عن ظاهرة وظائف الهُراء

عن ظاهرة وظائف الهُراء

عن ظاهرة وظائف الهُراء

By : David Graeber

ديفيد غريبر

في عام 1930، تنبأ جون ماينارد كينز، أنه بحلول نهاية القرن، ستتقدّم التكنولوجيا بما يكفي بحيث أن دولاً مثل بريطانيا العظمى أو الولايات المتحدة ستحقق 15 ساعة من العمل في الأسبوع. هناك ما يدعو للاعتقاد بأنه كان على حق. فمن الناحية التكنولوجية، نحن قادرون تماماً على ذلك. ولكن، هذا لم يحدث. وبدلاً من ذلك، تم تحشيد التكنولوجيا لإيجاد طرق تجعلنا جميعنا نعمل أكثر. ومن أجل تحقيق ذلك، كان لا بدّ من خلق وظائف لا طائل منها كُلياً. فهناك قطاعات عريضة من الناس، في أوروبا وأمريكا الشمالية على وجه الخصوص، يقضون حياتهم العملية بأكملها في أداء مهامّ يعتقدون في دواخلهم أنها لا تحتاج حقاً إلى القيام بها. وأن الضرر المعنوي والروحي الناجم عن هذا الوضع، عميق. إنها ندبة أصابت روحنا الجماعية برمتها. ومع ذلك، عملياً، لا أحد يتحدث عن ذلك.

لماذا لم تتحقق يوتوبيا كينز الموعودة -التي لا تزال تنتظر بفارغ صبر- في الستينيات؟ الخط القياسي اليوم هو أن كينز لم يضع في حسبانه الزيادة الهائلة في النزعة الاستهلاكية. فعندما خُيّرنا بين ساعات عمل أقل أو المزيد من الألعاب والمتع، اخترنا جميعنا الخيار الثاني. قدّم ذلك قصة أخلاقية جميلة، ولكن حتى لحظة واحدة من التفكير تُظهر أن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً. نعم، صحيح أننا شهدنا ابتداع وظائف وصناعات جديدة ومتنوعة لا عدّ لها ولا حصر منذ العشرينيات، ولكن القليل منها له علاقة بإنتاج وتوزيع السوشي أو أجهزة الآيفون أو الأحذية الرياضية الفاخرة.

إذن ما هي هذه الوظائف الجديدة تحديداً؟ هناك تقرير حديث يقارن بين التوظيف في الولايات المتحدة بين عامي 1910 و2000، يعطينا صورة واضحة، «وأشير، إلى أنه بالعكس تماماً مما هو عليه في المملكة المتحدة». على مدار القرن الماضي، هبط لحدّ هائل عدد العمال المستخدمين كخدم منزليين، وفي الصناعة، وفي قطاع المزارع. وفي الوقت نفسه، تضاعف إلى ثلاث مرات عدد العمال «الاحترافيين، الإداريين، المكتبيين، وموظفي المبيعات والخدمة»، حيث زادوا من «ربع إلى ثلاثة أرباع إجمالي العمالة». بعبارة أخرى، فأن الوظائف المُنتِجة، وكما هو متوقع، قد أصبحت لحدّ كبير آلية، «حتى لو قمت بحساب العمال الصناعيين على مستوى العالم، بما في ذلك الجماهير الكادحة في الهند والصين، فأن هؤلاء العمال لا يزالون لا يمثلون نسبة كبيرة من سكان العالم كما كانوا سابقاً».

ولكن بدلاً من السماح بتخفيضٍ هائلٍ في ساعات العمل لتحرير سكان العالم ليسعوا خلف مشاريعهم الخاصة ومُتعهم ورؤاهم وأفكارهم؛ فقد شهدنا تضخماً في قطاع «الخدمات»، الذي هو في الحقيقة ليس قطاع خدمات بقدر ما هو قطاع إداري، إلى حدّ أو بما في ذلك، خلق مهناً جديدة مثل الخدمات المالية والتسويق عبر الهاتف، أو التوسع غير المسبوق في قطاعات من قبيل قانون الشركات، الإدارة الأكاديمية والصحية، الموارد البشرية، والعلاقات العامة. وهذه الأرقام لا تنعكس حتى على كل أولئك الأشخاص الذين تتمثل وظائفهم بتوفير الدعم الإداري، والفني، والأمني لتلك المهن، أو في هذا الصدد، مجموعة كاملة من المهن المُلحقة «كتنظيف الكلاب، وتوصيل البيتزا المستمر طوال الليل»، التي السبب الوحيد لوجودها هو لأن الآخرين كلّهم يقضون الكثير من أوقاتهم في العمل في كل تلك المجالات الأخرى.

