لنسترجع الفكرة الغائبة التي يقودنا إليها إرنست غلنر: إن الإسلام لا يتمكن فقط من دخول الحداثة بل إنه ضرورة لإعادة تماسكها.(1) إنه بصيغته المتعالية نموذج يؤمن آلية فريدة لثبات القواعد وانعقاد الرابطة المنطقية القادرة على إعادة الالتحام السياسي والتماسك الاجتماعي. تكسر هذه الفكرة على بساطتها المتداول من أدبيات غربية ومحلية تعنى بالشؤون الإسلامية.(2) ولذلك تستدعي ما تحمله من مضامين تعمقاً بلحاظ ثلاثة مستويات: ظرف صياغتها وآليات تشكلها وما تفتحه من سياقات في حقول القول والفعل بما هي وحدات طاقة استراتيجية قولية وفعلية لا تنفصل عن متحركيات التدخل والممانعة والمناجزة والإحباط والتعطيل التي تكونت وانشحذت وتراكمت في المخزون الاستشراقي ثم في الدراسات الإناسية المجددة لآلياته والتي تجد في خطاب إرنست غلنر نموذجاً بارزاً لها.
خطاب غلنر: ظرف التشكل
لا ينفصل خطاب غلنر عن زمن الثورة الإيرانية التي يعطيها في كتابه ما بعد الحداثة والعقل والدين دور المعطى التأصيلي لبنود نظامه التفكري الذي صاغه حول الإسلام حيث تتوحد الفواصل الكلامية والمذهبية وحيث تنبثق عنها خصائص مفهومية توفر قدرة على تفسير نجاحاته الحديثة: "ولكن إذا كان الطابع النصوصي التطهري القائم على المساواة هو الذي يجعل من الإسلام مقبولاً في العالم الحديث فلماذا جاءت معظم النجاحات السياسية المفاجئة التي شهدها حقله الراهن من قبل صيغة إيمانية تفتقر إلى هذا الطابع بل إنها تقود إلى نقيضه؟ ولعل المفارقة التي تثيرها الثورة الإيرانية في هذا الخصوص تكمن في أنه في الوقت الذي استفادت فيه الحركة الخمينية بشكل واسع من الخصوصية الشيعية لتحقيق التعبئة الثورية نجح الخميني في سياق إثبات السلطة السياسية في دفع التشيع الإيراني نحو نوع من التسنن، مقرباً إياه بالأساس من الإسلام السني المتعالي بصيغته التطهرية."(3)
والواقع أن سحر هذا الخطاب يكمن في ما أحدثه من انقلاب في الموقف من مفهوم الأصولية محولاً شحناته السلبية والعدوانية إلى موضع تبريد وتسالم. إن الأصولية في جوهرها حداثة.(4)
وبالفعل سوف يكون لهذه القضية الحملية أثر حاسم على فكر إرنست غلنر التوقعي لا بل إنها ما ينطلق منه هذا الفكر وما يدعي تبيانه في آن. والقضية هنا لا تخلو من حيث إنها قضية منطقية بالذات من قدرة على توجيه الناقد إلى المتاهة، أي إلى حصر النظر في رابطتها الحملية وتغييب ما يُحمل على ماذا: أي معنى الأصولية والحداثة الذي يبقى خارج نظام المفاهيم التحليلية أو يُتداول في هذا النظام دون أن ينقى من استخداماته العادية. وهو ما نقصده بالضبط بظرفية خطاب غلنر، هذه الظرفية التي تنتج إضافة إلى ترافقها مع صعود الإسلام عن انطلاقها من استخدامات لمفاهيم ممانعة لما ولده هذا الصعود المفاجئ من انكشاف وتخلع لنظم الإقفال الفكرية والسياسية في الغرب وذلك قبل أن يتحول في ظل التقاء المفاهيم الفقهية التدخلية بالمفاهيم الديمقراطية الاحتلالية إلى دولة إسلامية تحديثية.
