المغرب الكبير، اختراع استعماري فرنسي

[خريطة للمغرب الكبير (1843). Wikimedia Commons.] [خريطة للمغرب الكبير (1843). Wikimedia Commons.]

المغرب الكبير، اختراع استعماري فرنسي

By : Arabic Editors

جوليان لا كاسّانْي

ينشر عالم الأنثروبولوجيا عبد المجيد حنوم تحقيقًا تاريخيًا مشوقا حول أصل كلمة “المغرب الكبير”(Maghreb بالفرنسية) التي قام منظرو الاستعمار الفرنسي بتطويرها بصفة واسعة. ساهم هذا المصطلح -الذي يدرسه الكاتب من خلال الأرشيف وعلى الخصوص محفوظات “المكاتب العربية” التابعة للجيش الاستعماري الفرنسي- في عزل المنطقة عن بقية القارة الأفريقية وكذلك عن الشرق الأوسط.

أنتج عالم الأنثروبولوجيا وأستاذ جامعة كانساس عبد المجيد حنوم، أعمالا أكاديمية مهمة عن تاريخ وأساطير شمال إفريقيا. وقد أوصله عمله بالاعتماد على المصادر العربية والأرشيف الاستعماري إلى تحليل شخصية الملكة البربرية “الكاهنة” بدقة ملحوظة، أو التطرق إلى العلاقة بين الاستعمار والعنف والحداثة. وقد نشرت هذا العام منشورات جامعة كامبريدج كتابه الأخير “اختراع المغرب الكبير. بين إفريقيا والشرق الأوسط”، والذي يطرح سؤالاً أساسيا: هل المغرب الكبير فكرة استعمارية؟

يُظهر حنوم العواقب التي خلّفتها -ولا تزال- السردية الاستعمارية حول نشأة المجموعات الإقليمية في شمال إفريقيا لأن الخطاب الاستعماري حسب رأيه لم يكتف فقط بزعزعة الهويات والتقاليد هناك، بل خلق أخرى من العدم، قد تبدو محلية لكنها لم تكن أبدا كذلك. ويعد مصطلح “المغرب الكبير”، حسب قوله، من أهم هذه الاختراعات:

لنتمعن في تسمية المغرب (Maghreb)، والتي لا نزاع عليها تقريبا، فهي تبدو عربية، بل ومحلية حتى، آتية من صلب التقاليد المحلية، ومع ذلك فهي أيضًا تسمية فرانكوفونية، تم اختراعها عن تقليد عربي مترجم، يخفي رنينه “الأجنبي” اختراعه الاستعماري.

سرديات لبناء أمم

تم عزل المنطقة المغاربية كبناء جغرافي وتاريخي وأنثروبولوجي من قبل منظري الاستعمار الفرنسي عن القارة الأفريقية والشرق الأوسط على السواء. بالطبع، كما يذكر ذلك حنوم، فكرة أن مصر والمغرب الكبير منطقتان متميزتان ليست مجرد فكرة استعمارية، فقد سبق أن ميّز الرومان والعرب مصر عن إفريقيا/ إفريقية. ولكنهم لم يذكروا أبدا فكرة وجود إفريقيا “بيضاء” منفصلة عن أفريقيا “السوداء”، وهي فكرة طورها الجغرافي إميل فيليكس غوتييه في وقت متأخر، وتبناها بدوره المؤرخ تشارلز أندريه جوليان.

يباشر كتاب حنوم تفكيرا عن دور التاريخ وعلاقته بالسلطة. ويلاحظ بأنه، على عكس الدول الاستعمارية، لم يطور العثمانيون كثيرا أساليب السلطة المبنية على سرد تاريخي موجه للمجتمعات الواقعة تحت وصاية الباب العالي. فقد أخذت الكتابات التي تصف الماضي شكل السجلات أو الحوليات، لكنها لم تكن أدوات لبناء الأمم. كانت الفكرة تكمن في إضفاء الشرعية على حكم السلطان، وليس في منح شرعية لرعاياه من خلال سرد تاريخي:

إن تصور التاريخ (الذي يعتبر علم الآثار جزءًا منه) كـ“علم” الماضي الذي يكون مفيدا سياسيا بل وحيويا، كونه يوفر جوهر الأمة ومباركة من الدولة، هو جزء من الحداثة.

يُظهر حنوم أن الحداثة الغربية لم تتميز بانتقال التاريخ إلى مرتبة العلم، بقدر ما تميّزت بمروره إلى تخصص يضفي شرعية على بناء الأمة ومباركة الدولة. في المقابل، وكما يذكر في كتابه، يبقى التاريخ في الولايات العثمانية “حتى في أعمال أحمد بن أبي الضياف1، تابعا للدين وليس أداة رئيسية للبناء الوطني”. وقد تم تحقيق البناء الوطني هناك دون الانفصال عن مركزية الإسلام.

ويذكر أنه منذ القرن السابع عشر، كان يُنظر إلى النظامين القائمين في تونس والجزائر على أنهما مستقلان، وكانا يتفاوضان على هذا الأساس مع القوى الأوروبية. أما الجهود التي بذلت لاحقا في تصور ووصف جغرافيا حدود المغرب الكبير، فقد كانت من فعل ضباط وباحثين وأعوان استعماريين فرنسيين. وقد واصل بعد الاستقلال العديد من المؤرخين المحليين والوطنيين تبني نماذج سرد ذات وحي استعماري، وكتابتها باللغة الفرنسية:

وهنا تكمن الحقيقة المحزنة أن الفرنسية -وليس العربية- تبقى لغة دراسة المنطقة وتاريخها وثقافتها وسكانها، بل وحتى حياتها الجنسية الحميمة.