هذهِ هي ما أقترح تسميتها بـ «وظائف الهراء».

يبدو الأمر كما لو أن هناك شخصاً ما يختلق وظائف لا طائل منها فقط من أجل إبقائنا جميعنا نعمل. وهنا، بالتحديد، يكمن اللغز. لأنه، في الرأسمالية، هذا هو بالضبط ما لا يُفترض حدوثه. بالطبع، في الدول الاشتراكية القديمة غير الكفوءة، مثل الاتحاد السوفييتي، حيث كان التوظيف يُعدّ واجباً حقّاً ومقدساً على حدّ سواء، فقد اختلق النظام العديد من الوظائف بقدر ما يتوجّب «ولهذا السبب، فإنه في المتاجر السوفييتية، كان ابتياع قطعة لحم، يتطلب ثلاثة موظفين». ولكن، بالطبع، فأن هذا النوع من المشاكل بالذات يُفترض أن تحلّها المنافسة في السوق. وفقاً للنظرية الاقتصادية، على الأقل، فإن آخر شيء ستفعله شركة تسعى للربح هو تبذير الأموال على عمّال لا تحتاج إلى توظيفهم. ومع ذلك، وبطريقة ما، هذا هو ما يحدث.

لن أجرؤ على إخبار الأشخاص المقتنعين بأنهم يقدّمون مساهمة ذات معنى للعالم، بأنهم لا يقومون بذلك في الحقيقة. ولكن ماذا عن أولئك الأشخاص المؤمنين بأن وظائفهم لا معنى لها أصلًا؟

ففي الوقت الذي تنخرط فيه الشركات بتقليل عمّالها بلا رحمة، فإن إجراءات تسريح العمال وتسريع العمل، تقع على عاتق تلك الفئة من الأشخاص الذين يقومون بالأشياء وينقلونها ويصلحونها ويحافظون عليها، عن طريق خيمياء غريبة لا يمكن لأي أحد أن يشرحها، ويبدو أن عدد الإداريين الذي يتقاضون الرواتب يزداد في نهاية المطاف، فيجد المزيد والمزيد من الموظفين أنفسهم، على عكس العمال السوفييت في الواقع، وهم يعلمون 40 أو حتى 50 ساعة أسبوعياً على الورق، ولكنهم يعلمون بشكل فعّال 15 ساعة كما توقع كينز، بما أنهم يقضون باقي أوقاتهم في تنظيم أو حضور ندوات تحفيزية، وتحديث بروفايلاتهم على الفيسبوك، أو تنزيل باقات كاملة من البرامج التلفزيونية.

من الواضح أن الإجابة ليست اقتصادية: إنها أخلاقية وسياسية. فقد اكتشفت الطبقة الحاكمة أن السكان السعداء والمنتجين الذين يملكون وقت فراغ يمثلون خطراً مميتاً «فكّر في ما بدأ يحدث عندما بدأ تقريب هذا في الستينيات». ومن الناحية الأخرى، فأن الشعور بأن العمل هو قيمة أخلاقية بحدّ ذاته، وأن أي شخص لا يرغب في إخضاع نفسه لنوعٍ من العمل المكثف التأديبي في معظم ساعات يقظته لا يستحق شيئاً؛ هو أمر مناسب للغاية بالنسبة لهم.

