"عندما سأله أحد الأولاد في ساحة المدينة الرياضيّة بمدينة اللاذقيّة، إن كانوا هم أيضاً نازحين من حلب، أجاب فارس بضيق وحزم: "لا، جئنا كي نرى البحر". بهذه المقدّمة تفتتح الكاتبة زينة حموي أولى قصصها العشرين، في مجموعتها البكر "محاولة متأخرة للبكاء" الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2019.
فارس ذو الثلاثة عشر ربيعاً، في قصّة "لا أرى بحر زكريّا"، هجّرته الحرب من مدينته حلب. كان يظنّ في خروجهم أنّ والده، متواضع الحال، يحقّق له أخيراً حلمه الملحاح في رؤية البحر الذي لم يذهب إليه سابقاً! وقد ظلّ، على مدار سنوات حلمه، يحسب كلفة السفر التي تقتصر لديه على أجور التنقّل، التي لن يصعب على والده دفعها، كما كان يؤكد له زكريّا، ابن الجيران الميسورين الذين كانوا يذهبون إلى البحر مطلع كلّ صيف. وفي اللاذقيّة، تحدث الصدمة. إنّه نازح! وجد نفسه فجأة، في ملعب المدينة الرياضيّة مع مئات النازحين. ليتحوّل فارس من تلميذ المدرسة إلى مساعد لوالده في كسب العيش "صبيّ طلبات، يوصل البيتزا إلى طالبيها ويعود بالبقشيش". وبذلك هو لم ير بحر زكريّا بل: "بحر ضيّق شاحب وغريب، لا يصلح إلّا للتذكير بالفقدان والبعد والخسارة." وخلال عام نضج فارس إلى درجة أنّه استبدل "بكلّ أحلامه أمنية واحدة: العودة!" ولكن، هيهات! ومع تصاعد السرد سنفهم أكثر لماذا أجاب فارس بضيق وحزم: "لا، نحن هنا لرؤية البحر". وندرك بأنّها صرخة الصدمة الأليمة المكبوتة، صرخة الإنكار الرافضة، صرخة تكثّفُ صدمة السوريّين المنكوبين وهلعهم، وقد أصابهم الإنكار الفرويدي!
ترصد زينة حموي، في قصص عديدة، لحظة الصدمة، لحظة النزوح والتشتت في أنحاء البلاد وخارجها، إحدى أخطر وأقسى مفرزات الحرب، لحظة اقتلاع حياة برمّتها من تربتها، والانسلاخ عن الأمكنة الطافحة بذاكرة حيّة ما تزال نابضة. لحظة اغتيال الأحلام، وقدوم الغد المجهول. هي حكايات الثابت الواضح المستقرّ آن تحوّله المضطرب الشرس في حاضر مرعب ومستقبل لا يبين. فإلى جانب فارس، هناك أمّون في القصّة الجميلة المؤسية "أمّون وفلورا"، حيث نزوح "أمّون" الحلبيّة الأرملة توّاً، وخروجها بمفردها لأوّل مرّة في حياتها، لمواجهة مصير مختلف. ثمّ سنلقى" زهرة" في قصّة" كلاكيت نزوح"، لحظة التجهيز للنزوح من مدينة الحسكة، وتوهانها حائرة بين محاولاتها الأخيرة للبكاء وبين ما تحمله من أغراضها معها. أشياؤها الصغيرة العزيزة الجميلة تختزل بعضاً من إرث سوريّة وتراثها، كانت اشترتها من سوق المدينة بحلب، ومن سوق الحميديّة بدمشق. صبيّة لم يخطر ببالها يوماً أنها ستغادر بيتها الذي عاشت فيه سنين عمرها العشرين، وربّما بلا عودة! تضبّ حقيبتها، تسمع والدها يقول: "لا تنسي جوازات السفر وسندات ملكيّة البيت والأرض." فتردّ أمّها: "أبو عابد ليش تحسّسني إنّا طالعين مو راجعين؟ كلّها يومين وتنرجع." حتى أنّ الأمّ، رتبت البيت كعادتها، واثقة من عودتها القريبة، هي حالة إنكار أخرى!