اختراع خرائطي

هناك عدة مداخل تدعم فكرة الاختراع الفرنسي للمغرب الكبير. يجمع الأول بين الجغرافيا ورسم الخرائط. الخرائط هي نماذج ثقافية مصطنعة تنتجها السلطة ومؤسسات الدولة: “مثلما تحتكر الدول الإنتاج التاريخي، فهي تحتكر إنتاج رسم الخرائط”. وبالتالي، فإن خريطة المغرب الكبير هو تمثيل رسومي أنتجته القوة الاستعمارية: “(...) المغرب الكبير نفسه ليس مجرد ابتكار استعماري فرنسي، بل هو أيضًا نتاج ومجال القوة الاستعمارية”.

ليس هذا أقل الغرائب التي أبرزها حنوم، مذكرا بأن إيميل فيليكس غوتييه، الذي كان المؤرخ الرئيسي لشمال إفريقيا بين العشرينيات والثلاثينيات، لم يكن يحسن لا العربية ولا البربرية. ومع ذلك فهو الذي فرض تسمية المغرب الكبير، مخصصا إياها للمستعمرات الفرنسية الثلاثة المغرب والجزائر وتونس

كان رسامو الخرائط الأوروبيون في القرن الثامن عشر يمثلون منطقة تسمى “بارباري”، وكانت مقسمة أحيانًا إلى وحدات متميزة (مملكة المغرب، مملكة الجزائر، مملكة تونس، مملكة طرابلس)، استُبعدت منها مصر وأيضا “إفريقيا السوداء” (المسماة “نيغريتي”، أي ما يمكن ترجمته بـ“بلاد السود”). وإذا كانت المنطقة لم تنتظر حتى سنوات 1830 ليتم رسم خرائطها، فإن احتلال الجزائر وضم البلاد إلى فرنسا خلق قطيعة مع الخرائط القديمة. فمع تقدم الغزو، كان الوجود الفرنسي في الجزائر بمثابة حجة لفرنسا لتثبت نفسها أيضًا في تونس على حساب إيطاليا، وفي المغرب على حساب إسبانيا.

لم تتأخر الخرائط في إظهار منطقة شمال إفريقيا استبعدت منها ليبيا -التي كانت آنذاك تخضع لنفوذ إيطالي- ومصر -تحت النفوذ البريطاني-، أي بعبارة أخرى، إفريقيا تختلط بالممتلكات الفرنسية. ويرى حنوم أن “الأطالس ليست مجرد خرائط يجب قراءة علاماتها وفك شفرتها (...)”، فهي تعبّر عن ميزان القوى. لذا لم يكن الفصل الخرائطي بين شمال إفريقيا وغربها وشرقها قائمًا على الحقائق الأنثروبولوجية المحلية، بقدر ما كان مرتبطا بالتنافس بين القوى الاستعمارية.

نظرة جزئية لعلم الآثار

يكمن المدخل الثاني في علم الآثار، الذي يُعرَّف على أنه أحد أهم التخصصات المساهمة في تشكيل الهويات الوطنية الحديثة. يشير حنوم بخصوص الاهتمام بالآثار القديمة في الجزائر والمغرب الكبير بأنه، على الرغم من أن المخيلة الاستعمارية الفرنسية شملت التاريخ الإسلامي والتاريخ الروماني، إلا أنها تعتبر الأول على أنه “الآخر” بينما يتوافق الثاني مع الـ“نحن”. وقد ساهم وجود الآثار الرومانية في الجزائر والاهتمام الذي أثاره في بناء سردية تجعل من الجزائر امتدادًا لروما، ولفرنسا بالتماثل. وهكذا، بتفضيله لعلم الآثار الرومانية، قلل البحث الاستعماري من السرديات الأخرى، أي البونيقية أو العربية أو الإسلامية أو البربرية. وهكذا اعتُبر العرب سكاناً غير شرعيين لأنهم أتوا من الشرق إلى منطقة كانت -من جانبها- غربية “تاريخياً”.

كذلك، يصيغ حنوم مفهوم الدولة المؤرخة (historiographic state). فابتداء من عام 1870، فرضت دولة استعمارية نفسها في الجزائر، ولم تكتف بإنتاج وسائل لمعرفة المستعمرة وحكمها، بل وقامت بتغيير المستعمرة عن طريق وبفضل هذه المعرفة ذاتها. لذلك، احتل التاريخ مكانة مركزية كاختصاص يضفي الشرعية على السيادة الاستعمارية. وقد أصبح هذا النظام أكثر تعقيدا بعد ذلك بفضل مؤسسات قوية مثل جامعة الجزائر، حيث كانت تدرس شخصيات مهمة مثل ستيفان غْزيل وفرناند بروديل.

حوّلت الدولة المؤرخة الجزائر إلى أراضي فرنسية، وأنشأت الأسس الدلالية لما سمي بالمنطقة المغاربية. وفي هذا، تختلف هذه الدولة عن الدولة الإثنوغرافية، وهي الشكل الذي اتخذته السلطة في الأيام الأولى للغزو العسكري. فبعد عام 1870، حلّت السلطة المدنية محل السلطة العسكرية، وحلّت الدولة المؤرخة محل الدولة الإثنوغرافية. وحل المؤرخون محل الضباط الإثنوغرافيين في المكاتب العربية، وأصبحوا أعوان تأكيد أحقية الاستعمار بآثار الماضي. بعبارة أخرى، جعل التاريخ نفسه -كما هو الحال عمومًا- في خدمة متطلبات الحاضر.