ذات مرة، وفيما كنتُ أمعن التفكير في النمو الواضح للمسؤوليات الإدارية في الأقسام الأكاديمية البريطانية، توصلتُ إلى رؤية واحدة محتملة من الجحيم. الجحيم عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين يقضون جُلّ أوقات عملهم في العمل على مهمة لا يحبونها ولا يجيدونها. لنفترض أنه تمّ تعيينهم لأنهم كانوا صنّاع خزانات بارعين، ثم اكتشفوا أنه من المتوقع منهم أن يقضوا جزءاً كبيراً من وقتهم في قلي السمك. بالإضافة إلى أن هذه المهمة لا حاجة للقيام بها؛ على الأقل، هناك عدد محدود جداً من السمك الذي يحتاج إلى أن يتمّ قليه. مع ذلك، وبطريقة ما، أصبحوا جميعاً مهووسين بالاستياء من فكرة أن بعضاً من زملائهم في العمل قد يقضون وقتاً أطول في صنع الخزانات، ولا يقومون بحصتهم العادلة من مسؤوليات قلي السمك، وقبل أن يمر وقت طويل، ستكون هناك أكوام لا نهائية من السمك عديم الفائدة المقلي بشكل سيّئ، متراكمة في جميع أنحاء المشغل، وهذا كل ما يفعله الجميع في الحقيقة.

أعتقد أن هذا وصف دقيق جداً للديناميكية الأخلاقية لاقتصادنا.

الآن، أدرك أن أية حجة من هذا القبيل ستواجه باعتراض فوري: «من أنت لتقول ما هي الوظائف "الضرورية" حقاً؟ ما هو الضروري على أية حال؟ أنت أستاذ في علم الأنثروبولوجيا، فما هي «الحاجة» لتلك الوظيفة؟». «وبالفعل، فأن العديد من قراء الصحف الصفراء قد يعتبرون وظيفتي هي التعريف ذاته للإنفاق الاجتماعي المهدور». وقد يكون هذا صحيحاً على صعيد ما. لا يمكن أن يكون هناك مقياس موضوعي للقيمة الاجتماعية.

لن أجرؤ على إخبار الأشخاص المقتنعين بأنهم يقدّمون مساهمة ذات معنى للعالم، بأنهم لا يقومون بذلك في الحقيقة. ولكن ماذا عن أولئك الأشخاص المؤمنين بأن وظائفهم لا معنى لها أصلًا؟ منذ وقت ليس بالبعيد، تواصلت مع صديق لي من أيام المدرسة، لم أره منذ أن كنت بعمر الثانية عشرة. لقد دُهشت عندما عرفت أنه خلال هذه الفترة أصبح أولاً شاعراً ومن ثم الرجل الأول في إحدى فرق موسيقى الإندي روك (Indie Rock). كنت قد سمعت بعضاً من أغانيه على الراديو، دون أن أعرف أن المغنّي كان شخصاً أعرفه. ومن المؤكد أنه كان مذهلاً ومبدعاً وقد أدى عمله بلا شك إلى تحسين وإسعاد حيوات الناس حول العالم. ومع ذلك، بعد إصداره لبضعة ألبومات غير ناجحة، فقد عقده، وابتُلي بالديون وطفلة حديثة الولادة، وانتهى به الأمر على حدّ تعبيره بـ «اتخاذ الخيار الافتراضي للعديد من الأشخاص الفاقدين للهدف؛ أي كلية الحقوق». والآن، إنه يعمل كمحامي شركات، يعمل في شركة بارزة في نيويورك. كان أول من اعترف أن وظيفته بلا معنى، ولا تُساهم بأي شيء إلى العالم، وفي تقديره الخاص، لا ينبغي أن توجد فعلاً.

هناك العديد من الأسئلة التي يُمكن للمرء أن يطرحها هنا، ابتداءً من: ما هو الانطباع الذي يتركه مجتمعنا عندما يبدو أنه يولّد طلباً محدوداً للغاية على الشعراء الموسيقيين الموهوبين، فيما كما يبدو أنه يولّد طلباً غير محدود على المتخصصين في قانون الشركات؟ «الإجابة: إذا كان 1% من السكان يسيطرون على معظم الثروة المتاحة، فأن ما نسميه بـ «السوق» يعكس ما يظنونه مفيداً ومهماً، وليس أي أحد آخر غيرهم». ولكن الأهم، فأنه يُظهر أن معظم الأشخاص في هذه الوظائف يدركون هذا في نهاية المطاف. في الواقع، أنا لست متأكداً أنه سبق لي أن قابلت محامي شركات لم يظن أن وظيفته هي هراء. ينطبق الأمر نفسه على كل المهن الجديدة الموضحة أعلاه. هناك فئة كاملة من المهنيين الذي يتقاضون الرواتب، الذين إذا قابلتهم في الحفلات واعترفت بأنك تقوم بعملٍ قد يُعتبر مثيراً للاهتمام «كعالِم أنثروبولوجي على سبيل المثال»، فإنهم سيرغبون في تجنب مناقشة مجال عملهم تماماً. ولكن أعطهم بعضاً من المشروب وسوف يشرعون بإلقاء خطبة هجومية حول مدى غباء وعبثية وظائفهم حقاً.

