إبراهيم المصري
(منشورات المتوسط، ميلانو، 2021)
[إبراهيم المصري، شاعر وصحافي من مواليد المنوفية عام 1957. عضو اتحاد كتاب مصر. صدر له: "لعبةُ المراكب الورقية"/ رواية، 1998، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة - (الرواية الفائزة بالمركز الثالث في الدورة الأولى لجائزة الإبداع العربي - الشارقة)، "الزَّهْرَوَرْدِيَّة"/ شعر، 2007، "رصيف القتلى – مشاهدات صحافي عربي في العراق" 2007، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - (الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة، مشروع ارتياد الآفاق، فرع الرحلة الصحافية 2006)، "الديوان العراقي"/ شعر، 2008، المركز الثقافي العربي - السويسري].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
(إ. م.): ذات ليلة خطرت على بالي عبارة "نهايةُ العاَلم كما نعرُفه" وعلى الفور فتحت صفحة على اللابتوب ودوَّنت العبارة، ثم بدأت في كتابة نصوص الكتاب، وبعد فترة ساورتني الشكوك حول العبارة، فبحثت على غوغل لأكتشف أنها عنوان لكتاب لم أقرؤه لعالم الاجتماعي الأمريكي إيمانويل والرشتاين "نهايةُ العالم كما نعرفه ـ نحو علم اجتماع للقرن الحادي والعشرين" وربما وردت العبارة على ذهني تناصاً أو ربما قرأت عنوان الكتاب في كتاب آخر، وبعد تفكير وتجنباً للالتباس قررت تغيير عنوان كتابي إلى "نهايةُ العَالَم كما نألَفُه" وظني أن العبارة الأخيرة أقرب إلى المجاز الشعري.
أمَّا عن منابع الكتاب وروافده، فهي مجمل قراءاتي ومشاهداتي كإنسان يعيش في الزمن الراهن بكل تحولاته تجاه المستقبل، وقد مر الكتاب بمراحل تطور من كتابة نصوصه إلى تنقيحها إلى الاستقرار على الشكل الأخير الذي نُشر به الكتاب عن دار المتوسط.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(إ. م.): الثيمة الرئيسية في "نهايةُ العَالَم كما نألَفُه" هي الدعوة إلى الإقلاع عن "العقل القديم" هذا الذي يمسك بمصائرنا ويحددها خاصةً في العَالَم العربي، ويعيق بالفعل أيةَ قدرة على العيش في مناخ إنساني وحر ومبدع، والعَالَم الذي تأخذنا إليه النصوص هو محاولة فهم ما يأتي به المستقبل والانفتاح عليه، خاصةً في ضوء تكنولوجيا المعلومات والثورة المعرفية المستمرة والتحولات الجذرية التي تحدث في علاقة الإنسان بنفسه وبمحيطه وبالعَالَم الذي يعيش فيه، إن العَالَم اليوم ليس هو كما كان قبل مائتي عام، ولن يكون ما هو عليه بعد مائتي عام، وفهم ذلك على بساطته الظاهرة، هو الطريق الأساسي بل الوحيد للتعامل مع المتن المُعقَّد للمستقبل، أو للتعامل والمشاركة مع وفي عقل المستقبل.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(إ. م.): صنَّفت هذا الكتاب "نصوصاً" بالرغم من أنه كان مكتوباً في الأصل على هيئة قصائد نثر، ورأيت أن "نصوص" أقرب إلى المفهوم العام للكتاب، والنص على أية حال هو كل خطاب بالمعنى الفكري والتراسلي للخطاب، ويمكن القول إنه خطاب شعري أو إبداعي في استشراف المستقبل، أمَّا كيف سيتفاعل الكتاب مع حقله الفكري وجنسه الكتابي فهذا ما لا يمكنني الجزم بمعرفته، ولا أتعالى إن قلت إنني لا أهتم بذلك، ففي النهاية ثمة إحباط مُسبق من قصة التفاعل هذه، سواء داخل الحقل الكتابي ذاته، أو في الدائرة الأوسع للقراءة والتلقي، ونحن للأسف نعيش في منطقة لا تقرأ أو تقرأ وفقاً لمدونات "العقل القديم".