تورد القاصّة في نصوصها أسماء لمناطق سوريّة، مدناً وأحياء، كأنّما تعيد رسم خارطة البلاد! حلب، دمشق، اللاذقية، حمص، ريف حماه والجزيرة السوريّة، وكأنّما توثّق بفنيّة سورية التي كانت، تصونها وتثبّتها في الذاكرة إثر الدمار والتشرذم الجغرافي والديمغرافي، حتّى أنّ عديداً من الأحياء والقرى، في الواقع، فرغ تماماً أو اندثر!
على خارطتها، تخلق زينة حموي قصصها في اختلاف وتنوّع، تلتقط ببراعة زوايا مراميها القصصيّة، تنضجها في مخيّلتها الثرّة، وتحكم بإتقان مسك زمام سردها. وبعين رؤوفة ومحبّة تصوّر شخصيّاتها الحيّة، تغوص في دواخلها وتسجّل هواجسها وقلقها، انكساراتها وأحزانها، الفقراء منهم والميسورين، وتدوّن أنثربولوجيا بعض الأحياء: النذر من أساطير تسمياتها، عاداتها وتقاليدها، جميلها وقبيحها، حَسَنها وسيّئها، طبائع أهلها، تحضّرهم وتخلفهم، وتديّنهم، وتورد بعض حواراتهم بلهجاتهم المحليّة باحتساب، وتذكر بعض مهنهم التراثيّة الشعبيّة: الفضّة المشغولة، التنجيد، والمسابح، توردها مكمّلات ضروريّة لإغناء السرد، تذيبها فيه باقتدار. فأبو مخلص، في قصّة "مسبحة الحمصي"، هجّرته الحرب إلى ألمانيا، يقضي سهرته وحيداً مع ذكرياته في مدينة حمص التي لم يغادرها أبداً قبل الحرب، يحنّ إلى مسابحه وشغفه بها، وإلى سهراته الطويلة مع أصحابه المحبّين لحكاياته عن مسابحه؛ أنواعها، صفاتها، صنعتها. لتنتهي سهرته بدموع لو انفرطت لصنعت أجود المسابح وأنفسها بحبّاتها المصنوعة من خيباته وآلامه وصبره!
تصوّر زينة حموي الفسيفساء السوريّ بمنطق موضوعي وفنّي متوازن، صادق ومؤثّر، وبروح حيّ. تذكّر بتعريف محمود تيمور للقصّة القصيرة، على أنّها: "روح قبل أن تكون مظهراً، وفكرة قبل أن تكون حادثة، وإنّ روح القصّة الحيّ، وفكرتها الصميمة، يجب أن تكون قبساً من الإنسانيّة التي إليها مردّ الفنّ الرفيع، في شتّى صوره...".
تبدو زينة حموي قارئة متيقّظة إلى أبعد حدّ، وفقاً لتعبير باشلار عمّا يجب أن يكون عليه الكاتب، قارئة عميقة للواقع السوريّ، لتلتقط بإتقان بعض قضاياه لقصصها. قصصٌ تلامس القارئ وتؤثر فيه، تثير تساؤلاته وتأمّلاته بحساسية فنيّة لافتة. تتّخذ الحيادَ مقرّاً لها، فلا أحكام تطلقها أو استهجان تبديه، ولا هي تبدي مواقف سياسيّة، بل تدرك جيّداً الحدود الفاصلة بين حيّزها وحيّز قارئها.
