ما الحياة إلا تشابك معقّد، مؤلم، مُربِك من الفرص الضائعة. نعيش فنُضيع فرصًا، ونستثمر أخرى، غير أنّ الحصيلة النهائيّة بيننا وبين أنفسنا ستتركّز على ما ضاع لا ما استُثمر. لمَ لم أقرأ هذا الكتاب باكرًا؟ لمَ تأخّرت في اكتشاف هذا الشخص أو ذاك؟ لمَ لم أردّ بابتسامة على تلك الابتسامة السّاحرة؟ تفاصيل نافلة ربّما لكنّها تُشكِّل حياتنا وتعيد تشكيلها، تُكوِّن ذاكرتنا وتُعيد تكوينها. قد تكون فرصًا أصغر، وأحيانًا هي أكبر بكثير: قد تغيّر حياتنا برمّتها في أحيان نادرة، وقد لا تغيّر إلا لحظةً عابرةً فقط، غير أنّها ستغيّر تفصيلًا من التّفاصيل هنا أو هناك، فلا تعود حياتنا هي هي قبلها وبعدها. سنردّ بابتسامات أخرى حتمًا، وسنقابل أشخاصًا آخرين أهمّ وأجمل وأقرب إلينا، وسنقرأ كتبًا وكتبًا وكتبًا؛ ولكنْ. ثمّة ما يلتصق بالذّاكرة مع أنّه ضاع، لأنّه ضاع. ليس الأمر تفاؤلًا أو تشاؤمًا، أو ربّما هو «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة» كما يحلو لگرامشي القول؛ ندرك ما ضاع، ونواصل المضيّ في درب الخسائر كي نُضيع أكثر، ونفهم أكثر، وربّما (في حالات نادرة) ننضج أكثر: اتصالات مؤجَّلة، رسائل غير مقروءة، لحظات لقاء لا تتمّ، دقائق غفلةٍ غير مقصودة، ساعات نوم غير ضروريّة. مأساة المتيّمين بحصاد الخسائر أنّهم يعون حتميّة تلك الفرص الضائعة، ويضيفون إليها – كي تكتمل الدائرة السيزيفيّة – قضايا خاسرة: دفاعٌ عن قضيّة مُهمَلة، عن أسماء مُهمَلة، عمّا تتغافل عنه ذاكرة الزّمن السّائد، ذاكرة المينستريم التي ترسم حدود حيواتنا اليوميّة؛ قد تكون قضايا خاسرة لأنّ الجميع تقريبًا يتغافلون عنها، وقد تكون في الغالب خاسرةً لأنّ الجميع يتحدّث عنها غير أنّهم يتحدّثون عنها لأسباب خاطئة: حريّة، ديمقراطيّة، فلسطين، سوريا، لبنان، مقاطعة، تطبيع، احتلال، نخبويّة، شعبويّة، فنّ، فنّ بديل، فنّ بديل للفنّ البديل. قضايا خاسرة لأنّها تحديدًا لن تتحوّل إلى قضايا رابحة، لأنّها قضايا مهزومين، قضايا ما راح، ما ضاع، ما تلاشى. ليس الأمر ولعًا بالهزائم، بل وعيًا بها، إدراكًا لحتميّتها، تأهّبًا لملاقاتها والالتفاف حولها كي تتضاءل الخسارة: نخسر أكثر فنخسر أقل.
كانت عبارة گرامشي تلك إحدى عبارات سماح إدريس الأثيرة، وباتت أكثر إيلامًا الآن لأنّ سماح تلاشى هو الآخر؛ بات هو أيضًا فرصةً ضائعة، قضيّة خاسرة. ما نفع الإرادة المتفائلة لو تلاشى صاحب تلك الإرادة؟ ستولد إرادات أخرى حتمًا، لعلّها أقوى ولعلّها أضعف، ولكنّها إرادة مختلفة، ليست تلك الإرادة التي نعرفها. مرةً أخرى، ما ضاع ضاع، غير أنّ الذّاكرة تصون ما ضاع، وتكترث أكثر لذاك الذي ضاع. اعتنق سماح العبارة الگرامشيّة يوميًا، في لحظات حياته كلّها، حيواته كلّها. حيوات كثيرة متعدّدة تكاد تضاهي عدد حيوات من عرفوه. لكلٍّ منّا سماحه؛ مَنْ عرفه ومن لم يعرفه، مَنْ تواصلَ معه ومن لم يتواصل، من رأى سمايلي ابتسامته في التشات والإيميلات ومن لم يرَ. لكلٍّ منّا سماحه، من اتّفق معه ومن اختلف معه، وقد اختلف معه كثيرون، هم في غالب الأحيان من اتّفقوا معه في قضيّة أخرى. نخالف سماح لأنّ حيواته أكثر من حيواتنا، لأنّه كان موجودًا في كلّ مكان، ولذا كانت رؤيته أشمل، وتستحقّ النّقاش والاختلاف. نعرف سماح أكثر حين نخالفه، حين نضع كلمة «لكنْ» عند تذكّره، لا لتحفّظات أو اختلافات بقدر ما تكون الكلمة تمييزًا لسماح الذي