وربما كان مفهوم الأصولية نتاج انعكاس هذا الانكشاف على حقل التداول الإناسي الذي يتحقق فيه الرابط المنطقي بين الأصولية والحداثة وكأنما فجأة لمواجهة الاختلال الذي يصيب في ظل ضعف التنوير معادلة الحداثة وحيث كان يفترض في سياقات الفكر التقدمي الغربي وأدبيات النهضة المحلية التابعة له أن تكون الحداثة مأرباً للإسلام الذي يتخلف عنها رغم أنه لا يتقايس معها وها هو يصبح الآن بما هو أصولية وسيلة لإنقاذ نموذجها.
غير أن هذا الانقلاب في الرؤية لا يبدو مهماً إلا إذا ربط بإعادة ترميم نظم الإقفال الفكرية للدفاع عن سيادة السلطة الغربية الحديثة وتطويق أي محاولة محتملة للخروج على نظمها. والواقع أن الظرف الذي استدعى الانقلاب هو بالضبط انكشاف فشل هذا الربط. فما أن يضع الإسلام أصوله التراثية على بساط البحث حتى ينكشف حقل لا يدعي تنظيم الأقوال والأفعال انطلاقاً من بديهية القواعد وضرورة فرضها بالإكراه بما هي ضرورة تأسيسية. إن صورة الأصولية في المخزون الثقافي الحديث التي تندس في عمق نظام إرنست غلنر الافتراضي تخفي هذا الفشل وتسهم في توجيه اندفاعات القوة الإسلامية القابلة للاختراقات السلطوية الحديثة بانجذابها إلى الفعالية الجهازية بتجلياتها الحزبية والتكنولوجية المكثفة بما يؤدي إلى تعطيل تقاليد الشرعية القائمة على الجماعة القرآنية المندمجة بالذكر القادرة على تلاوة قواعدها وإخضاعها تدريجياً لمبدأ السيادة السلطوية الحديثة.
ولئن كان من غير المتيسر هنا تفصيل المنطلقات الرمزية والأصول الفقهية التي شكلت مصدر الحماس في الثورة الإيرانية فإنه من الضروري التنبه إلى أن هذا الحماس إذ يتحول في سياق تقنينه إلى سيادة جمهورية حديثة فإنه يدخل فعلياً في صلب محاولة غلنر بناء مفهوم الأصولية(5) ويفقد نهائياً دلالته في النموذج الإسلامي القائمة على مواجهة أصالة السلطة وتحويلها إلى معطى يتطلب التبرير والاستدلال على المشروعية في ظل مبدأ لا يختصر بضرورة فرض القواعد بصيغ محافظة أو إصلاحية، مبدأ يتمثل بأصالة الإباحة والحلية التي تتطلب رؤية القواعد لا كأصول ثابتة بل كوسائل ناظمة لا تفهم إلا في سياق دورة تخصيص الآيات التي تستدعي فهماً تفصيلياً لتداول لغة القرآن وتعلقها بالأحداث بما هي أحكام ثم عودتها إلى مقام الوحي بما هي لغة إعجاز.
والواقع أن هذه الدورة التقعيدية الكبرى تنتج نموذجاً مغايراً تماماً لما يعبر عنه إرنست غلنر بالأصولية بما هي ترمز إلى استكمال محاولات نظام التراث القائم على التحقق بالفرض في مقابل التراث القائم على الذكر للخروج على وحدة لغة الوحي وفرض لغة قواعد لا تخضع لها.
