دلال البزري
(المركز العربي للدراسات والأبحاث، بيروت، 2021)
[دلال البزري كاتبة وباحثة لبنانية، تحمل شهادة دكتوراه في العلوم الاجتماعية. تعمل مستشارة في "إسكوا" وعضوًا في لجنتي جائزة الصحافة العربية وجائزة العويس للعلوم الإنسانية. لها عدد من المؤلفات، منها: مصر ضد مصر، ودفاتر الحرب الأهلية اللبنانية، وسنوات السعادة الثورية].
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
دلال البزري (د. ب.): تعود فكرة الكتاب إلى الانقسام الذي فرض نفسه بين اليساريين حول أطروحات الممانعة، المتجسدة بالنظام السوري وحزب الله اللبناني. تاريخيًّا، اليساريون منقسمون، ومتنوعون. ولكنهم كانوا يتفقون عمومًا على الخطوط العريضة، أو يتصارعون على مواقع في السلطة. أقصد هنا سلطة حزبية وغير حزبية، أي "داخلية" و"خارجية". ولا مرة في تاريخهم انقسموا على أطروحات متناقضة جذريًّا، تسحب نفسها على ما تبقى من فروع لهذه الأطروحات. بل تصبح ذات مرتكزات أيديولوجية لتفسير آية ظاهرة، أو لتحليل أي حدث. حتى ولو كان على صلة ضعيفة بالأطروحة الأكبر.
إذن، انشغلتُ بهذا الانقسام، ورحتُ أبحث عنه خارج الجغرافيا المحدودة بلبنان وسوريا. فوجدت أنه، أي الانقسام، موجود بدرجات متفاوتة في معظم الأقطار العربية. وإن كان التعبير عنه غير متبلور، أو غير مباشر، أو خافت. وفي كل الأحوال، لا يشكِّل موضوعًا للدراسة، أو لدراستي.
فانصب اهتمامي على اليسار السوري، وعلى انقسامه حول نقطة النظام والثورة عليه. ولكنني لم أفلح بتجميع ما يكفي من الأدبيات، ومن المقابلات، لمباشرة العمل عليه. وقد أخطأتُ بالاعتقاد بأن هذه الأدبيات غنية ومتوفرة، وبأن جلّ أصحابها يمكنهم أن يتكلموا. عندها، تيقّنتُ بأن اليسار اللبناني، القريب، المساجل، النشيط بالتعبير عن هذا الانقسام، هو المجال الذي يوفر لموضوعي المادة التي أبحث عنها للقيام بدراستي.
ولكن، أيضًا، بما أن اليسار اللبناني يتشكل من تنويعات وتفرعات لا حصر لها، قررتُ بأن الذين سوف أتكلم معهم عن الموضوع هم من الذين كانت لهم تجربة مع تنظيمين شيوعيَّيْن لبنانيَّيْن: الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(د. ب.): الفكرة التي قادت حديثي مع أعضاء هذين التنظيمين، القدماء منهم والجدد، هي أن تكوين الموقف السياسي والاستجابة للالتزام بالتنظيم صاحب هذا الموقف، تحدده سياقات معينة، وكيفية تفاعل الفرد مع هذه السياقات. صحيح أن أحداثًا كبرى تهزّ الأنفس، تغيّر مجرى التفكير القديم، وأن قدرًا كبيرًا من السياسة والقناعة "العقلانية" (أو المعقلنة) يدخلان في تحديد مصير هؤلاء الأفراد سياسيًّا. ولكن ثمة عوامل أقل ظهورًا، أكثر تسترًا، تلعب دورًا، حاسمًا أحيانًا، بالقرار الذي يتخدونه بالالتزام بهذا الحزب أو ذاك. وبعد ذلك، في المسيرة التي "اختاروها"، يكون السؤال التالي: ما الذي يبقيهم في هذا التنظيم، ما الذي يخرجهم منه؟ ما الذي يغير قناعاتهم هذه؟ ظرف سياسي استثنائي؟ غير سياسي؟ ثقافي؟ شخصي؟ وفي النهاية، السؤال الأخير: إن كان أولئك الأفراد ما زالوا يعتبرون أنفسهم يساريين، وبأي معنى؟
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(د. ب.): لم تكن "تحديات". بمعنى أنني لم أعشها بصفتها تلك. إنما كانت اختبارات، هي من صميم البحث نفسه. لذلك اخترت أن أسميها "مجريات الدراسة". وخصصت لها فصلًا، واستعنت أحيانًا بالأنثربولوجيا، لأصف "حالات"، هي التي صادفتها أثناء إعدادي للدراسة.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(د. ب.): ليس لهذا الكتاب "حقل" محدد. كل الحقول مفتوحة أمامه، ومغلقة في آن. كتبته، لا كرواية ولا كبحث أكاديمي صارم، تحكمه المفاهيم المثبتة والنظريات. وهذه الأخيرة كانت مفيدة، ولكنها ليست في الواجهة. "حقل" هذا الكتاب هو ما يسمى في الأدبيات الغربية بـ"التجربة" (essay).
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(د. ب.): هذا سؤال غريب عليّ. لم أفكر، ولا أفكر الآن، بعبارات "المسيرة". أفضّل كلمة "مشوار": هي أقرب إلى وصف واقع تعاطيّ مع الكتابة. وكلمة "محاولة" أيضًا: لأنها تترجم الفعل الإرادي الذي قمت به في وقت معين من حياتي، بدّلتُ اثناءها مهنة التدريس الجامعي بمهنة الكتابة. كذلك صفتَي "الفكرية" و"الإبداعية": إنهما خارج دائرة تفكيري.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
(د. ب.): جمهور الكتاب متنوع. لا يقتصر على اليساريين، أو أصدقائهم. فهو، في سعيه لجلاء السياقات، دخل في مراحل متعددة من التاريخ اللبناني المعاصر. ومعه التاريخ العربي الذي كان له التأثير العميق في رسم هذه السياقات، وإيجاد أطرها العامة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(د. ب.): مشروع واحد يكفي. وأنا أشتغل عليه منذ بضعة أشهر. قريب وبعيد من كتابي الأخير هذا.