هذا هنا عبارة عن عنف نفسي عميق. كيف يكون بمقدور المرء الحديث عن الكرامة في العمل عندما يشعر في داخله أن عمله لا يجب أن يوجد من الأصل؟ كيف لا يمكن لهذا أن لا يخلق إحساساً بالغضب والاستياء العميقين. ولكن، ثمة هذه العبقرية المميزة لمجتمعنا وهي أن حكامه قد توصلوا لطريقة معينة، كما في حالة قلي السمك، تضمن توجيه الغضب تحديداً ضد أولئك الذين يقومون بعمل ذي معنى. على سبيل المثال: في مجتمعنا، يبدو أن هناك قاعدة عامة مفادها، كلما كان عمل المرء مفيداً للآخرين قلّ احتمال حصوله على أجر مقابل ذلك. أكرر ثانية، من الصعب العثور على مقياس موضوعي، ولكن هنالك طريقة سهلة للحصول على فكرة وهي طرح سؤال: ماذا سيحدث لو اختفت هذه الفئة من الناس بأكملها؟ قُل ما تشاء عن الممرضات وجامعي القمامة والميكانيكيين، ولكن من الواضح أنهم لو اختفوا تماماً فجأة، فأن النتيجة ستكون فورية وكارثية. فالعالم بلا معلّمين ولا عمّال موانئ سرعان ما سيقع في المتاعب، وحتى عالم بدون كتّاب الخيال العلمي أو موسيقيي السكا [Ska] من الواضح أنه سيكون عالماً قليل الشأن. وليس من الجلي تماماً كيف ستكون معاناة البشرية في حالة اختفاء جميع المدراء التنفيذيين لشركات الأسهم الخاصة، أو جماعات الضغط، أو باحثي العلاقات العامة، أو خبراء التأمين، أو مسوّقين عبر الهاتف، أو المُحضِرين، أو المستشارين القانونيين. «يظن الكثيرون أنه قد يتحسن بشكل ملحوظ». ومع ذلك، باستثناء حفنة من الاستثناءات التي رُوِّج لها جيداً «أعني الدكاترة»، فأن القاعدة سارية بنحو مذهل.

وما هو أكثر انحرافاً، يبدو أن هناك شعوراً واسعاً أن هذهِ هي الطريقة الصحيحة التي يجب أن تكون عليها الأمور. هذه إحدى نقاط القوة السرّية للشعبوية اليمينية. يمكنك أن ترى هذا عندما تثير الصحف الصفراء الاستياء ضدّ عمّال المترو لشلّ لندن أثناء النزاعات المتعلقة بالعقود: ولكن حقيقة أن عمال المترو يمكنهم شلّ لندن تُظهر أن عملهم ضروري بالفعل، ولكن يبدو أن هذا هو بالضبط ما يزعج الناس. الأمر في الولايات المتحدة أكثر وضوحاً، حيث حقّق الجمهوريون نجاحاً ملحوظاً في تعبئة الاستياء ضد معلّمي المدارس، أو عمال السيارات «وليس بشكل كبير ضد مدراء المدارس أو المدراء في صناعة السيارات الذين كانوا هم من تسبّب بالفعل بالمشاكل»، على ما يُفترض به، أجورهم ومخصصاتهم المرتفعة. يبدو الأمر كما لو أنه قد قيل لهم: «ولكن، بالمقابل، يتسنى لكم تعليم الأطفال! أو صنع السيارات! والحصول على وظائف حقيقية! وفوق كل هذا، عندكم الوقاحة لكي تتوقعوا أن تحصلوا أيضاً على معاشات الطبقة المتوسطة والرعاية الصحية؟».