لم تتوقّف زينة حموي عند اكتمال روح نصوصها، بل انشغلت بالمظهر انشغال العارفة، تنسج الأحداث والمواقف بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، وبمتعة توصله إلى القارئ وتخزه حدّ الوجع. تطلعه على ما تراه في نتائج الحرب المستمرّة، وآثارها المدمّرة على الأهالي؛ النازحين في الداخل السوريّ، أو المهجّرين في الخارج. تواري مقولاتها في لغة مقتصدة أنيقة، تلمّح، توجز وتكثّف في سرد عفويّ مدروس، يتراشق في تقنيّات عديدة: الواقعيّة، الرمزيّة والفانتازيا، تخوض في التجريب بحذر ويقظة فلا تقع في مزالقه، تختار لكلّ قصّة قالبها الفنّيّ اللائق. فمثلاً، في القصة الأطول بين القصص، والمؤسية الجميلة "أمّون وفلورا" اعتمدت الكاتبة السرد الروائي، في أثناء حديثها عن الرجليْن الأهمّ في حياة "أمّون" الحلبيّة؛ الأب في حيّ "الهلّك" ثمّ الزوج في حيّ "بستان الباشا"، أوجزت سيرتهما بالقدر الذي يمكّنها من تسليط الضوء على البيئة التي عاشت فيها "أمّون" حيث" لا مدرسة، لا مهنة، لا تسلية، لا صديقات". الأنثى، الابنة، ثمّ الزوجة في سنّها الرابع عشرة، التي في مولدها عقاب إلهيّ للأب المؤمن الحريص لخطأ ما قد يكون ارتكبه سابقاً، كما أنّه يراها ومثله زوجها، جالبة محتملة للعار المتربّص بهما دوماً، قد تضيّع عليهما الجنّة في الآخرة! هذا من جانب، ومن جانب آخر، بالقدر الذي يمكّنها من كسر حدّة رتابة السرد في تمحوره حول أمّون، وتشظية رتابة الزمن، الماضي والحاضر، وعبر ذلك كلّه توزّع مقولاتها المختلفة باتزان، وصولاً إلى المقولة الأخطر المقصد، وتكمن فيما يعنيه أنّ "أمّون" التي أفقدتها الحرب الأب والزوج معاً، قد خرجت لوحدها لأوّل مرّة في حياتها من غير رفقة وصائيّة إلى حيّ الأشرفيّة القريب والأكثر أماناً، وانضمامها هناك إلى دورة لمحو الأميّة، أي أنّها ترسم لنفسها وبنفسها مصيرها القادم المتحرّر من الأميّة والسذاجة، الاستعباد والاستغباء، فلن يستهبلها أحد بعد اليوم، ستعرف مثلاً قراءة اللافتات، وستدرك أنّ ما أخذها إليه الزوج، ذات نزهة نادرة، لم يكن برج إيفِّل الباريسي، إنما هو ساعة باب الفرج في حلب! وإذاً للحرب تأثير إيجابي، إن صحّ القول، على المرأة السوريّة المنكوبة، وهذا ما شهدناه فعلاً في خروج نساء كثيرات من القوقعة البطريركيّة! ربّما تتّصف القصّة بالغرائبيّة بالنسبة لقرّاء القرن الواحد والعشرين الأكثر تحضّراً، وذلك بتعرّفهم إلى بيئة ما تزال تعيش بموروثات عقليّة قرون ولّت، تجسّد البطريركية الذكوريّة في أحد وجوهها العاتية. وقد أضفت الكاتبة بذكاء، على قصّتها طرافة هي أقرب للكوميديا السوداء، خفّفت بها من حدّة الشعور بالغمّ بل تدفع إلى الضحك. كما تمثّل الهجرة إلى الخارج، في وجه من وجوهها، خلاصاً وتحرّراً من مشكلة عويصة معقّدة كان يعاني منها السارد، في قصّة "صديق ريم"، في البلاد وسط مجتمع لا يرحم، فغادرها طوعاً إلى بلجيكا ليحيا حياة طبيعيّة هناك، غير آسف على حياته السابقة السريّة المخنوقة، لسبب خلْقيّ جعله مِثليّاً.