يظهر حنوم أيضا كيف تم تعميم هذا التصور من خلال الأدلة السياحية:

تقوم الأدلة السياحية للمغرب الكبير بتعزيز فكرة أن المنطقة تشكل وِحدة متكاملة، وأنها على الرغم من المسافة والانقطاع الجغرافي بينها وبين فرنسا، فهي تشكّل استمراريتها من خلال روابط تاريخية.

“بومبي المغربية”2، هكذا ربطت أنقاض “ويليلي” المغرب بحضارة لاتينية نصبت فرنسا نفسها وريثة لها. وقد تم رسم هذا المغرب الكبير الذي يشبه صور البطاقات البريدية الجميلة التي تظهر مواقع أثرية، في شكل أدبي من قبل روائيين فرنسيين، منذ غوستاف فلوبير وصولا إلى ألبير كامو.

اللغة، العرق، الإقليم

يتشكّل المدخل الثالث من ثلاثية “اللغة والعرق والإقليم”. حتى يومنا هذا، يعطي وصف المنطقة المغاربية أهمية مركزية للتمييز بين العرب والبربر. وقد تم تشكيل هذا التقسيم على أساس عرقي مستوحى من نظرية العرق لآرثر دو غوبينو، والتي هيمنت في أوروبا حتى ما بعد القرن 19. يشير حنوم إلى أنه غداة الغزو العسكري، لم يفوّت الزائرون الأوائل للجزائر -ومن بينهم ألكسيس دو توكفيل ولويس آدريان باربروغر- فرصة الإشارة إلى تنوع سكانها. وقد رأى باربروغر في سكان الجزائر ممثلين عن “العرق السامي” الوحيد، فكان يعترف أن هذا العرق يتميز بقوة تنوع مكوناته اليهودية والتركية والموريسكية والكرغلية والبربرية والعربية. بالمقابل، وفق حنوم، اختفى في العقد التالي، أي بعد سنوات 1850، وصف التنوع العرقي من الروايات لصالح التقسيم بين العرب والبربر. ويرى حنوم أن المكاتب العربية (التابعة للسلطة الاستعمارية) هي التي كانت وراء هذا التقسيم، إذ قامت بتمييز واضح بين العرب والبربر في الجزائر أولا، ثم في المغرب بعد ذلك، مع إنشاء مصلحة شؤون “السكان الأصليين” (indigènes)، والتي خلفت المكاتب العربية.

يرى حنوم أن فكرة إقامة حاجز بين العرب والبربر، واعتبار العربية لغة غير أصلية، يختلف عن تصور عربي للغة الذي هو أكثر مرونة، إذا عدنا في ذلك إلى تعريف ابن خلدون. فقد كان الأخير يميز بين اللسان واللغة، إذ أن اللغة، هي اللغة المجردة التي يتحدث بها ويكتبها جيل ما. أما اللسان، فهو تحديثٌ للغة كما يمارسها السكان في الحاضر، إنها لغة الممارسة الحية والمتغيرة بالانتقال من جيل لآخر. وقد كان لابن خلدون، الذي كان يدرك بأن اللسان قد يتغير من خلال الاتصال مع غير الناطقين باللغة العربية، مفهوم ديناميكي للغة.

يواصل حنوم في كتابه:

لقد قام عالم اللسانيات الاستعماري بصناعة البربرية على أنها اللغة الوحيدة التي تعبر شمال إفريقيا من وسط المغرب حتى ليبيا. غير أن “اللغات البربرية” تختلف عن بعضها البعض مثل العبرية عن العربية، والعربية عن الآرامية.

ووفق الكاتب، فإن جيلا جديدا من المستشرقين (هانوتو، غوتييه، لاووست) قد قلّل من مفهوم العرق باستعمال حجة اللغة، ولكنهم في الأساس ألصقوا اللغة بمفهوم العرق، بحيث يخلقون خصوصيات جغرافية وثقافية تعادل التصنيفات الهرمية العرقية القديمة. فالمسَلَّمة الاستعمارية بقيت قائمة على نقاء اللغة -العربية أو البربرية- المتوافقة مع نقاء العرق. وبهذا المعنى تم وصف اللغة العربية على أنها أجنبية عن الجزائر وعلى شمال إفريقيا.

ليس هذا أقل الغرائب التي أبرزها حنوم، مذكرا بأن إيميل فيليكس غوتييه، الذي كان المؤرخ الرئيسي لشمال إفريقيا بين العشرينيات والثلاثينيات، لم يكن يحسن لا العربية ولا البربرية. ومع ذلك فهو الذي فرض تسمية المغرب الكبير، مخصصا إياها للمستعمرات الفرنسية الثلاثة المغرب والجزائر وتونس3. وقد صنع شرعية انخرطت في زمن بعيد لتبرير التقسيم الاستعماري بين المغرب الفرنسي الكبير وليبيا الإيطالية والمشرق البريطاني. كما قام بتهميش التاريخ العربي الذي لم يكن يصل إليه إلا من خلال الترجمات، بحجة أنه غير مفهوم للعقل الغربي وباشر في إعادة تفسير المنطقة من خلال التأكيد على دور البربر وعلاقاتهم بأوروبا.