نقصده، لسماح الذي نودّ تسليط ضوءٍ جديد عليه. ثمة من ماتوا وسيموتون ولن يظفروا بهذه الـ «لكن» لأنّهم لا يستحقّون نقاشًا أو سجالًا أو تحفّظًا؛ ماتوا كما عاشوا، بلا تميّز، بلا هفوات، بلا مغامرات، على عكس سماح الذي اقتحم مجالات كثيرة ما كان غيره ليجرؤ على اقتحامها. كان يقتحم ليجرّب، وليرفع السّقوف الواطئة التي تؤطّر تلك المجالات بحيث يتركها أوسع وأشمل وأعلى لمن سيأتي بعده. ولذا يستحقّ هذه الـ «لكن» التي ستؤرّق من لم يفهموا سماح حقّ الفهم، من أرادوا سماح ببعدٍ واحدٍ لا بأبعاد تحتمل الاتّفاق والاختلاف والسّجال، السّجال الذي فوّتنا فرصة إشعاله دومًا حين كان بيننا، ولا ينبغي لنا أن نوقفه الآن، بل أن نصدح بتلك الـ «لكن» أكثر، حتّى بعدما رحل، بل ربّما لأنّه رحل، لأنّه رحل في غير أوانه، قبل أوانه؛ أو ربّما ما كان سماح ليرحل إلا في أوانه. هذا الأوان ليس أوانًا لسماح، لأيّ سماح، أيًا يكن سماح الذي نقصده ونعرفه، ولذا رحل قبل أن يشهد الانهيار القادم.
لم نتقابل يومًا. تبادلنا عشرات الإيميلات ورسائل التشات، ولكن لم أظفر بلقائه. ختمتُ رسالة الواتساپ الأخيرة التي أرسلتها إليه بـ «نحنا على تواصل أكيد»، ثمّ انشغلتُ بتهيئة نفسي للنّجاة من الانهيار السوريّ، مؤمّلًا نفسي أنّي سأراه في بيروت، إذ ظننتُ أنّ بيروت هي بيروت نفسها التي رأيتها آخر مرة قبل ثماني سنوات. ولكن لم تكن بيروت بيروت، ولم يكن سماح هنا. ساعات قليلة فصلت بين وصولي إلى بيروت وبين رحيله من بيروت، وعنها، ومنّا وعنّا. لعلّه استسلم قبل أن يأكله سرطان الانهيار كما التهم مبدعين عديدين غيره، لعلّه أراد النّجاة من انهيار بيروت الذي استشعرتُه حالَ وصولي. لعلّه سيقرّعني على جرعة التّشاؤم المفرطة هذه غير أنّه سيحنو حين يدرك جعبة الخيبات المتراكمة طوال عشر سنوات، ونبدأ نقاشًا عن الحاسّة الغريبة السّادسة أو التّاسعة التي ننزع فيها قشرتنا المعقدّة المركّبة ونعود إلى غريزة استشعار الخطر القادم مثل أيّ كائن لا يدرك تشدّقات الفارق بين التّفاؤل وبين التّشاؤم. كنتُ سأروي له انطباعاتي عن انكسارات النّاس في شوارع بيروت؛ انكسارات أعرفها وشهدتها في شوارع سوريا طوال سنوات. لعلّه سيلوّن أحرف كلماتي بالأصفر ويرسل سمايلي التّحرير الشّهير حين يودّ تغيير صياغةٍ لا بدّ من استشارة كاتبها قبل تغييرها، ثمّ يرفقها بتعقيب دقيق تدرك بعدها أنّ تلك الرّتوش الصغيرة جعلت الجملة والمعنى أنصع وأوضح، ويُلحقها بـ «ما تاخدها بشكل أَبَوِي». ذاك هو سماح الذي عرفتُه؛ سماح الذي عرفه كلّ من كتب في مجلّة الآداب منذ التسعينيّات، سماح المحرِّر الرّهيف الصّارم الذي أدين له بقسطٍ كبيرٍ من صياغتي اللغويّة اليوم. كان يتعامل مع العربيّة مثل ساحر، ينفض غبار الاعتياد عن أحرفها فتبدو أجدد وأجمل وأدقّ. كان يتعامل مع الأشياء كلّها كما لو كانت أخطاء تحريريّة لا بدّ من تصحيحها؛ تدرك معه تفاهة الحياة السياسيّة حين يصطاد أخطاء السّاسة وأدواتهم الإعلاميّة ويصحّحها ليرفع ستار التّعقيد الذي يسبغه الجميع على السّياسة اليوميّة التي يودّ السّاسة لو عقّدوها أكثر فأكثر أمام أعيننا. كلّها ليست إلا أغلاطًا تنتظر تصحيح المُحرِّر الذكيّ السّاخر. ولكنّ هذه الخفّة السّلسة لا تعني بحالٍ من الأحوال تبسيطًا في غير محلّه، إذ كان يحلّ مشكلةً بالسّخرية، وأخرى بالبيان، وأخرى بالمظاهرة، وأخرى بالحوار، وأخرى بالصّمت.