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(إ. م.): قلت هذا سابقاً وأقوله الآن، لست من الكُتَّاب الذين يعانون أثناء الكتابة، ولم أواجه أية تحديات أو صعوبات أثناء كتابة "نهايةُ العَالَم كما نألَفُه" وإن كنت بالطبع قد لجأت إلى البحث لتدقيق إشارات معرفية وعلمية وفلسفية وردت في الكتاب الذي كان مثل غيره من الكتب التي كتبتها، أي رحلة ممتعة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(إ. م.): أعتقد أن هذا الكتاب توأم كتاب لي كتبته عام 1995 بعنوان "الوعي والوجود" وكان نوعاً من الحفر في قبو معتم كما وصفه صديق لي، وكان ذلك القبو المعتم نظرةً داخلية للذات والوجود والحياة، فيما يشكل كتاب "نهايةُ العَالَم كما نألَفُه" نظرة خارج الماضي وخارج العقل القديم، بعبارة أخرى "نظرة إلى المستقبل" الذي يتشكل بالفعل في العَالَم كله بوتائر تصعب ملاحقتها وعلى جميع المستويات.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(إ. م.): كتبت "نهايةُ العَالَم كما نألَفُه" انطلاقاً من التراكم والتفاعل المعرفي والثقافي والإبداعي مع كتب ونصوص كثيرة، وهذا طبيعي في سياق أن أي نص يُبنى في الأساس على ما يسمونه بالخلفية الثقافية والمعرفية للكاتب، وبالطبع كان ثمة نصوص لها تأثير خاص كما هو الحال مثلاً مع كتاب "فيزياء المستحيل" لميشيو كاكو، وبشكل عام يمكن القول إن الكتب العلمية والفلسفية التي قرأتها كانت ذات تأثير خاص على رؤيتي خلال الكتابة، لكنني لم أقرأ أي نص أو كتاب خلال إنجاز الكتاب، وذلك لا يعني أنني لم أرجع جزئياً إلى كتاب أو نص ما خلال الكتابة للتمحيص المعرفي والثقافي.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(إ. م.): ليته كان موجوداً هذا القارئ المحدد أو غير المحدد أثناء الكتابة لأصفه، لكن ليس موجوداً ولن يكون، وهذا لا يعني أنني لا أحترم القارئ أو لا أفترض وجوده، غير أننا إذا اعتبرنا الكتابة عملاً في الحرية، فإنَّ ذلك يعني قبل أي شيء آخر التحرر من سلطة القارئ خلال الكتابة، وهي سلطة لا تعني فقط إنساناً يقرأ، وإنما تعني في الأساس ذلك العقل القديم المهمين في العالم العربي بشكل مخيف ومفزع، وعلى أية حال فقد كان القارئ موضوع مواجهة مباشرة بيني وبينه في كتاب مخطوط لي بعنوان "أيها القارئ.. أو أغنية القتلة" وهكذا هو عنوان الكتاب الذي أتمنى نشره قريباً، وهذا الكتاب قائم على حوار افتراضي بين شاعر وقارئ، ولكنه أيضاً ليس قارئاً محدداً.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(إ. م.): أخطط لنشر كتاب شعري بعنوان "ساريانومات" والكلمة لا أصل لها قاموسي أو أنثروبولوجي أو ميثيولوجي وإنما هي كلمة منحوتة إن جاز التعبير، وأخطط لكتابة كتاب عن مدينة الإسكندرية المصرية في واقعها الراهن، بعيداً عن الحنين إلى تلك المدينة الكوزموبولتية والعاصمة المعرفية والعلمية القديمة، التي يمكن القول إنها مجرد حنين لا يصمد أمام الواقع الراهن للمدينة التي لا تعدو كونها الآن تراكماً رهيباً من فوضى وكونكريت وزحام، أو هي مدينة مُهدرة إنسانياً وجمالياً وثقافياً، وقد آلت إلى نزعة سلفية مقيتة وإلى توحش يسم ليس فقط الإسكندرية ولكن مصرَ كلَّها.
مختارات من الكتاب
1
بالنثرِ أو بالشِّعر، بانقطاعِكَ عن الدراسةِ أو بإكمالِ الدراسةِ الجامعية، بكونِكَ تعملُ سائقَ ميكروباص أو أنتَ الأمينُ العامُّ للأممِ المتحدة، بفهمِكَ للتكنولوچيا أو بكتابةِ قصائدَ تتجوَّلُ فيها الإبل، برغبِتكَ أن تصبحَ مُستثمراً في البورصةِ أو حاصلاً على جائزةِ نوبل في الفيزياء، بنومِكَ المتأخرِ عن يقظةِ الشمسِ أو أنتَ تغادرُ النومَ قبلها بساعتين، بالخوفِ منكَ أو بالشفقةِ عليكَ بالتفاؤلِ أو أنتَ اليأسُ ذاتُه، وبإدراكِ الحنانِ مرقوماً على شاشةِ هاتفِكَ المحمول، حينما تستقبلُ رسالةً من عاشقةٍ ترى أنَّكَ طفلٌ يتيم، باليتمِ أو بالعشقِ أو بالمكابرةِ سيرافقُكَ العَالَمُ الذي تأْلَفُه، وسيُدخلكَ حيَّاً أو ميتاً إلى العَالَمِ الذي لا تأْلَفُه.