يشرح حنوم أنه، في قراءة غوتييه، إذا كان البربر -القرويون المستقرون- “منا”، فإنهم لم يتمكنوا من تشكيل أمة لأنهم منعوا من ذلك بسبب اعتداءات العرب الرحّل. ويتجاوز الكاتب في تحليله النقدي المحللين الفرنسيين والأوروبيين، من خلال ملاحظته كيف حاول الكتاب المعاصرون، ذوو التقاليد الإسلامية و/أو الإفريقية، بناء سردية بديلة. ويخلص إلى استنتاج بأن هؤلاء المنحدرين من الأوساط الإسلامية التقليدية أو القومية العربية أو من “الزنوجة”، غالبا ما قاموا بقلب الرواية الاستعمارية دون تغييرها.

[ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.]

[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع اورنيت]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • جدلية في شهر (أيار 2025)

      جدلية في شهر (أيار 2025)

      نستعرض أدناه المواد التي نشرت في جدلية الشهر الماضي.

    • ترشيحات مسموعة (19)

      ترشيحات مسموعة (19)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

    • ترشيحات مسموعة (18)

      ترشيحات مسموعة (18)

      تُعلن جدلية عن سلسلة شهرية معنية بترشيح بعض حلقات البودكاست من حول العالم على قرّائها، إذ إن الخيارات كثيرة، وقد يحتاج الإنسان في بعض الأحيان إلى نصيحة من هنا أو هناك.

فيصل الأول: أنْ لا يحتفي بمئوية الدولة التي أقمتها أحد (2 -2)

رَحِيلٌ مُبَكِّر

ثَمَّةَ ما يشيرُ إلى أنَّ فيصل الأول ماتَ مسمومًا بتدبيرٍ مِنْ بريطانيا، بعدَما وجدتْ في مساعيهِ مَيلًا للتَحرُّرِ الكاملِ من بقايا وصايتها، ورغبة في تنويعِ العلاقاتِ مع القوى العالميَّة. لكنَّ تلكَ الإشارة لم تحظَ باهتمامِ المؤرِّخين والدِّارسين، بمَنْ فيهم أولئكَ الذين سيحشدون أدلةً كثيرةً لإثباتِ تورُّط بريطانيا في مقتل ولده الملك غازي بحادث سيارة في العام 1939. ووفقًا للأسباب المتقدمة ذاتها.

رحل فيصل الأول قُبَيل أوانه. لم يكد يبلغ الخمسين من العمر. ومن يشاهد صوره في سنيِّ حكمه الأخيرة سيجد أمامه صورةَ رجلٍ يحتاج لفتراتٍ طويلةٍ من الراحةِ والاستجمام. شيخًا في السبعين لا في الخمسين. من المؤكد إنَّه لم يمنحْ نفسَهُ فرصةً لالتقاطِ الأنفاس. فقد كان تفكيره منصبًّا على حماية المملكة الوليدة. وربما كان أكثر ما يخفف عنه هو مواصلة التدخينِ بشَراهَةٍ، والإكثار من شُربِ القهوة. وقَد شوهِد ذات ليلةٍ شتائيةٍ باردةٍ، بين بضعةِ شجيرات، وحيدًا بلا حَرسٍ ولا مرافقين، يصنع القهوةَ العربيَّة بنفسهِ ويضيفُ لها الهال. هل كانتْ ذكرى خسارتهِ لعرشِ سوريا بتدبير من فرنسا، وخسارةِ أخيه الملك علي لعرشِ الحجاز في العام 1925 لصالح الملك عبد العزيز آل سعود تمثل أمامه؟ كان دائم التفكير في المشاكل التاريخية والاجتماعية الكبيرة في العراق، تلك التي يحتاج حلّها إلى وقتٍ طويلٍ، وعملٍ مخلصٍ ودؤوب، فأرهق نفسه إلى أقصى حد، خِشْيَةَ أنْ ينفرط عقد الدولة الواعدة، ولم يجد بدًّا من أن يتحمل بنفسه عبء إنجاز أصعب المهام في أغلب الاحيان، وكلها في أحيان أخرى. وفي ذلك ما يفوق طاقة أيِّ إنسان.

 

[فيصل الأول ملك العراق 1921 – 1933]

لم يكن الأمر سهلًا أبدًا

أين معنى الدولة إذن؟ ما دور الوزارات والمؤسسات في الدولة الجديدة إنْ كان فيصل الأول ينجز بنفسه أغلب المهام؟ لكنَّ مرحلة التأسيس فرضتْ عليه ذلك، وفي ذلك ما فيه. إنّ الحفاظَ على التركيز الذهنيِّ، وعلى الفهم الواضح لاشتراطات الواقع، وعلى موقفٍ متوازن أمام الطموح والممكن هي أمورٌ لازمةٌ لأيِّ سياسيِّ يريد النجاح، وهي لن تغدو ممكنةً إلا حين يستند في عمله لإدارةٍ مُؤسَّسَاتيةٍ تضمن عبورًا آمِنًا لضِفِّةِ الحلول، حيث الغايةُ الأهَمَّ، مَصالحُ الناس، وأمْنُهم، وكرامتُهم، وأملُهم بمستقبلٍ أفضل لهم ولأبنائِهم. في التَّالي، كلُّ منْ يحكمُ دولةَ سيجِدُ نفسَه مضطرًّا للمَشي على حبلِ مشدود، سواء أكان مستعدًّا لذلك أم لا، وسيبقى مُطَالبًا على الدوام بأنْ يفِي بالتزاماته التي تعهّد بها لشعبه، وأنْ يواصِلَ المُضِيَّ قدمًا لجعل الوعود واقعًا مُتَحَقِّقًا. فيصل الأول هو رمز التأسيس، هو الملك الباني، وعلى عاتقه تقع المسؤولية الأولى في إدارة الدولة بلا شك. وقد بدأ الناس في أواخر عهده يشعرون بالقلق، ويفقدون الثقة بالتدريج. كانوا يسألون عن المساحة المتبقية لكي يأخذوا دورهم في بناء الدولة، بعد تزايد اعتماد ملكهم على مشايخ الإقطاع، الذين شرعوا باحتلال أغلب المقاعد، لا الأمامية منها فقط. وبرغم ما بذله فيصل الأول بقيت الحاجة قائمة لتجسير الهوَّة بين طبقات مُنَعَّمة وأخرى محرومة، ولم تكن الطبقة التي مثَّلها جهازه الحكومي المفضَّل على استعداد للتنازل عن شيء منْ سلطتها، برغم وجود حاجة فعلية لإحيائها بدماء وألوان جديدة، أو حتى الاستغناء عن خدمات بعض من رجالها.