عرفتُه بطبيعة الحال مترجمًا، ورئيسًا لتحرير النسخة «المُطوَّرة» من مجلّة الآداب، وكاتب مقالات بارعًا، ومُحرِّضًا إشكاليًا على الدّوام. أيّة مجلّة كتبت عن محمود درويش وعن زياد الرّحباني وعن ناجي العلي وعن الخبز والعيش والكرامة والرّقابة والمقاومة والنّضال كما فعلت «الآداب»؟ أيّة مجلّة كتبت كلّ هذا وأكثر وبقيت مرنةً بنت يومها من دون التخلّي عن المبادئ (لو استخدمنا اللغة الخشبيّة التي تزعج كثيرين اليوم وأمس وغدًا) كما فعلت «آداب» سماح إدريس؟ ربّما أفرط قليلًا في مسألة المقاطعة، ربّما أغفل أحداثًا داخليّة لحساب القضيّة الأولى، فلسطين، ربّما صمتَ حين كان ينتظر كثيرون منه أن يقول، ربّما نطق حين كان الصّمت أجدى، ربّما، ربّما، ربّما، ولكنّه كان موجودًا دومًا ومتأهّبًا للسّجال وللنّقاش وللحوار. فتحَ باب المجلّة للجميع كي تكون مجلّتهم قبل أن تكون مجلّته، وحين بات قرار الإغلاق أكيدًا، صمت ثمّ عاود الهجوم بأدوات عصرٍ ما كان جاهلًا به، بل ربّما كانت «الآداب» الإلكترونيّة أهمّ مجلّة إلكترونيّة طوال السّنوات الماضية. عرفتُه أكثر في سنوات الإصدار الإلكترونيّ. طوَّع لغتي أكثر، وشحذَ قدرتي على الانتقاء. كان يدرك الفارق بين الإصدار الورقيّ والإصدار الإلكترونيّ فيلومني بلطفٍ مُحرِّض حين أنتقي موضوعًا «ثقيلًا» للترجمة: «بدنا شي أخفّ يا رفيق». كنتُ أستغرب الردّ ثم أفهم أكثر فأكثر حين نتّفق على مقالة أو حوار. بوسعك أن تقدّم مجلّة ثقافيّة تقدّميّة (نعم، لغة خشبية مرة أخرى!) جادّة، وإلكترونيّة، من دون أن تتحوّل الخفّة إلى ابتذال، ومن دون أن تكون وجبة ثقيلة ينفر منها القارئ الإلكترونيّ. لكلّ زمنٍ قرّاؤه. أدرك سماح هذه الحقيقة وطبّقها دومًا بنجاح مذهل أكثر حتّى من أبناء هذا الجيل أنفسهم.
فلنترك المناضل قليلًا كي نرى سماح الآخر، وإنْ كان سماح مناضلًا في كلّ ما فعل وكتب وترجم، وإنْ اختلف معنى النّضال. أو لعل الأدقّ أنّه كان مُحرِّرًا في كلّ ما فعل، على الأخص حين كتب لليافعين، للفئة العمريّة الحرجة التي يخشى معظمنا الكتابة عنها لأسباب كثيرة: منّا مَنْ يخشى الكتابة بجرأة، منّا من يخشى الكتابة بلغة غير لغتهم، منّا من لا يكترث لهذه الفئة العمريّة أصلًا. ولكنّ سماح كتب عنها إحدى أجمل الروايات العربيّة، «خلف الأبواب المقفلة» التي أذهلتني حين قرأتها للمرة الأولى حالَ صدورها عام 2014. يا لهذه اللغة المدهشة! ثمّة من يُطوِّع المحكيّة والفصحى في قالب واحد، ويمزجه مزجًا بارعًا مع لغة هذا الجيل، جيل الأوكيه واللايك والشِّير. كانت لي تحفّظاتي بأنّها أقصر من اللازم، وقد تقبَّل ملاحظاتي عنها بلطفٍ بالغٍ، وربّما أفرط قليلًا في مديحه لي حين كتبتُ عنها. ما كان ليمتدحني اليوم لو كتبتُ اللغة ذاتها، الصّياغة ذاتها، الأسلوب ذاته، هذا أكيد. ولكنّنا كنّا سنواصل تبادل التحيّات الإلكترونيّة، مع شيءٍ من النّميمة البنّاءة. حتّى بعدما أحجمتُ قليلًا عن النّشر في «الآداب» كنتُ أستشيره بشأن كتبٍ ومقالات ومؤلِّفين، وكان يردّ: «بلاها عزيزي في رأيي»، وكنتُ أقتنع. ربّما غيَّرتُ شيئًا من قناعاتي اليوم، ولكنْ أين سأجد من يقول: «بلاها» كي أقتنع أو أواصل أو أساجل؟ عَتْم الطّريق يا رفيق!