وهو ما يجعل تنشيط دورة الوحي الشاملة(6) والخروج على نظام التراث بصيغته القديمة والجديدة يتمثل بمزاج يتجاوز ثنائية التصوف والتسلف ويجمع بين الانضباط والإنية وبين الحماس والتوسط والرابطة الذهنية الفقهية، أي عملياً بين ما ينطلق إرنست غلنر من استحالة جمعة كونه لا يؤدي إلى تقاليد وقواعد صارمة تشد نقلاته إلى نواة مكتملة انطوائية وكونه يكشف وهو الأهم زيف ادعاء الدولة الإسلامية التحديثية نشر الفعالية وعجزها عن فتح أفق جديد ومخزون غير مستهلك تستند إليه في تشكيل الحياة.(7)
خطاب غلنر: آليات التشكل
كان لا بد أمام هذا الانكشاف من اعتماد آليات منهجية جديدة تسهم في استعادة الوضعية القائمة على إغفال لغة الوحي. ولن يأتي التنازل الذي يقدمه غلنر باعترافه بتفضل الأصولية بتشديدها على القواعد على التنوير المتراخي إلا في سياق السعي إلى هذه الاستعادة. وبالفعل فإن إغفال الدورة المتكاملة للوحي قد اقتضى بداية الإقرار بزيف إدعاء التنوير تأصيل الدولة الحديثة على ضرورة الإكراه لتثبيت القواعد وهو مدعو من هذا المنطلق للتزود من الأصولية بطاقة إكراهية تعيد له معناه الأصيل.
والواقع أن هذا الإقرار يفتح آليات تشكل الخطاب الغلنري بما هي بصورة أساسية آليات تفكر وتأويل وتطويع للمعطيات لاستحداث وابتكار وضعيات جديدة.(8)
فهنا في الخطاب الغلنري يلعب مفهوم القاعدة وما يرتبط به من مفاهيم فرعية تتمثل بالإكراه والحماس والرابطة المنطقية دوراً حاسماً في الإقفال على دورة الوحي بما هي نموذج أمثل لما تطرحه آليات التفريد والتجميع من إشكالات في سياقات للتداول لا تجد أي حل لها في الفكر الغربي الحديث. فبدل التركيز على تداول المعايير ومعاني ثباتها ودور لغة الذكر الحاسم في إعطاء دلالات جديدة لهذا الثبات يفتتح غلنر تحليله للتقعيد في الإسلام بحذف حقول تداول القيم المتنوعة وحركية اندماجها بالحدثي والمخصوص تحت شعار إهمال الإسلام الشعبي معتبراً أن مجرد ادعاء التشدد بتطبيق الشريعة يكفي لنصرة التسلف على ما عداه مهملاً بذلك جوهر الخلافات الكلامية الفقهية الكامنة وراء مفاهيم مثل التكليف والمصلحة ووجوب الطاعة. والواقع أن هذه القسمة الاعتباطية هي ثمرة فكرة الأصولية. إنها تستلهمها وتستقوي بها لا لتؤول تاريخ السلطة الإسلامية فحسب بل لتربط القاعدة بالإكراه والإكراه بالسلطة التي تُبرر بوصفها ثمرة الرابطة المنطقية المجردة.
غير أن المرجعيات النظرية التي يستدل غلنر بها على رسوخ دعواه لا تنتج إلا عن فهم مفتعل لعلاقة الدولة بحقل تداول القواعد في الغرب الحديث وبالتالي عن تبسيط لأزمة التنوير.