لنضف إلى ذلك قضية بناء الجيش والعمل على تسليحه. إذ يبدو أن هاجس ضعف السيطرة وصعوبة احتواء المخاطر التي يمكن أن تحصل لم يمنح مشاريع البناء والتنمية دفعة كانت القطاعات الفقيرة من الشعب العراقي تتطلع إليها بلهفة، وحاجة حقيقيَّة. وهذا ما أنتج تعثرًا وارتباكًا في أداء أجهزة الدولة، وتذمرًا لدى تلك الشرائح التي بدأ الشكّ يعتريها في إحداث تغيير نحو الأفضل. هل لفيصل الأول مبرراتٌ مقنعةٌ في هذه القضية؟ في الواقع، كان هذا الأمر بحاجة لمزيد من الحوار الصريح بين الملك وأفراد شعبه من جهة، وبينه ومن يملكون سلطات قويَّة على الأرض، سلطات ترجع لعناوين أخرى غير الضباط الشريفيين، لقوى ما قبل الدولة في الحقيقة. ولعل أفضل مثال في هذا السياق ما نسميه بلغتنا اليوم "السلاح المنفلت". فحتى اللحظات الأخيرة من حياة فيصل الأول، وكما ذكر بنفسه في الوثيقة/الرسالة التي مرَّ ذكرُها في الجزء الأول من هذا المقال كان عدد البنادق التي بيد أفراد الجيش والشرطة أقلّ من 15 ألف بندقية بينما توجد أكثر من مئة ألف بندقية بيد الشعب، أغلبها بالتأكيد بيد أبناء العشائر، وهم بتأثير تقاليد راسخة طويلة العهد، يدينون بالطاعة لشيخ العشيرة قبل الملك، وقبل أي أحد آخر. ولا يجدون أنفسهم ميالين للخضوع لسلطة أخرى، لا سيما سلطة الدولة.

ها هي الذكرى المئوية الأولى للدولة العراقية، تَمُرُّ بلا احتفاء. لم يحتفل بها العراقيِّون، برغم حاجتهم الماسة لذلك. فالإيمانُ بقيمِ الدولةِ والتمسُّكُ بمعناها وجدوى حضورها الفاعلِ تصبح كلها متجذرةً بمرورِ الأعوام، ما دام ثمة من يستمر بالاهتمام بتاريخها، ويبقى يراهنُ على أنَّ الاحتفاءَ بلحظةِ تَشَكُّلِها سيجعلُ منها فاعلًا مؤثرًا في الذاكرة الجمعية للعراقيين، تلك التي تعرضتْ لكثير من الهزِّات في العقود الأخيرة.

وعطفًا على الموضوع ذاته، يبدو أنّ تركيز فيصل الأول على ضرورة بناء جيش قويٍّ يحمي سلطة الدولة كان نابعًا في الأساس من تحديات كبرى، ليستْ داخلية فقط، مثل التي تقدمت الإشارة إليها، ولا هي منحصرة بمخاوفه من محاولات بريطانيا لزعزعة عرشه، بل من الدول المجاورة للعراق أيضًا. فهذه الدول كانتْ تمتلك من القوة ما تتفوق به على الدولة الفتية، التي لم يتيسر بناء جيشها بشكل سهل وسريع. فقد رفضت العشائر العراقية وقتها انخراط أبنائها في التجنيد الإجباري. ووجد الملك فيصل نفسه محاصرًا بظروف قاهرة، فمن الشرق تنتظره مَلفَّات ترسيم الحدود مع إيران، وكانتْ تعجُّ بمشاكل تاريخية لا تنتهي، ومن الجنوب ابن سعود ومعه مقاتلوه الأشدَّاء، الذين أقلقوا حدود المملكة العراقية بغاراتهم حتى في أيام حكمه، ومن الشمال تطل رغبات كمال أتاتورك بضمِّ ولاية الموصل، تلك التي لم تنضم رسميًّا لحدود المملكة العراقية إلا بعد مضي خمس سنوات على تشكيلها، وكان مَلَفُّها يعرف بـ(مشكلة الموصل). مهما يكن، وبمفاوضات صبورة، عُقدت اتفاقات ومعاهدات متوازنة مع تلك الدول، لتسوية المشاكل، وتثبيت أسس علاقة قائمة على الاحترام المتبادل. وكان فيصل الأول يقود تلك الجهود بنفسه. وهو بنفسه أيضًا منْ فضَّل التفاوض والاتفاق مع الملك عبد العزيز آل سعود، برغم كلِّ ما يبعثه ذلك فيه من ذكريات مؤلمة. لكنَّ مَنْ يرغب بالبناء لا الهدم، من يتطلع للمستقبل لا الماضي الذي انقضى ولا يمكن استعادته، ومنْ يريد أنْ يصبح جديرًا بلقب رجل دولة، ومؤسس الدولة في مثال فيصل الأول عليه أن يُفَكِّر بمنطق وطني محضٍ. ومن يرجع إلى تفاصيل ذلك اللقاء التاريخي سيجد أن فيصل الأول قد آثر مصلحة الشعب العراقي، قبل أيِّ اعتبار.