2
لا شيءَ بامتدادِ العقلِ أو الحقل، وكلاهما من جناسٍ سوف نصرفُه إلى رهبةِ الجَمال، حين يدقُّ أجراسَ صدرٍ لا يُعرفُ من كتمانِهِ غيرَ أنَّه يُخفي قطارَ الخامسةِ صباحاً. وقليلون في انتظارهِ وسيكونون سعداءَ لو لم يصلْ في موعدِه. والدفءُ في عناقِكِ يا امرأةَ الجمالِ الخالصِ وأنتِ تُرسلين قُبلةً إلى الحقلِ من شُرفتِكِ فينهضُ الزَّرعُ من نعاسِه. إنَّنا نبحثُ عن سببٍ واحدٍ لا يكون ملموساً بأناملِكِ لنُمَجِّدَ العقلَ في طغيانِه وقد هدانا إليكِ عاريةَ الصدرِ وقد سقطَ عن نهديكِ حقلٌ من السنابل، أو من الزَّنبقِ المائيِّ حين أمرتِ النهرَ قفْ توقفْ عن الجريان، فتوقفَ النهرُ عن الجريان، وانفتحَ العقلُ بجلبةِ مغامرين كان اللهُ في عونِهم حينما يشاهدونَكِ وأنتِ ترسلين قُبلةً نراها عصفوراً ثم طائراً خرافيَّاً ثم عيوناً تتلامحُ في الهواءِ وقد أصبحَ دواماتٍ ضوئية. وفي الخيالِ ما يسندُ العقلَ بالكفافِ وقد بدأَ إرسالُ نهديكِ حين وصلنا إلى الحقلِ مع انطلاقِ قطارِ الخامسةِ صباحاً، أو مع ضرباتِ فؤوسٍ تشقُّ الحقلَ أثلاماً، ثم تأمرين النهرَ بالجريان.
3
المرجعياتُ وقد حطَّمت أعصابَنا، من صُحِفِ إبراهيمَ وموسى إلى الأرضِ اليباب، ومن نشيدِ الأنشادِ إلى النشيدِ الوطني، ومن الأورجانونِ إلى"3 in 1" ويا لها من خِفَّةٍ تفركُ أُذنَ المنطقِ وقد حسبناه إشراقاً خالصاً، حين كانت السُّبلُ شتاتاً أو نلتقي على متنِ طَوفٍ لا رُبَّان له سوى إشارةٍ خافتةٍ تتردَّدُ بين الضميرِ وبين غوَّاصةٍ تغرقُ الآنَ وقد كفَّ جهازُ الحياةِ فيها عن ضخِّ الهواءِ المنزلي. وإن قلنا إنَّنا غارقون في الكون، فبماذا نَصِفُ أقدامَنا المُترِبَةَ وقد أصبحت أشجاراً أو أعمدةَ إنارة، وبماذا نَصفُ حُلماً يُخفي نِصفَ وجهِهِ في الرعونة. فهل كان كلُّ ذلك في الصحفِ الأولى، صحفِ إبراهيمَ وموسى، أم في الأورجانون وقد أولتنا الآلةُ تنظيمَ الخُطى بما يعني البَدءَ من الصِّفر، لتستقيمَ الأعدادُ أو تبعثرَها مناقيرُ طيورٍ في جفنةِ قمحٍ نحصي به خُطانا، إياباً في المرجعياتِ من المائةِ إلى الصِّفر.
4
بَدءاً وخِتاماً، أنا إبراهيم المِصري. وبالسخريةِ اللازمةِ لمنازلةِ الأشباحِ كتبتُ هذا الكتابَ عن "نهايةُ العَالَمِ كما نَأْلَفُه". وبالتقويم الجريجوري سقطتُ من الظَّنِّ إلى اقتباسِ الحرير يوم 7 أكتوبر عام 1957 ولا أضاعفُ منزلةَ الأرقامِ بالرأسِ الضخمِ للقَدَرِ كما لو كان ثوراً ينطحُ أمِّي، فكنتُ أنا الدليلَ الوحيدَ على كتابةِ كتابٍ كهذا. ولا يوجدُ في جوفِ الأرضِ ما يُغري بالمواتِ الشِّعري، وإنَّما الإنسانُ أيضاً بأورامِه الغليظةِ من زمنٍ رقيقٍ إلى زمنٍ أَرَق. وقد علمنا أنَّ وسائلَ المواصلاتِ مُشبَّعةٌ باليود، والفجرُ باقتباسِ نافذةٍ على ظهرِ حصانٍ يركضُ نحو الأفق، كما سأركضُ إلى عملي صباحاً وقد اكتفيتُ من المعرفةِ بشمسِها، ومن العَالَمِ بأنَّه أنا وقد نِمتُ مشجوجَ الفؤاد، والمِلحُ يُلطِّخُ أحلامي، كما لو كنتُ سآتي لكم بالشمسِ من المغرب، وهذا لن يحدث. وما سوف يحدثُ.. آنساتي سيداتي سادتي.. أنَّ هذهِ في الوهجِ الدمويِّ للسُّلطةِ والقِنانة، نهايةُ العَالَمِ كما نَأْلَفُه.