لم يستمع غلنر جيداً إلى تفسير دوركايم لفشل التنوير ولم يلتقط قلق مقالته التي تخوض فيما يطرحه مفهوم القاعدة من استشكالات بل اكتفى ببياناتها الراسخة عبر قراءتها المتداولة المتركزة على جعل الإكراه حداً للعقلانية واعتبار الأخيرة مصدر نشوء التعاقد والاعتراف بالدور الحاسم الذي تلعبه اللحمة الاجتماعية.(9)
غير أن دوركايم ورغم ربطه للقاعدة بالعقوبة فإنه يولي أهمية حاسمة لنوع من القواعد يكاد لايستدعي الإخلال بها أي عقوبة فعلية إنها القواعد المهنية التي هي:"قواعد وسيطة تقع بين صنفي القواعد الأخلاقية العامة، أي تلك التي تعنى بالعلاقات التي يقيمها كل منا مع نفسه أي التي تؤلف ما يسمى بالأخلاق الفردية، وتلك التي تعنى بالعلاقات التي نقيمها مع الآخرين وبغض النظر عن الجماعة المخصوصة التي تنعقد في متنها. أما الواجبات التي تلزمنا بها هاتان المجموعتان من القواعد فإنها لا تجري إلا من حيث الصفة الإنسانية العامة إن بالنسبة لنا أو بالنسبة لمن نتخالط معهم من الأشخاص الآخرين. بينما نجد أن هاتين المجموعتين واجبات من طبيعة أخرى، واجبات لا تتأصل من حيث تفرعها عن طبيعتنا الإنسانية بل ارتباطها بصفات مخصوصة لا تعم الناس جميعاً".(10)
ولكن ألا يحمل هذا التبدل الذي يصيب القواعد من جراء استخدامها إشارة إلى ارتباطها بحقل التداول التي لا تأخذ فعاليتها إلا في متنه؟ إنه من اللافت فعلاً أن يرهن دوركايم فعالية القواعد بتداولها وتنوعها وتخلصها من الوزائع والإكراهات وأن يعين أزمة الحداثة بفقدان مبدأ التوسط وعدم فعالية القواعد الشاملة التي تعود للفرد والدولة على حد سواء. لقد أدى انهيار الأصناف إلى تفكك هيكلية المجتمع القديم فيما لم يؤد تبلور الدولة الحديثة ووضوح قواعدها العامة إلى ثباتها وتماسكها. ولذلك لم تنتج أزمة الحداثة عن تمييع الأفكار التنويرية لمبدأ الإكراه بل بالضبط عن ضرب الوسائط التي تشبه إلى حد كبير تشكيلات الإسلام الشعبي التي تنبذ كلها وترمى بالمخيالي والموهوم بما هي أشكال تتعارض مع صفاء القواعد وصرامتها في دائرة الممارسة السلطوية الحديثة.(11)
لقد التقط دوركايم مكمن ضعف التنوير وهو بالضبط كسره لوحدات القواعد ومعابر الوصل بين أطر تداولها ومراكز فرضها وعدم قدرة هذه الوحدات على التخلي عن طبيعتها القسرية وانفكاكها عن العقوبة.
ولكن كيف يمر غلنر على هذه الرؤية لتاريخية تشكل القواعد في الغرب وعن هذه المحاولة الدوركايمية الكبرى لاستعادة مبدأ التوسط القروسطي بوصفه العلاج الأوحد لأزمة الحداثة: "إن ما نشهده من قلق في سياستنا يعود إلى الأسباب نفسها الكامنة وراء قلقنا الاجتماعي: غياب الأطر الثانوية التي تتوسط بين الفرد والدولة، ولقد رأينا أنه لا غنى عن الجماعات الثانوية لكي لا تطغى الدولة على الفرد وتقهره. وبتنا نرى اليوم أنه ضرورية لكي تتحرر الدولة بما يكفي من الفرد، أي أنها في الواقع مفيدة لكلا الطرفين."(12)
لقد ظن دوركايم أن استعادة التوسط التقليدي المتمثل بالجماعات المهنية قادر على تأمين استقرار القواعد والواجبات وبالتالي "الوقائع القانونية والاجتماعية" على حد تعبيره. إنها رؤية تتعارض تماماً مع قراءة غلنر وتأويله لمضامينها(13). فهنا لا تؤخذ القاعدة إلا بما هي مصدر تنظيم ذو فعالية جوهرية لا تنفك عنها في دورة منظمة للمجتمع وحيث لا تستقيم هذه الدورة دون توسطات بين الفرد والدولة. وعليه فإنه من غير الممكن رؤية القواعد خارج حقل تداولها وتخصصها وتنوعها كما أنه من غير الممكن أن تُسترجع القواعد وتنقى وتنظم من جديد من قبل الدولة.