بالتأسيس الصبور لا التهور والارتجال الحماسي، أرسى فيصل الأول قواعد ومرتكزات الدولة العراقيَّة في طورها الأول. ساير بريطانيا العظمى المحتلة للعراق بمنطق خذ وطالب، وتعامل مع أبناء الشعب العراقي بروح وطنية، عربية الطابع. تريد منهم المزيد من الصبر والعمل حتى تنضج الثمار وتؤتي شجرة العراق "وطنهم وهويتهم" أُكُلَها للجميع.

إذنْ. وبرغم كلِّ ما تمتع به فيصل الأول من مواهب ومزايا لم يكن بلا أخطاء. لا وجود لسياسي أو رجل دولة أو حتى ثائر مثل هذا في الحقيقة. لكنه كان رجلًا صبورًا يواصل العمل بنشاط وهمَّة. ووقوع أخطاء من قبل أولئك المنهمكين في العمل أمر حتمي، لا سيما حين تكون المهمة التي يطمحون لتحقيقها مكلفة وكبيرة. ولا أكبر من تأسيس دولة في وقت تكون فيه المقدرات قليلة والظروف محرجة. والأهواء متباينة، لقد فضَّلت في جزئي هذا المقال المرور بسرعة على محطات تعريفية في حياة رمز بناء الدولة العراقية الحديثة الملك فيصل الأول لأني متأكد من أن كثيرًا من العراقيين لا يعرفونه على حقيقته، وأن كثيرًا من الذين كتبوا عنه بالأمس، ويكتبون عنه اليوم، لم يقفوا على تفاصيل سيرته بشكلٍ كافٍ، أو يعرفوا قدرًا معقولًا من ملابسات الأحداث التي سبقتْ تأسيسه للدولة العراقية. هذا بطبيعة الحال إن لم يكونوا منطلقين من أحكام مسبقة. مع أن فيهم مَنْ يقدمون أنفسهم بوصفهم من الخبراء في الشأن العراقي، وفي معرفة دقائق تاريخه المتشابك. بصراحة، لا أعرف ما الذي ستكون عليه ردود أفعالهم فيما لو علموا أن أحد ألمع المؤرخين العراقيين، ممن تخصصوا بتاريخ الدولة العراقية الحديثة وعرفوا بالموضوعية والتثبت وأريد به المؤرخ العراقي الراحل عبد الرزاق الحسني كان يجد في فيصل الأول ملكًا من طراز متفرد، لا يشبه أحدًا من ملوك اليوم، وأنَّه أقرب إلى (خلفاء الصدر الأول من تاريخ الإسلام) وفقًا لتعبيره الذي لا أجد نفسي مُلزمًا به! جاء قوله هذا في سياق الإشادة بتواضع فيصل الأول وظرفه وزهده في أبهة الملك. علمًا أنَّه لم يقلْ رأيه هذا إلا بعد رحيل فيصل بنصف قرن، وانتهاء العهد الملكي بأكثر من ثلاثة عقود. وثمة كثيرون من عراقيين وعرب وأجانب، ذهبوا الى ما يشبه هذا الرأي.

