"إن «المؤلف» ليس هو ذلك الذي يخترع أجمل قصة، ولكنه ذلك الذي يستحوذ جيداً على النظام الذي يتقاسم استخدامه مع المستمعين"، رولان بارت.
في القصة الدينية أكمل الله خلق الكون في سبعة أيام، وفي رواية "عشيق المترجم"[1]، أتمَّ الترجمان العجوز إملاء كتاب حياته الأول في سبعة فصول وسبع ليالٍ. ربما لهذا التقدير السردي في تقسيم الحكاية، علاقته بالسرد الوارد في الآية 11 من سورة سبأ، التي افتتح بها الروائي جان دوست روايته، لكن بتوظيف جديد لمعنى السرد القديم الذي يعني "نسج الدروع"، ويقال لصانعها "سرّاد"[2]. في حين أعاد السارد هنا توظيف مفردة "السرد" القديمة وحمّلها معنى جديداً هو السرد الروائي المعروف، الذي حمله صفة التقدير. والخطاب في الرواية يحوي رسالتين وموجه لطرفين: إلى السارد، ورسالته أن "قَدِّرْ فِي السَّرْدِ"، وللمتلقي- سُراداً ونقاداً وقراء- ليعطيهم فكرة عن التقدير السردي المبذول في الرواية شكلاً وموضوعاً ومضموناً. وتصدير جزء الآية السابق يشير إلى العناية ببنية الرواية– أية رواية– كما يشير إلى الدلالة وكيفية تشكلها. والرواية في شكلها من حيث التقسيم تحاكي قصة الخلق الدينية، ومن حيث الرسالة تمثل رؤية أو خطاباً يعيد خلق العالم من خلال إعادة فهم جوهر الدين وقيمه الإنسانية كما تتجلى في مضامين الرواية.
مرآة الحيرة: تقنيات السرد وأشكال الخطاب
الزمن عنصر محوري فعليه تقوم عناصر التشويق والإيقاع والاستمرار. والتشويق "لعب مع البنية" يخلق تشويشاً، كما يقول رولان بارت. وهو تشويش يُستهلك بسأم ولذة لأن تنظيمه ممكن في النهاية[3]. أشار هنري جيمس إلى صعوبة تناول الزمن وأهميته في بناء الرواية، خصوصاً إذا كانت رواية تتألف من جزء ثانٍ- لم ينجز بعد[4]- كما هو حال هذه الرواية. "زمن السرد" في الرواية يبدأ بتقنية "الاسترجاع"، ما يعني أن الأحداث في تسلسلها الزمني قد اكتملت ولم يبق سوى ترتيبها. والبدء من حاضر الشخصية والعودة إلى ماضيها سمة الروايات الواقعية "لإعطاء القارئ الخلفية اللازمة وإدخاله في عالم الرواية الخاص." كما تقول سيزا قاسم.
تبدأ الرواية، إذن، بفصل "مرآة الحيرة"، والحيرة أو "الذبذبة بين الماضي والحاضر تظهر أكثر ما تظهر في افتتاحية الرواية"[5]. فيحتار الترجمان من أين يبدأ حكايته: من رحلة الأسرة إلى حلب وهو طفل أم من رحلته إلى روما وهو في السابعة عشرة؟ فيقرر أن يبدأها بخبر قرار سفره من قِبل والده، ثم يرجع بالزمن قليلاً ليسرد بداية قصة حبه لإيستر، ويتصاعد الزمن ليروي تفاصيل رحلته مع بقية الفِتية وهم على متن السفينة، ثم يسترجع بعض ذكريات الطفولة في حلب. وهكذا يتأرجح "زمن السرد" بين الماضي والحاضر. وإذا رتبنا "زمن القصة"، أو مراحل عمر الترجمان، إلى ثلاثة مراحل: 1- الطفولة، 2- المراهقة، 3- الشيخوخة، فإن "زمن السرد" اتخذ هذا الترتيب: (3 --< 2 --< 1).
اختيار الماضي كزمن تخييلي مرتبط بالدلالات التي تريد الرواية إيصالها إلى الزمن الواقعي، فهي تستعمل الماضي للحديث عن الحاضر، فيصبح الماضي في الرواية حاضر القارئ، وهي وسيلة لإسقاط الماضي على الحاضر بغية الخروج من مأزق مُعاش. العودة إلى البدايات ضرورة تفرضها طبيعة الرسالة، فليس بالإمكان لرواية تجعل من التعايش والتسامح والسلام قيمها أن تتخذ من الحاضر (حاضرنا) زمنها التخييلي، لأن الاستعانة بالماضي والذاكرة في هذه الحالة سيكون مستحيلاً، أو إنشائياً على الأقل.