ولكن إذا كان هذا مطلوباً وممكناً فأية مشكلة هي تلك التي عانى منها التنوير؟ لماذا انهارت الأخلاق المهنية التفصيلية؟ لماذا اختلت المفردات التداولية القيمية؟ يكشف تعيين دوركايم لأزمة الحداثة أنه من الوهم إسناد قوة القواعد وثباتها إلى مركز الدولة الحديثة وانهيار الوسائط الثقافية الاجتماعية. إذ ما يبحث عنه دوركايم هو كيف يمكن استعادة هذه الوسائط الضرورية لانتظام دورة القواعد. غير أن ذلك يفترض دون أي برهان أو بيان أن انهيار هذه الوسائط طارئ على طبيعة الدولة الحديثة وناتج عن عدم اهتمامها بالسياسة تحت وطأة سيادة النزعة الاقتصادوية.(14)
وربما هذا ما يعطي منفذاً لغلنر لتأويل الرؤية الدوركيايمية ودفعها باتجاه الخلط بين ثبات القواعد وجمودها أي تركزها في إطار فارض تصدر عنه وتتأصل به.
ولذلك علينا هنا التصدي لعلاقة الدولة الحديثة بالقواعد لا بمعيار ما يجب أن تكون عليه الذي يشتغل به دوركايم خلافاً لنصائحه المنهجية بل بما هي عليه فعلاً في حقل الحداثة. وإن ذلك يقتضي كما سوف ينكشف لنا المس بعمومية مفهوم القاعدة نفسه لا من حيث التشديد على أصناف القواعد بل على عدم المقايسة(15) التي تحكم المقارنة بين القواعد في حقل هو كناية عن إطار ملحق بمركز يؤصل القواعد ويفرضها وبين القواعد التي تستكمل في الإسلام دورة تخصيص الأحكام والمعاملات بسريانها في دورة تستعيدها من التداول إلى لغة الذكر حيث تفقد صيغتها الفرضية التي تربطها بالعقوبة لتتلى بما هي جزء من لغة الوحي التي تتماسك بها الجماعة خارج أي مركز سلطوي يتأصل في الزمن ويطرح نفسه مصدراً للقواعد أو مدبراً لمضامينها منظماً لآلياتها بنسخ لغتها إلى لغات صناعية تدعي الأصالة والديمومة والثبات وتحويل الوحي إلى منقول.
يسود إذن بين القواعد الصادرة عن مركز متأصل في الزمان وبين القواعد السارية في لغة الوحي حالة من عدم المقايسة لا تظهر إلا إذا أُخذت القواعد من سياقاتها واستخداماتها ودورات تداولها وبتنقيتها من الحدثي واسترجاعها إلى مصادرها.
غير أن ذلك لا يعني أبداً أن السلطة الغربية الحديثة لا قواعد لها بل إنها على العكس تماماً جهاز يتنامى بقدر ما يزداد تعقيداً بابتداع آليات ضبط وتقنين حتى أنه يصبح نفس هذه الآليات بما هي إدارة. إلا أن ذلك لا يستتبع تعميمه لهذه القواعد الداخلية بل استخدامها لتنصيب نفسه أصلاً للغات تقعيدية يدعي أنه أصلها وفق مبدأ السيادة الحديثة وحيث الإكراه هنا لا ينضاف إلى القواعد والأحكام الجارية في المجتمع على الأفراد والجماعات بل إنه الحد بين التقعيد الداخلي في الحقل السياسي الإداري والحقل الخارجي الذي لا يوجد إلا كحقل لفرض القواعد.