إرث الدولة

يقول بندكت أندرسن: إن "القيادة لا الشعب هي التي ترث لوحات التحكم والقصور القديمة" (الجماعات المتخيلة. ط1، 165). حسنًا، لقد انتهت حقبة فيصل الأول، ولم يعد للاستعمار البريطاني وجود. كما انتهت حقبة العراق الملكي (1921 – 1958) بملوكها الثلاثة: فيصل الأول وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني. وبلا شك، لم تكن قدرات وتجارب الملكين الأخيرين تماثل تلك التي اجتمعت لدى فيصل الأول. مع ذلك، بقيتْ مؤسسات الدولة تنمو وتتطور. لستُ بصدد الحديث عنها هنا. ويكفي التذكير بالنتائج الرائعة لمشاريع مجلس الإعمار. وددتُ الإشارةَ إلى الجهة المقابلة، إلى الجيش الذي رأينا فيصل الأول يوليه أهمية استثنائية، فقد راحتْ قوَّتُه المتنامية تغري بعض ضباطه للتدخل في الشؤون السياسية. وما هي إلا ثلاث سنوات مضتْ على رحيل مؤسسه حتى قاد بكر صدقي انقلابًا عسكريًّا كان الأوّل من نوعه في الشرق الأوسط. وعلى يد ضباطه أيضًا، في العام 1958 أُسْقط الحكم الملكي، وأعلن قيام الجمهورية. فتعاقب على حكم العراق كثيرون. ولكن لم يقل أحدٌ منهم إن ما يفكر في تقديمه - منجزاته كما في لغة أخرى - يأتي استكمالًا أو إضافة أو تطويرًا لبناء سبق للملك فيصل أن ثَبَّتَ أساسه. لم يمتلكوا الشجاعة لقول ذلك، وكأنَّهم وحدهم من شيدوا الدولة، وألَّفوا بين طوائف العراقيين، وبنوا المدارس والمعاهد والكليات، وأسسوا لمعاهدات حسن الجوار، وسنّوا القوانين وحاربوا الإنجليز وطردوهم من العراق. ربما لأنَّ اعترافًا مثل ذلك لن ينزع عنهم شرعيتهم فحسب، وإنما رغبتهم المعلنة بتقديم أنفسهم بصفة المؤسسين الحقيقيين لدولة العراق. في حين كان فيصل الأول يعمل ويؤسس بلا صخب، ولا ميزانية تضم ملايين ومليارات الدولارات، فلم تكن الثروة النفطية في عهده فاعلًا حاسمًا. ولّعَلَّ رغبتهم المعلنة تلك هي أفضل ما يفسر لنا حادثة مأساوية مؤسفة مثل مجزرة قصر الرحاب. أمَّا ما سيشهده العراق بعد ذلك من أشكال النزعات الثأرية وكرنفالات الدم والجوع والحروب والتقاتل والحصارات والإرهاب والهجرات وصولًا إلى الاحتلال الأميركي الكامل للبلاد فلا أتصور أنّه دار في متخيل أحد. إن بناء دولة ناجحة لا يتوقف على شكل نظامها، أكان ملكيًّا أم جمهوريًّا، سلطنة أم إمارة، فالأمم والشعوب تختلف في ظروفها وثقافاتها، وهي حُرَّةٌ فيما تختاره وتقرره. الأكثر أهمية يتجسد بالمحتوى في الحقيقة، وبقدرة ممثلي النظام على بناء مؤسسات حقيقية، وإدارتها بأريحية واقتدار وكفاءة، ليتحقق بذلك الهدف المنشود من وراء فكرة الدولة: أمن الناس، العدالة، الحرية، تكافؤ الفرص، الشعور بالكرامة، الرفاهية.

مئوية بمحتفلين، ومئوية بلا محتفلين!

إذن، ها هي الذكرى المئوية الأولى للدولة العراقية، تَمُرُّ بلا احتفاء. لم يحتفل بها العراقيِّون، برغم حاجتهم الماسة لذلك. فالإيمانُ بقيمِ الدولةِ والتمسُّكُ بمعناها وجدوى حضورها الفاعلِ تصبح كلها متجذرةً بمرورِ الأعوام، ما دام ثمة من يستمر بالاهتمام بتاريخها، ويبقى يراهنُ على أنَّ الاحتفاءَ بلحظةِ تَشَكُّلِها سيجعلُ منها فاعلًا مؤثرًا في الذاكرة الجمعية للعراقيين، تلك التي تعرضتْ لكثير من الهزِّات في العقود الأخيرة. السؤال هنا: من الذي لا تزال له مصلحة في تَذكُّر كلِّ ذلك؟ لقد صارت الاحتفالاتُ تُقام لذكرى أبطالٍ يمثلون الأعراق والأحزاب والطوائف. ولأنَّ تأسيس الدولة العراقية قد ارتبط برمز التأسيس فيصل الأول، ولأنَّه لم يكن يرغب بتمثيل طائفة أو مكوِّن أو أيِّ عنوانٍ آخر سوى أبناء الدولة العراقية بأكملها، فمن الطبيعي بعد الفشل الذي تعاني منه مؤسسات الدولة الحالية أن لا نجد من يحتفي به/بها. ولا بأس هنا أنْ نسأل ثانية: مَنْ الذي يُفترَضُ به أنْ يكون مسؤولًا عن الاحتفاء بمئوية الدولة العراقية؟ لنْ يأخذ بنا الحماسُ حَدَّ أنْ نقول: جميع العراقيين؛ أو جميع مؤسسات الدولة، ما دمنا نتحدث عن مئويةِ الدولة. ولكنْ، وفي المحصِّلة، فقد مَضَت الذكرى ولم يحتفلْ بها أحد. حتى وزارة الثقافة التي ينبغي أنْ تكونَ مَعْنيةً أكثر من غيرها تركت الذكرى تمضي بهدوء تام. وكأنَّنا أمام مناسبةٍ يُمْكنُ أنْ تتكررَ في كلِّ يومٍ أو عام أو عشرةٍ أعوام. أُفَكِّرُ بيومِ السادسِ مِنْ يناير/كانون الثاني وكيف استَمَرَّ الجيشُ العراقيُّ، طوالَ المئةِ عامٍ الماضيةِ يحتفلُ فيه بذكرى تأسيسه، وأُفَكِّرُ أيضًا باليومِ التاسعِ مِنَ الشهرِ نفسه، إذْ تحتفي فيه الشرطةُ العراقيةُ بذكرى تَأسيسها، وفي أثْناء ذلكَ، أسألُ نَفْسِي، كَمْ وزارة، كَمْ هيئة، كَمْ مؤسسة في العراق تحتفي بعيدِ تأسيسِها، تحتفظُ بأرشيفها، الذي هو أرشيفُ الدولةِ العراقيةِ؟