لو أن أحدهم صمم نظام عمل ملائم تماماً للمحافظة على قوة رأس المال، فمن الصعب أن نتوقع أن يقوم بعمل أفضل من هذا. يتعرض العمال الحقيقيون والمنتجون إلى الضغط والاستغلال بلا شفقة. والباقي منقسمون إلى طبقة مرعوبة من منبوذين عالمياً عاطلين عن العمل، وطبقة أكبر من الذين يُدفع لهم مقابل عدم القيام بأي شيء، في مراكز مصممة لجعلهم يتماهون مع وجهات نظر ومشاعر الطبقة الحاكمة «المدراء والإداريون.. إلخ»، -ولا سيما مع أﭬتاراتهم المالية- وفي نفس تُربي استياء كامناً ضد أي شخص يملك عملاً له قيمة اجتماعية جليّة لا يمكن إنكارها. من الواضح أن النظام لم يتم تصميمه عمداً مطلقاً. فقد برز بعد قرابة القرن من التجربة والخطأ. ولكنه التفسير الوحيد على السؤال: لماذا نحن لا نعمل لمدة 3-4 ساعات في اليوم، بالرغم من قدراتنا التكنولوجية.

[ترجمة رنيم العامري. نُشر هذا المقال لأول مرة سنة 2013 في مجلة Strike، ولكن تمّ التوسع فيه وصار كتاباً بنفس العنوان سنة 2018].

حراك الريف: النظام يراهن على الحسم الأمني

 أزيد من ثمانية أشهر والشارع المغربي لم يهدأ منذ أن بدأت الاحتجاجات الحاشدة في الريف المغربي كحركة اجتماعية محلية.  لتتحول إلى صرخة وطنية جماعية ومحاكمة شاملة لسياسات الدولة تعري عيوبها وهشاشتها فيما يظهر على أنه أكبر تحد يواجه الحكم في المغرب منذ وصول الملك محمد السادس إلى العرش سنة 1999. وذلك بعد أن فشلت مخرجات تركيبة ما عرف ب "العهد الجديد" في إيجاد حل للأزمة. وظهر أن الوساطة بين رأس السلطة والمتظاهرين لم تعد ممكنة لأن المؤسسات منزوعة المصداقية وتفتقد ثقة الشارع.

وأتى الخطاب الملكي الذي ألقي نهاية الشهر الماضي بمناسبة حلول الذكرى 18 مخيبا للآمال. إذ اكتفى الملك بإلقاء المسؤولية على المسؤولين السياسيين والأحزاب فيما آلت إليه الأوضاع في الريف وحاول تجنيب القصر المسؤولية. وأضفى الشرعية على المنظومة الأمنية التي تدير ملف الاحتجاجات في الريف حين أشاد بعملها واحترامها للقانون نافيا وجود أية مقاربة أمنية في التعامل مع احتجاجات الحسيمة. ولم يطرح خطاب رئيس الدولة أية حلول لتجاوز الأزمة فيما يبدو وكأنه حالة إنكار لحجم المأزق.

في هذا الامتعاض الملكي في حد ذاته إدانة ضمنية لديمقراطية الواجهة التي شكلت عصب ما عرف بالعهد الجديد. وإعلان عن مأزق الملكية التنفيذية التي تبقي سلطات محدودة لرئيس الحكومة فضلا عن هيمنة القصر على عدد من الوزارات الهامة التي تدبر الملفات الاستراتيجية التي لا يعلم بتفاصيلها حتى رئيس الحكومة. كما هو حال مشروع منارة المتوسط في الحسيمة الذي أكد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران لعدد من مقربيه علمه به على التلفاز فقط وعدم إخباره من طرف وزراء حكومته الذين شاركوا في حفل توقيع المشروع.

محاولة احتواء فقمع 

حرص القصر في بداية الأزمة على محاولة احتواء موجات الغضب على إثر واقعة مقتل تاجر السمك محسن فكري وضمان عدم تحول هذه اللحظة العاطفية القاسية إلى لحظة استحضار الأوجاع القديمة للتاريخ المؤلم للعلاقة بين الإنسان في الريف والدولة المركزية. وهكذا بعث الملك حينذاك وزيريه في الداخلية على عجل لتعزية عائلة محسن فكري ومحاولة طمأنة الجميع إلى أن الملك قد أمر بمحاسبة المتورطين و تعهد بالحرص على عدم تكرار هذه الحوادث. غير أن هذه التطمينات وصدور أحكام مخففة في حق عدد من المسؤولين لم تكن كافية لنزع فتيل الغضب. كان الاحتجاج قد تحول فعلا إلى ما يشبه حالة ثقافية واجتماعية إن لم نقل اعتقادية في المجتمع الريفي. وقد صنع الشارع بشكل تدريجي مع مرور الأيام قيادة لها شرعية وشعبية جارفة استطاعت أن تطور ملفا مطلبيا شاملا يطالب بمصالحة حقيقية مع الريف والاعتذار عن ما مضى وبمشاريع تنموية حقيقية ويتجاوز اعتبار حادث مقتل محسن فكري عرضيا. 