والواقع أن هذا الفرض الذي تقتضيه السيادة هو الذي يخرب دورة القواعد ويفكك الأطر الوسيطة. إنه لا يبدو مصدراً للقلق إلا لأنه تكويني تماماً كالقلق الفردي في الحضارة الحديثة. هذا القلق بمعناه التكويني الشامل هو الذي ينكشف ما أن يحاول الاجتماع الإسلامي استعادة دورة الوحي وكسر نظم الإقفال الأصولية والكلامية التي تمثلت بالدولة الإسلامية التاريخية وما تركته بعد انهيارها من لغات وشبكات تداولية وجهازية باتت مستتبعة من حيث أفقها لمنطق السيادة السلطوية الحديثة.
خطاب غلنر: استراتيجية القول والفعل
غير أننا نكتشف الآن بعد التبصر في آليات الخطاب ومنطلقاته الظرفية ما قبل الصناعية أن قلب المعادلة بين الإسلام والحداثة لا يؤدي إلى المس بنظم الإقفال التي تقوم عليها غلبة الحداثة إذ ليس المهم هنا أن نتصور العلاقة كالتحاق أو كانقطاع أو كتواصل وتكافؤ وتواطؤ، بل أن نتصورها بما هي تحافظ على آلية الإقفال الأساسية التي يؤدي المس بها إلى المساس بسيادة السلطة الغربية الحديثة وما ينتج عن ذلك من بروز إمكانيات تقعيدية لا تتأصل بأي لغة إو إدارة إنسانية واكتشاف أن الإكراه يتنافى مع القاعدة ويؤدي إلى عدم انتظام الجماعة وتفكيكها.
إن محاولة إخفاء هذا المبدأ هو الذي يفسر هجوم غلنر العنيف على كل ما يرمز إليه أو يمت إليه بصلة إن في الدعوات الغربية الانشقاقية عن الحداثة أو في الممارسات الإسلامية القائمة على الدعوة وبغض النظر عن ثغرات هذه التيارات وعما يوجب عدم المقايسة بينها وإن صحت أحياناً مقارنتها.
هكذا يبدو لنا أن قلب المعادلة بين الإسلام والغرب وكسر المألوف بالحكم بدخول الإسلام في الحداثة أو في كونه النموذج التقعيدي الأمثل لتصويب التنوير لا يتم إلا مقابل التخلي عن الوحي حيث الأصولية بلا وحي تقود إلى تجميد القواعد وتأصيل الأحكام بالعقل والمصلحة أو المفردات التاريخية من سنة وسيرة بل اعتبارها لحظة في دورة الذكر المتكاملة حيث يؤدي نظام التلاوة إلى لحمة جمعية دون إكراه بلغة لا تصدر عن أي هيئة إنسانية تقود إلى تقنينها.
إنه وهم ضروري لتجديد نظم الإقفال، وهم يشبع أصلاً تعطش المغلوب إلى الانتماء للغالب فلما لا يكون الوهم مضاعفاً عندما تكون الدعوة في ظاهرها إلى الغالب للاستفادة من المغلوب؟ ولكن السؤال الذي فتح يصيرتنا على نقد هذه الدعوة، السؤال الذي لم يظهر في تفاصيل هذا النقد لأنه يظل في مرتبة ما قبل الصياغة الصناعية مركزاً على مسار الكلام نحو الفعل، هو أنه لو كانت هذه الدعوة صحيحة ولو كانت الفعالية الإسلامية دون وحي ممكنة لما فشلت الدولة الإسلامية في بلوغ السيادة ولما انتقل مشروعها بنيوياً إلى الغرب مفتتحاً زمن الحداثة: السلطة الحديثة هي الحداثة وهي كذلك إسلام بلا وحي، إسلام القواعد القهرية ما لم يُمس بنظام الإقفال على الوحي فيما استراتيجية صناعة الكلام الإناسي حول الإسلام ليست سوى الانشغال الدؤوب بتحسين هذا النظام.