نعم. ربَّما بوسع دولةٍ مثل الأردن أنْ تحتفي بذكراها المئوية، وهي بالمناسبة قد صادفتْ في هذا العام أيضًا، فالملك عبد الله الأوَّل شقيق الملك فيصل الأوَّل كان قد أسَّسَ إمارة شرق الأردن (المملكة الأردنية الهاشمية لاحقًا) قبل ثلاثة أشهر من تأسيس الدولة العراقية. وقد اشتركت الوزارات والجامعات والنخب الثقافية الأردنية بالاحتفاء بالذكرى، وأسسوا هناك لمؤتمرات وندوات ومهرجانات ضمَّتْ فعاليات وأنشطة كثيرة. كما صنعوا للمناسبة وسامًا خاصًّا، وصفحاتٍ رسمية في مواقع إلكترونية، وفي فيسبوك وتويتر، تحفل بمحتويات تقدِّم تعريفًا وافيًا بتاريخ الأردن وبالموروث الثقافي، وبحياة ملوكها ومفاخر شعبها. لماذا تحتفي الأردن بذكراها المئوية بحماس بالغ؟ هل لأنَّ سلالة ملكِها المُؤسِّس لا زالتْ هي الحاكمة هناك، بينما تاريخ العراق المختلف فيه/عليه، والذي توالتْ فيه الانقلابات والصراعات والحروب مشحون بذكريات وجراح لا زالت حيَّة؟ هذا بالتأكيد إنْ تجاوزنا التباين الكبير في تقييم مراحل عمر الدولة العراقية، ورجالاتها، وفقًا لمنطلقات ومواقف عاطفية، ومسبقة في الغالب.

 

[إلى يسار الصورة: الملك فيصل الثاني آخر ملوك العراق، وإلى اليمين الملك الحسين بن طلال الملك السابق للمملكة الأردنية الهاشميَّة]

قُبيل انتهاءِ العهدِ الملكيِّ ثمة جهود أثمرَتْ عن اتفاقٍ بين أولاد العمِّ، فيصل الثاني ملك العراق والحسين بن طلال ملك الأردن لتأسيس اتحاد بين الدولتين، سُمِّيَ بالاتحاد العربي الهاشمي. كان ملك العراق هو مَنْ سيتزعم الاتحاد، ونوري السعيد مَنْ سيرأس حكومته. وقتها كانت الأردن لا تملك ربع موارد العراق النفطية والمائية والبشرية، ولا تزال مواردها حتى اليوم لا تقارن بثروات العراق. لكن، وبالرغم من ذلك فهي ذاتُ المملكة التي هاجرتْ للعمل والإقامة فيها أعداد كبيرة جدًّا من العراقيين، طيلة العقود الثلاثة الأخيرة. وهي ذاتُ الأردن التي أصبحتْ فيها أحياء عمان الغربية مثل الصويفيَّة وشميساني وعبدون تضاهي العواصم الأوربية في جمال عمارتها وبناها التحتية، كما هو حال عواصم ومدن دول الخليج، التي كان العراق يسبقها بمراحل. في حين لم تعد الأحياء القديمة في بغداد صالحة للسكن. وصارتْ أجمل الصروح التاريخيَّة في شارع الرشيد مثل عمارة بيت اللنج ومكتبة مكنزي وسينما الزوراء إما أطلالًا مهجورة أو محترقة، أو محلات لبيع المواد الإنشائية، أو بيع الأحذية الرخيصة أو مكبات للنفاية. حتى أحياء بغداد الراقية (ما كانتْ كذلك في الحقيقة) مثل الكرَّادة والمنصور سيتوجب على المار في شوارعها الرئيسية أنْ يبذل جهدًا لتخليص نفسه من فوضى الازدحامات الخانقة، ومن الحفر التي تملأ الشوارع، ومن أكوام النفايات، ومن الباعة المتجولين، ومن "بَسْطِيِّات" باعةٍ آخرين، يحمل كثير منهم شهاداتٍ بمؤهلاتٍ عليا، افترشوا الأرصفة لأنَّ الفساد المستشري في الطبقة السياسية لم يترك لهم فرصة أفضل للعيش. للأسف، تلك هي نتيجة كل مَنْ لا يقرأ التاريخ، ولا يُفَكِّر بأخذِ عبرةٍ مِنْ أحداثه. لَيتَ مَنْ يكتبونه أيضًا يفعلون ذلك بوعي وأمانة علمية، والأكثرُ أهميَّةً بضميرٍ إنسانيٍّ لا يحملُ حقدًا تجاه أحداثٍ وقعتْ قبلَ مئةِ عامٍ مِنْ يومِ الناسِ هذا، أحداث عالمية متشابكة قَرَّرَ قواعدَهَا لاعبون عالميون كبار فوق/خلف طاولة سايكس-بيكو، وصادفَ أنَّ رجلًا مُمَيَّزًا اسمه فيصل بن الحسين قرأ اللحظةَ، واستغلَّ الظروفَ المُمْكِنَةَ، وكافحَ بصبرٍ وأمل، فَشَيَّدَ بكُلِّ ما تَمَكَّنَ منه أُسسَ دولةٍ حقيقيةٍ لم يختزلها بشخصهِ، دولة عصرية بدأ البناء بها مِنْ نقطةِ الصفرِ، دولة اسْمُهُا العراق. لكنْ للأسفِ، هَا هِيَ الآنَ، وأكثر مِنْ أيَّةِ لحظةٍ مَضَتْ أقربُ ما تكون إلى اللا دولة. ألهذا السبب لَمْ يَحتفلْ بِمِئَويَّتِها أَحَد؟

[للاطلاع على الجزء الأول من هذه المقالة يرجى الضغط على هذا الرابط].