غير أن الدولة تجاهلت هذه المطالب ورفضت الحوار بشكل مباشر مع قيادة الاحتجاجات مراهنة على الوقت لكي ينفض الحراك من تلقاء نفسه بعد شهر أو شهرين. لكن العكس هو ما حصل، حيث تقوت الحركة الاحتجاجية أكثر فأكثر وبدأت تطور خطابا بمضمون سياسي مليء بالتحدي يسائل رئيس الدولة بشكل مباشر ويطلب حوارا معه من دون وسائط على قاعدة المطالب المرسومة. هذه الاحتجاجات التي كانت تتركز تحديدا في الحسيمة بدأت تتمدد إلى بقية مناطق الريف التي تأسست فيها تنسيقيات احتجاجية لديها مطالب جد محلية بالإضافة إلى المطالب العامة، و انتقال الاحتجاج إلى الهوامش يعني صعوبة احتوائه أكثر.

خلال الأشهر التي تلت مقتل محسن فكري كان القصر يدبر ما عرف إعلاميا بـ "البلوكاج الحكومي" وكان منهمكا في عملية تحجيم وجود حزب العدالة والتنمية الإسلامي في التركيبة الحكومية الجديدة وإقصاء زعيمه الجدلي عبد الإله بنكيران من المشهد السياسي. ويبدو أن رهانه في هذه الفترة على انقسام الحراك أو الخلافات بين قياداته واختراقه بالاستراتيجيات المعهودة لم يفض إلى أية نتيجة لأن حراك الريف ليس كلاسيكيا  ويتميز عن بقية الحركات الاجتماعية التي عرفها المغرب في السنوات. فهو خارج عن نسق "الاستباليشمونت النضالي التقليدي"، واستطاع خلق إجماع ليس له مثيل  قاطعا مع الأشكال النخبوية للاحتجاجات السابقة. 

كما أن وسائل الإعلام الخاصة المقربة من السلطة  التي قامت بالتشهير بقادة الحراك تفتقد إلى المصداقية ولها باع طويل في التعريض بالمعارضين وتوجيه الاتهامات لهم دون أي أساس. مما جعل الحملة الإعلامية التي تشن على رموز الحراك الاحتجاجي تفشل وتبدو عاجزة عن الإقناع حتى بالنسبة للمتوجسين من الطابع الهوياتي للحراك الريفي.

ومع الفشل في القضاء على جذوة الاحتجاج بدأت مؤشرات التصعيد الأمني تلوح في الأفق عبر تصريحات متواترة من مسؤولين تابعين لوزارة الداخلية في الحسيمة لوسائل الإعلام. إلى أن قدم وزير الداخلية لفتيت تقريرا لزعماء أحزاب الأغلبية الحكومية يتهم المتظاهرين بخدمة أجندات انفصالية و تلقي أموال من الخارج لزعزعة استقرار البلاد فيما بدا وكأنه محاولة لإيجاد غطاء سياسي لعملية أمنية مرتقبة وكان معدا لها قبل مدة.

كان للمقاربة الأمنية التي اعتمدتها الدولة في تدبير ملف الاحتجاجات الاجتماعي في الريف نتيجة عكسية. فهي من جهة لم تنجح في كبح جماح التظاهرات في مدينة الحسيمة و المدن المجاورة لها كما كان التقدير الأمني يتوقع. بل ارتفع منسوب التظاهرات إلى احتجاجات يومية خلال شهر رمضان الماضي رغم الطوق الأمني الذي ضرب على المدينة وحالة حظر التجول العملي التي تعيشها، وبدا أن المحتجين أصبحوا أكثر إصرارا على الاستمرار على نهج ملهمهم ناصر الزفزافي إلى حين إطلاق سراح جميع المعتقلين وتحقيق ملفهم المطلبي. وأفرز الحراك وجوها جديدة لقيادة الاحتجاج وطور المحتجون أشكال احتجاج جديدة ( القرع على الأواني من أسطح المنازل، التظاهر في الشواطىء). 