هكذا لم نكن لنصل إلى المضمر الفعال في نص إرنست غلنر إلا حين كففنا عن البحث عما يجده في الإسلام من قواعد صلبة وعبرنا إلى موضع ابستيمولوجي آخر يفتح لحاظاً جديداً للتبصر به من حيث ظرف صياغته وآليات تشكله وما يفتحه من سياقات في حقول القول والفعل، وهو لحاظ ما يزال مغيباً في الفكر الناقد لهذا النص من جراء تهميشه أو الغفلة عنه.
هوامش
(1) لا تنفك هذه الوظيفة التي يعطيها إرنست غلنر للإسلام عن رؤيته لفشل لغة الحقيقة التي يستند إليها التنوير في تقديم بديل اجتماعي صلب: "غير أنه إذ يمكن للخطأ تعيين ما هو عليه المجتمع تعجز الحقيقة عن تأمين هذه الإمكانية. وهي إذ تلعب في الواقع دوراً أساسياً في تقويض لحمة التصورات القديمة فإنها تفشل في المقابل في إحلال أي تصورات ملموسة أو مسددة مكانها (..) ولئن أفضت الأخلاق الإدراكية التي يقوم عليها التنوير إلى أنواع مخصوصة من السلطة وإلى سبل محددة لتعيين شرعية النظام الاجتماعي فإنها لم تكن تتضمن أي مقدمات متماسكة تجعله قابلاً لتوليد بديل اجتماعي صلب. أنظر في هذا الخصوص:
Ernest Gellner, Postmodernism, reason and Religion, London and New York: Routledge, 1993, pp. 83- 84.
(2) انظر على سبيل المثال عبد المجيد الشرفي: الإسلام والحداثة، الدار التونسية للنشر، ط2، تونس، 1991.
وكذلك حول "معوقات الأسلمة" في العالم الحديث أنظر: Sami Zubiada, Trajectories of Political Islam: Egypt, Iran and Turkey, in Bryan S. Turner, Ed: Islam: Critical Concepts in Sociology, Volume, IV, London and New York: Routledge, 2003: p. 293.
(3) Ernest Gellner, Postmodernism, reason and Religion, London and New York: Routledge, 1993, p. 17.
(4) وهو ما يعبر عنه غلنر إذ يقول: "تنكر الأصولية الادعاءات التحديثية حول معنى الإيمان مدار بحثنا بما هو شيء أكثر اعتدالاً وأشد تكيفاً وأقل تطلباً علاوة على قدرته على التلاؤم كلياً مع كافة العقائد الأخرى أو خاصة تلك التي ينقصها الإيمان. وإن مثل هذه الحداثة تستمد من العقيدة وما تقوم عليه من وحي قدرتها على التحدي وعلى بلوغ جميع مطالبها". المرجع نفسه، ص 3.
(5) لا تقوم الجمهورية على أسس دينية هذا هو جوهر السؤال الذي وجهه أريك رولو Rouleau للخميني في باريس: "لقد قلت أنه لا بد من قيام جمهورية إسلامية في إيران. وهذا ليس واضحاً بالنسبة لنا نحن الفرنسيين وذلك لإمكانية قيام الجمهورية دون أي أسس دينية، فما هو رأيك؟". انظر:
Ian Almond, The New Orientalists: Postmodern representation of Islam from Foucault to Baudrillard, London and New York: L, B. Tauris, 2007, p. 34.
وهو سؤال بالغ الأهمية كونه يشير إلى الانجذاب المبكر للخميني ليس إلى التسنن فعلاً كما يحسم غلنر بل إلى فكر السلطة في الغرب بما هو ثمرة تواطؤ الوجود في المسيحية.
(6) دورة الوحي هي دورة الأحكام الفقهية والتشريعية بين لغة الذكر والقضايا التي ينظر فيها الفقيه وتقع في الحدثي، ويطرح المفهوم هنا كيفية نزول هذه الأحكام وارتباطها بالوحدات الحدثية ورجوعها عنها لتدخل في زمن التلاوة.
