلدان سيلاحظ أن أسماءها مستمدة من النصوص المقدسة، أو لها إحالات ومعاني دينية معروفة، وكل هذا من أجل الشحن الأيديولوجي وتأجيج الأحقاد الوطنية أو الدينية أو العنصرية.
وفي كل يوم نسمعُ في الأخبار عن تجريب نوعٍ جديد من الصواريخ، وعن صواريخ قادرة على الدوران حول الأرض في مدار منخفض يسهّلُ عليها سرعةَ الانقضاض على الهدف ما يحوّل كوكبنا إلى كوكب ملغوم وعلى شفا انفجار ثان لن يكون بعده إلا العدم واحتمالات العوالم المظلمة. إن عالماً تحكمه قوى يقودها الهوس بصناعة الصواريخ الأقوى والأسرع والأكثر تدميراً، قوى من التجار وخدمهم من العسكر وقوى الضبط والعقاب، تبرر الاحتلال، وتديم من أمد الطغيان، وجاهزة كي تقود الثورات وتحوّل مسارها إلى جحيم والبلدان التي حدثتْ فيها إلى طوابق سفلى في هذا الجحيم، إن عالماً كهذا، يحتاج إلى تغيير، وإلى فكر أكثر إيماناً بالوجود البشري وبقيمة الإنسان.
لا تقدم إسرائيل أو تركيا أو إيران وبقية الدول الأخرى الداخلة في سباق التسلح رسائل حضارية أو ثقافية أو مدنية أو سياسية أو دينية قائمة على الانفتاح على الآخر، بل رسائل عسكرية مكتوبة بحبر الصواريخ والمسيّرات والغواصات وحاملات السفن وطائرات الشبح، أما درس إسرائيل في الديمقراطية فهو درسٌ مغلق، ورؤيتها للمنطقة رؤية صاروخية حارسة للاحتلال، وهذه الرؤية تحتاج إلى أعداء ضعاف يتم تضخيمهم إعلامياً لحلب الغرب، وتبرير الصناعات العسكرية المتنامية. أما الدول العربية، والتي تعيشُ مثقلةً بالديون، وتحلم بالحصول على المزيد منها، والتي أكبرها وأهمها يستدين ثمن خبزه أو يستجديه، وربما لن يكون لديها ماء للشرب في المستقبل القريب، فتعيش في فلك التابع والخاضع لإملاءات أصحاب الترسانات الصاروخية الضخمة. أما النفط العربي، فأكثر ريعه يذهب لشراء الصواريخ والمنظومات الدفاعية أو لتمويل حروب بالوكالة وتدمير ما تبقى من بلدان عربية أخرى.
إن معظم الدول مصابة بهوس السباق الصاروخي، أي من الذي سيكون الأسرع في إصابة الهدف وتدميره، وإذا افترضنا أن الصواريخ ستكون محملة برؤوس نووية وأن الضربة المستقبلية، أو الواردة في أي لحظة، ستكون استباقية فإن كل هذه الدول متهمة مسبقاً بجريمة تدمير هذا الكوكب البائس.
يخلو عالمنا المعاصر الآن من أنفاسٍ كونية ثقافية وسلمية وذات عمق إنساني وحضاري منفتح على الآخر، تمثّلها دول قوية أو مجموعة دول تحمل راية حضارية، أو تمتلك رؤية كوكبية، تهدف إلى إنهاء التهديدات وتتبنى سياسات أكثر إيماناً بقدرة البشرية على حماية بيتها الوحيد من الدمار وجعله لائقاً بالإنسان. إن عالمنا بشكله الحالي، وبتوزيع القوة والفائدة السائد فيه، عالم صيارفة وتجار ومرابين ولصوص وقطاع طرق، ومصاصي دماء يطبقون فكوكهم الفولاذية على شرايين موارد العالم.
وفي هذا العالم تزهو إسرائيل بصاروخ "أريحا ٣" العابر للقارات، والقادر على حمل رؤوس نووية، أو حربية تقليدية أو كيميائية، وبقبتها الصاروخية التي تعيش تحتها حيث يكبر أطفالها في ظلها. وتتباهى إيران بصواريخ "فاتح" و "سجّيل" و "زلزال" و "قدر" و "فجر"، وتتبجّح تركيا بطائراتها المسيّرة بيرقدار وعنقاء وغيرها وزوارقها الحربية التي تبحر وتهاجم دون قائد، وتُروى حكايات إعلامية عن الصين وصواريخها الفرط صوتية التي تستطيع أن تدور حول الكوكب الأرضي على علوّ منخفض، وتستعرض بلدانٌ أخرى قدراتها التدميرية الفحولية في وقتٍ يخبو فيه وهجُ الديمقراطية ويخفتُ صوت الحرية، وتهمدُ أنفاسُ حقوق الإنسان، وتنطفئ أضواء السلام الدائم وتتحول الجماهير نفسها إلى جماهير انتخابية أو غير انتخابية مسعورة داعمة للتسلط والاستبداد، ولقتل الآخر أو سجنه أو إغلاق باب الهجرة في وجهه فيما يتحوّل الإعلام إلى نهر هادر من الصور والأخبار التي تجرف في طريقها الحقيقة، وتتركنا في حيرة من أمرنا.
وفي دول عربية لا تملك من مواردها إلا حصة حُددت لها لإرضاء نخبها ولتسليح أجهزة أمنها وجيوشها المسلّطة على الداخل، أو لمنحها أدواراً اقتصادية لخدمة أهداف سياسية، لا نجد ما يشغل الرأي العام إلا خلافات سطحية كمثل التركيز مثلاً في أوقات التردي الاقتصادي العصيبة وانهيار العملة وارتفاع مؤشرات البطالة والفقر وحجز أرصدة الناس على تصريحات عادية وتضخيمها وتسويقها وتجييش الصحفيين والكتاب للتعليق عليها ولاعتبارها القضية الجوهرية، فيما صارت سماء بلداننا ملكاً لطائرات الآخر، المترصدة أو العابرة، وأرضها حقل رمي لتجريب صواريخه.