استراتيجيات متوازية

لتجنب تقديم تنازلات كبيرة يظهر أن النظام يعتمد على استراتيجية "البحث عن الحل من داخل التصعيد"، ويدبر هذه الأزمة باستراتيجيتين متوازيتين ومتزامنتين تتراوحان بين التصعيد الأمني على الأرض من خلال تعنيف التظاهرات وسجن المحتجين طمعا في إيقاف الاحتجاجات، بالموازاة مع بعث بوادر التهدئة عبر الإعلان عن التسريع بإنجاز المشاريع التنموية. وظهر أن سقف تنازلات النظام لن يتجاوز التحقيق في أسباب تأخر إنجاز المشاريع التنموية في الحسيمة وإقالة بعض المسؤولين الحكوميين أو الإداريين بحسب ما يمكن أن نفهم من آخر اجتماع للملك مع الوزراء قبل العيد، وهو سقف جد منخفض ولا يلبي مطالب الحراك الاحتجاجي الذي بدأ قبل ثمانية أشهر، يبدو إذن أن النظام يلعب حتى الآن الورقتين معا مع تأجيل الحسم في إحداهما خصوصا أن المناخ الدولي ليس ضاغطا كما كان الحال سنة 2011.

أمام فشل المقاربة الأمنية في القضاء على التظاهرات بدأت تظهر بعض المبادرات الفردية والجماعية –من بينها مبادرات مقربة من السلطة- التي تدعو إلى الحوار بين الدولة والمحتجين ( مبادرة إلياس العماري مثلا). فيما كان يبدو وكأنه عملية تمهيد لحل قريب في الأفق، بالتزامن مع تصريحات حكومية متتابعة تؤكد تسريع وتيرة إنجاز المشاريع التنموية المتأخرة في الريف، وتشدد على كون المتابعات تتم وفق القانون مع وجود ضمانات ملكية بالتحقيق في مزاعم التعذيب. وزاد استدعاء عدد من عائلات المعتقلين في الحسيمة ومطالبتهم بتوقيع طلبات للعفو الملكي بالإضافة إلى تمكين المعتقل المرتضى اعمراشا من السراح المؤقت بعد وفاة والده وإعلان عامل الحسيمة الجديد عن وجود تعليمات ملكية بتخفيف التواجد الأمني من الاعتقاد بترجيح احتمال رغبة الدولة في إنهاء الأزمة. 

لكن هذه الإشارات الإيجابية لم تكن إلا ذرا للرماد في العيون، إذ ظل الواقع على الأرض مناقضا لمؤشرات التهدئة التي كان يلقى بها بين الفينة والأخرى. حيث استمرت الاعتقالات و قمع التظاهرات بشكل عنيف.  فبعد يوم واحد فقط بعد أن أعلن الديوان الملكي أن الملك قام بالتعبير عن غضبه من تأخر إنجاز المشاريع الكبرى التي التزمت بها الدولة في الريف وإعلان تشكيل لجان تحقيق في أسباب تعثر هذه المشاريع كان تعامل القوات الأمنية مع تظاهرات يوم العيد في الحسيمة عنيفا بشكل غير مسبوق. وأظهرت لقطات الفيديو التي تداولها ناشطون عمليات ضرب وتنكيل قامت بها القوات العمومية في حق المتظاهرين بالإضافة إلى حملة اعتقالات واسعة. كما أن حركة تنقيلات الولاة الأخيرة لم تحمل تغيير الوالي محمد اليعقوبي الذي يعتبر مطلب إعفائه على رأس المطالب، وهو ما يمكن تفسيره برضا النظام عن تدبيره للملف منذ حادثة مقتل محسن فكري.