(7) لا نقصد بتشكيل الحياة ممارسة إسلامية موحدة في مقابل ممارسة غربية موحدة الذي تتموه به ثنائية الإسلام والغرب لتقفل على أي استشكال بل فعالية بالذكر لتمكين الناس من ممارسة ملكة الحكم على الأمور في مواجهة الفرض الخارجي دون سند.
(8) إن الأساس يتمثل هنا بالطبيعة الإكراهية للمفاهيم حيث يعيد غلنر بناء السؤال المنهجي الأساسي في حقل العلوم الاجتماعية إنطلاقاً من أن المفاهيم لا تتشكل وكأنما لتلبي إيقاعات تشكل الأحداث بصورة سابقة عليها بل إنها فعل يدخل في صلب هذا التشكل. انظر في هذا الخصوص:
Ernest Gellner ,Concepts and Society, in B. R. Willson, Ed: Rationality, Oxford: Basil Blackwell, 1970.
(9) ينطلق غلنر هنا ليميز بين عالمين: عالم يبقى فيه النظام الصوري مقدساً في حين تحمل عليه الأشياء المخصوصة به حملاً متواطئاً وعالم آخر هو العالم القديم حيث الأشياء تحمل على المقدس حمل التشكيك:
Ernest Gellner, Anthropology and Politics: revolutions in Sacred Grove, Oxford: Blackwell Publishers, 1995, p. 60.
(10) Emile Durkhiem, Professional Ethics and Civic Morals, Translated by Cornelia Brookfield, With New Preface by Bryan S. Turner, London and New York: Routledge, 1957, p.1.
(11) إن هذا ما يعبر عنه دوركايم مشيراً إلى ما يطرحه مصير الرابطة الاجتماعية الذاتية المتمثلة بالأصناف المهنية التي باتت مغيبة في حقل الحداثة حيث يقول: "يشكل ما تشعر به المجتمعات المتحضرة من توق إلى الحياة حجة ناجزة على أن إقصاء الأصناف المهنية لم يكن حلاً وأن الإصلاح الذي قاده تورغو يتطلب إصلاحاً آخر لا يمكن تأجيله". انظر: Emile Dorkheim, The Division of Labor in Society, Translated by George Simpson, New York: The Free Press of Glencoe, 1960, p. 10.
(12) Emile Durkheim, Professional Ethics and Civic Morals, Translated by Cornelia Brookfield, With New Preface by Bryan S. Turner, London: Routledge, 1957, p. 96 .
(13) إن ديكارت هنا هو الذي يلجأ إليه غلنر ليعيد النظر بكون الإكراه يأتي من الأشياء نفسها الذي يخرجه من الطبيعة الأساسية للمفاهيم. انظر في هذا الخصوص: Ernest Dellner, Reason and Culture: The Historic Role of Rationality and Rationalism, Oxford: Blackwell Publishers, 1992, pp. 38- 52.
(14) يتعارض هذا الإهمال للسياسة في النموذج الحديث مع الحاجة إلى إيجاد آليات تنظيمية اجتماعية لإدارة القوة العرضية القائمة هنا والآن وحيث نشهد بهذا المعنى تشكل السياسة في اتجاهات معارضة للسلطة أو مدعمة لها حيث الهم الأساسي يبقى الدفاع عن العرض الذي يتيح للناس القيام بأعمالهم وإدارة شؤونهم. انظر في هذا الصدد:
William Desmond, Neither Servility nor Sovereignty: Between Metaphysics and Politics, in Creston Davis, John Milbank, Slavoj Zizek, Ed: Theology and The Political: The New Debate, London: Duke University Press, 2005, p. 156.
(15) حول "عدم المقايسة" كمبدأ منهجي أنظر:
Paul Feyerabend, Against Method, London and New York: Verso, 2001.