يمكن ملاحظة توظيف السارد لعدة تقنيات لتقطيع الزمن منها: "تعطيل السرد"، من خلال تقنية "المشهد"، وفيه سردٌ لمقاطع حوارية بين الشخصيات، وتقنية "الوقف" (Pause) من خلال الوصف والخواطر والتأملات. فللوصف دور في إنتاج المعنى وفهم الحكاية وله في الرواية وظيفة جمالية حين أعاد السارد للوصف الكلاسيكي صرحه الذي مزجه بالمعجم الحديث. وللوصف وظيفة رمزية توحي بدلالات ضربنا عليها أمثلة في مشاهد نعرضها أدناه. أما أهم الموصوفات في الرواية، فهي وصف الأماكن وحالة الطقس، وقد كان الثلج الأكثر حضوراً منذ بداية الرواية، وهو مستمر حتى زمننا الحاضر. إنه زمن جليدي بامتياز ينتظر أن تذيبه شمس العلم ولو اقتضى الأمر طلبها في الغرب!
كما استخدم السارد تقنية "الحذف الضمني"، يظهر هذا من خلال الجمل التالية التي اختصر بها الترجمان سنتين لم يحدث فيهما جديد في علاقته بإستر: "مضت شهور كثيرة وقلبي يزداد جلاء بالحب كآنية من نحاس..."، "حولان كاملان مرا على هذا النحو وليس بيننا إلا نظرات صامتة".
التنوع في أشكال الخطاب شمل: "الخطاب التأملي" و "الخطاب الفلسفي" وتم تقديمهما بدرجة أساسية من خلال أصوات الراهب الماروني بولس والدرويش الصوفي "سراج"، والترجمان. ففي الخطاب التأملي وضعنا السارد أمام مجموعة من الأقوال التقريرية المطلقة المفصولة عن الزمان والمكان وبصيغ تشبه الحِكم. أما الخطاب الفلسفي فقد اتخذ من الفكر الصوفي مرجعيته الرئيسة. ويتضح ذلك من خلال الاقتباسات في نهاية المقال.
سيادة الخطاب التأملي والفلسفي على أجواء الرواية هو الذي أدى إلى غياب الخطاب الإيديولوجي وهو ما شكل ميزة لصالح الرواية التي اتسمت بالموضوعية وانحيازها للإنسان فركزت على نقد السلوكيات والأفكار السلبية لا نقد أصحابها. يُستثنى من هذه القاعدة وصف القس الأرمني "بيدروس الحلبي" بأنه "عنيد" و"متزمت"، وهو وصف قد يفهم منه أنه خطاب ضد القساوسة الأرمن، خصوصاً وأن الراهب الماروني بولس، وهو على مذهب الكثلكة، قد وُصف على نحو إيجابي كما سيتضح لاحقاً في هذا المقال.
أما عرض الحكاية فقد اشتمل على صيغتي "العرض" و "الحكي"، حيث هيمنت شخصية الترجمان على الكلام في الأولى، بينما تدخل كلام السارد في الثانية على نحو أقل. هذه التقنيات المتنوعة في السرد عملت على إبطاء وتيرة السرد فخلقت شعوراً بالتنوع لن يشعر معه القارئ بالملل.
ما وراء الحكاية
الرواية مقسمة إلى كتابين، أُنجز منها الكتاب الأول ويقع في 206 صفحات من القطع المتوسط، وهو مقسم، كما أسلفنا إلى سبعة فصول وستة عشر عنواناً، وتبدأ بتدوين الفتى "يونس بن إيبش الألباني" لسيرة الترجمان العجوز كما أملاها عليه بأسلوب حرص فيه على ألَّا يتبع فيه أسلوب الأوائل، "حافرا على حافر"، وحاول أن يجدد في الأسلوب السردي وهو ما يعيدنا إلى معنى التقدير في السرد الوارد أعلاه. محاولات الترجمان الأولى لتدوين تلك السيرة باءت بالفشل، ربما بسبب شظية من "مرآة الحيرة" التي كان يمسكها الترجمان بيده فمنعته من البدء بحكايته ليتفرغ لحكايتها. ومن هذه الحيرة في تدوين السيرة نعثر على صورة لصعوبة كتابة الكاتب لسيرته في حين يسهل عليه شحذ الخيال لكتابة حكايات خيالية أو سير حياة الآخرين.
ولهذه المرآة وأثرها في حياته حكاية مؤجلة، وتأجيل استكمال الحكايات هو جزء من تقنية التشويق، المقدرة تقديراً. فختام الجزء الأول من الرواية يحمل للقارئ دهشة عن كنه هذه المرآة، خصوصاً بعد تلك العبارة المخاتلة، في مستهل الرواية، والتي تجعل من الحكاية وسيلة للتحرير. حين تقول المرآة، وهي تطلب من الترجمان أن يقص حكايتها وحكاية سيدتها: "حررني أيها العجوز الذي منحتك مالكتي متع الحياة في أول شبابك". هنا قلب لمعنى التدوين التقليدي الذي يفيد تقييد الحكاية بين دفتي كتاب بعد أن كانت حرة، فـ"الحكايات طرائد فخاخها القراطيس" كما يقول الترجمان، لولا أن المُحَرَّر والمُحرِّر هنا هو السارد، والبوح والتدوين هو بمنزلة التخلص من هم ثقيل على الكاهل لو لم يجد طريقه إلى المتلقي.