تكشف هذه الإشارات المتناقضة التي يبعثها النظام في تدبيره للأزمة في الريف( والتي كان آخرها المنع العنيف الذي تعرضت له الاحتجاجات في الحسيمة يوم 20 يوليوز) انعدام جواب جاهز في الوقت الراهن على الأزمة ومحاولة لكسب الوقت في انتظار تبلور حل بأقل الأضرار مع الرهان على إنهاك المتظاهرين واستنزاف طاقة قادة الحركة الاحتجاجية المسجونين وإجبارهم على تقديم تنازلات. فالدولة تدرك خطورة الأزمة وكلفة استمرارها وتمددها زمنيا لكنها تخشى في نفس الوقت تقديم تنازلات مؤلمة قد تفتح الباب أمام تصاعد المزيد من المطالب مستقبلا في بقية أنحاء البلاد خصوصا أن الحركة التي بدأت محلية تحولت لتصبح وطنية وبمضمون سياسي يستعيد نفس متن شعارات احتجاجات 2011 وهو ما يعلن نهاية صلاحية العرض السياسي الذي قدمه النظام في ذلك الوقت. علاوة على أن عقيدة النظام لا تؤمن بالتجاوب مع جماعات غير ممأسسة وسيكون بمثابة الهزيمة بالنسبة إليها قبول التفاوض المباشر على مطالب حركة احتجاجية تستمد شرعيتها بشكل مباشر من الشعب. 

كما كشف حراك الريف تضاربا في التقديرات بين أجنحة النظام حول كيفية التعامل مع الأزمة الأكبر في البلاد منذ عقود لكن هذه التناقضات ثانوية ومتحكم فيها وتعكس في الغالب طموحات شخصية  لرجالات النظام وتنافسا حول الحظوة بثقة الملك. حيث يظهر وكأن صراعات مواقع في مربع السلطة يجري حسمها بين عدد من شخصيات النظام المحيطة بالقصر و يبدو وكأن الجناح الأمني (الاستخبارات الداخلية، الأمن الوطني) ينحو أكثر نحو التصعيد وهو متمسك بخيار الحسم الأمني باستنزاف المحتجين من خلال استمرار تشديد القيد الأمني على المدينة و الاستمرار في الاعتقالات و المتابعات. ذلك أن حسم الأزمة أمنيا وإنهاء الاحتجاجات سيقوي من موقع المؤسسة الأمنية في هرم السلطة و يعزز ثقة القصر بقيادتها، وهو ما تعكسه ردة فعل إدارة الأمن الوطني المنفعلة بعد تسريب تقرير خبرة طبية للمجلس الوطني لحقوق الإنسان –وهو مؤسسة رسمية يديرها ادريس اليزمي وهو مقرب من القصر- يقر فيها بتعرض المعتقلين للتعذيب الجسدي والنفسي، والتدخل الأمني العنيف في وقفة تضامنية نظمت بالرباط  مؤخرا أصيب خلالها عدد من الصحفيين والحقوقيين، بالإضافة إلى تسريب فيديو يظهر ناصر الزفزافي قائد الحراك في وضعية مهينة من طرف إخدى المواقع المعروفة بارتباطها بالأجهزة الأمنية.

و حاول رئيس الدولة تفنيد وجود مثل هذه الصراعات في محيطه حينما نفى بشكل صريح وجود جناحين متشدد ومعتدل داخل النظام لهما رؤيتان متضاربتان لكيفية تدبير الأزمة في الريف. أو من خلال الاجتماع الذي ترأسه وزير الداخلية وحضره جميع المسؤولين الأمنيين والعسكريين والاستخباراتيين البارزين في محاولة لإثبات وحدة أجنحة النظام في مواجهة هذه الأزمة. 

وعلى خلاف ما كان منتظرا لم يشمل العفو على معتقلي حراك الريف إلا حوالي 40 معتقلا استثنى قادة الاحتجاجات الذين رفضوا توقيع طلبات استعطاف إلى الملك للاستفادة من العفو، بالموازاة مع ذلك حسم الملك الموقف بشكل واضح لصالح سيطرة الذراع الأمني على إدارة الأزمة داخل النظام وفي تكليف وزارة الداخلية والأمنيين بتنزيل مضامين توجيهات الخطاب الملكي دليل على رهان الملكية شبه المطلق على الأمنيين لتجاوز التوترات الاجتماعية الحاصلة في الريف أو تلك التي قد تحصل مستقبلا في مناطق أخرى من المغرب.