في قصّة "أبو شيبان" المدهشة والموغلة في الواقعيّة سيباغتنا الخيال في النهاية، إذ تقفز القاصّة بالخاتمة إلى التخييل والرمزيّة، فها هو الطبيب يقرّ: "من المؤكّد أنّ أبا شيبان ظهره مكسور. لكنّ حالته غريبة جدّاً: العظام والفقرات البادية في الصور الشعاعيّة للعمود الفقري كثيرة. كأنّ هذا الرجل كان له عمودان". ليثبت أسطورة قوّته الجسديّة، وما كان يردّده الأطفال بصخب وضحك في القرية، بريف حماه: "أبو شيبان بعمودان، أبو شيبان بعمودان"! والآن انكسر الظهر بعموديه! يرى القاصّ والناقد محمد خضير في انتقال غوغول من الواقعيّة إلى الخيال في خاتمة قصة "المعطف": "إن النهاية الخياليّة للقصّة كامنة في البداية الواقعيّة لها". قول ينطبق على هذه القصّة: "إنّها قوّة الفكرة الواقعيّة للقصّة" التي هدَت القاصّة بدورها إلى اختراع النهاية الخياليّة. فهول الحدث يكسر أقوى الظهور. فكما طال الشقاق البلاد سياسيّاً، طال العائلة والأخوة، واختلف الشقيقان، شيبان وغسان، خوّنا بعضهما بعضاً، تشاجرا ثمّ افترقا، كلّ منهما، إلى معسكره المقاتل للمعسكر الآخر! وتتابع الأحداث في مجراها الشيّق والقاسي وصولاً إلى كسر ظهر أبي شيبان/ الأب وشلله!
في القصص، تتّحد الشخصيّات بالمكان والزمان والأحداث، تنجبل بجماليّة على تراب بلاد لاخلاص فيها، وما بقي فيها سوى الأمنيات. فها هم الأهالي يقبعون حبيسيّ "كرة الأماني الزجاجيّة" عنوان القصّة التي أوردت فيها القاصّة سرداً آخر مضمراً، يكشف الواقع الحقيقي النقيض لما تظهره على السطور. وبمهارة، ارتقت بموضوعها العاديّ والمستهلك إلى فضاء فنتازيّ مفاجئ في النهاية، مقنع ومؤثّر.
رغم كلّ هذا الخراب، لم تفقد القاصّة الأمل، أملها بالإنسان، ففي قصّة "اسمي آمال"، امرأة لبنانيّة تقيم في ألمانيا، هجّرتها وطفلها وقت الحرب في بلادها، تُهرع، بذاكرتها المريرة، إلى مخيّم جديد للاجئين السوريّين، للمؤازرة. وهناك تلتقي بإحدى مثيلاتها، امرأة سوريّة تحمل طفلها، فتهدهد آلامها وتخفّف من رعبها، وفي النهاية تكتشفان أنّهما تشتركان أيضاً بالاسم ذاته: "آمال"، وقد آثرت الكاتبة جمع مفردة أمل! ثمّة إلحاح على الأمل في نصّ آخر بعنوان "أخضر البلاد"، النص الذي يحكي بعذوبة وأحاسيس شفيفة نديّة، عن البلاد الجميلة التي كانت، ويسرد ذكرى طفوليّة سعيدة، يوم ذهبت الساردة وعائلتها في رحلة ربيعيّة، انطلاقاً من حلب، مدينة القاصّة، وصولاً إلى مدينة كسب البحريّة. وفي الخاتمة تتوجّه الساردة/الكاتبة إلى القارئ تخاطبه مباشرة، وتصرّح له بما تخصّه من الشوق، من بين ما ذكرته في العرض، وهو اللون الأخضر، وكأنّ في السفور والوضوح تحقيقاً لصرختها الشجيّة في استرجاع الأخضر. وفي خطابها المباشر حافظت على الروح الطفوليّة والرقّة التي هيمنت على السرد، يتلقّاها القارئ برضىً واستمتاع، رغم أنّ القاصّة أغفلت في سردها ذكر أيّ تبرير موجب لغياب اللون الأخضر، ما يجعل النصّ لا يتجاوز عن كونه خاطرة رفيعة وعذبة، ولعلّ ما يشفع لها هو إدراجه بين هذه القصص التي تتحدّث، في أغلبها، عن الحرب التي دمّرت البلاد، وأحرقت الأخضر فيها، على مختلف الصعد. قصص استطاعت زينة حموي تحقيق المعادل الفنّي فيها، في مواجهة بؤس الوقع ومرارته، وذلك في تقديم قصصها بأخضر الفنّ!