تلح المرآة البدء بحكايتها: "ستبدأ بي أولاً فإذا فرغت مني تنصرف لبقية حكاياتك."، لكن حكايتها، أو بالأحرى حكاية صاحبتها، تتأجل، وهو تأجيل له وظيفة انتباهية يهدف إلى الاحتفاظ بالقارئ ويدعوه لقراءة الكتاب الثاني من الحكاية، والذي يدور في روما، رواية بعنوان "نواقيس روما". تقنية التشويق المتبعة في الرواية تعتمد التأخير وإعادة الانطلاق. نجد هذا متحققاً في حكاية الحوذي الكردي "بوزان" الذي ينقطع مسار حكايته بوعد إكمالها حين عودة الفتى من روما بعد إكمال تعليمه، ومثل ذلك حكاية الراهب الماروني "بولس"، وحكاية الدرويش "سراج"، وغيرها من الحكايات.
المرآة تعكس صورة مظهرنا الخارجي، أما دواخلنا فتحتاج إما إلى استبطان، أو إلى تحوُّل الذات "أنا" إلى موضوع يسهل رصده، والمرآة في الحالتين تكون أداة تشويش وإلهاء. وثمة حيرة تنتج عندما تكون السيرة اجتماعية لا تستعرض وقائع تاريخ سياسي أو ديني بقدر ما يهمها تتبع تطور القيم والمبادئ أو نكوصها في مجتمع أو مجتمعات معينة. لكن ما يعجز عنه الترجمان– المؤلف الضمني، في بداية الحكاية، يحكيه المؤلف الحقيقي، بوصفه "سارداً عالماً بكل شيء وحاضراً في كل مكان"، فيقدم رؤية سردية من الخلف بحسب تيزفيتان تودوروف [6]. وكأن الآخر هو الأقدر على سرد حكاية الذات لقدرته على رصدها كموضوع. في بقية أجزاء الرواية ينسحب صوت المؤلف الحقيقي بسلاسة، دون أن يختفي تماماً، مفسحاً المجال للترجمان، وهي رؤية أخرى للسرد يطلق عليها تودوروف "الرؤية مع" أو "الرؤية المصاحبة"، "حيث تقوم الشخصية نفسها بسرد الأحداث مثلما نجد في السيرة الذاتية"[7].
بعد تأجيل حكاية "مرآة الحيرة"، يبدأ السرد بحكاية "إستر"، الفتاة اليهودية التي وقع المترجم في غرامها وهو في سن المراهقة. في هذا الفصل يسرد لنا قصة حب مشتعلة بين عاشقين فرقهما السفر إلى إيطاليا لتعلم اللغة الإيطالية واللاتينية بأمر من والده "رشدي" ونصيحة من الراهب بولس. يحاول الابن التملص من السفر بحجج واهية ثم يخبر أمه "سارة" بحبه لإستر ورغبته في الزواج منها، لكنها، وهي المسيحية التي لا تفرق بين المسيحيين واليهود، ترفض طلبه بشدة. لتتوالى بعدها حكايات تنقل لنا صوراً ومشاهد حية من تاريخٍ ماض تقع حدوده بين زمنين أو عصرين لهما علاقة بما نكابده اليوم. من اللافت أن الترجمان يذكر في بداية سرده للحكاية أن له ثلاث أخوات لكنه لا يأتي على ذكرهن، مكتفياً بذكر والديه فقط. ربما تكون حكاية الأخوات ضمن الحكايات المؤجلة، في مسلسل التشويق، في الجزء الثاني من رواية "نواقيس روما".
هامش
[1]: الرواية صادرة في طبعتها الأولى عن دار ورق للنشر والتوزيع (2014).
[2]: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} سبأ11: أي لا تزد حلقة على أخرى ولا تنقص، "وقدِّر المسامير في حِلَق الدروع، فلا تعمل الحلقة صغيرة فتَضْعُف، ولا تجعلها كبيرة فتثقُل على لابسها، (التفسير الميسر). وقد استعيرت للتعبير عن نسج الكلام، أي تتابعه بطريقة متشابكة، تشبه نسج الدروع، أما التقدير فيعني القدرة لدى الصانع السرّاد على تقدير حلقة وحلقة أخرى. ولو راجعنا معنى كلمة "نص" في الانجليزية (text) لوجدنا أن الكلمة مشتقة من كلمة النسيج أو القماش (texture).
[3]: رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، ترجمة د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط2، 2002.
[4]: كُتبت هذه الدراسة قبل إصدار الجزء الثاني من الرواية بعنوان "نواقيس روما".
[5]: د. سيزا قاسم، بناء الرواية، مكتبة الأسرة 2004، ص 43 و 44.
[6]: محمد بوعزة، تحليل النص السردي، تقنيات ومفاهيم، الدار العربية للعلوم، ط أولى 2010، ص 77.
[7]: السابق، ص 79.