من بين جميع القطاعات المتأثرة بالتغير المناخي، يعتبر الغذاء أكثر القطاعات التي من الممكن أن تتأذى بسبب التغيرات المناخية. تعتمد الغالبية الساحقة من المنتجات الغذائية التي يستهلكها البشر على زراعات موسمية، فالقمح والذرة والبازلاء وعباد الشمس، وغيرها، بالإضافة إلى أعلاف الحيوانات، هي زراعات تعتمد بشكل رئيسي على المناخ، وكذلك على الوقت الذي تُزرع فيه من العام، إذ من غير الممكن مثلاً زراعة القمح في الصيف وحصاده في الشتاء، وبالتالي فإن الزراعات الموسمية تتأثر بشدة بتغير درجات الحرارة وتعتبر أكثر القطاعات تضرراً من حالات عدم الاستقرار الجوي، إذ يؤدي الارتفاع المفاجئ أو الانخفاض المفاجئ في درجات الحرارة إلى إتلاف المزروعات الموسمية؛ نظراً لحساسيتها الشديدة للتغير في درجات الحرارة، ناهيك عن الأثر المدمر للفيضانات والسيول على المحاصيل. بحسب لجنة الزراعة في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) فإن التفاوت في الإنتاج الموسمي يعزى بنسبة تصل إلى 100% إلى تقلبات الطقس.
يواجه البشر الكثير من التحديات البيئية، مثل تبعات التغير المناخي، وتقلبات الطقس، ومن بين تحدياتها الأكثر خطورة هي تحديات استدامة الزراعة، والحفاظ على التربة، بحيث تبقى الزراعة مصدراً آمناً ومستداماً للغذاء.
إن الضلع الأهم في استدامة الزراعة هو التربة، حيث تلعب التربة الدور الأساسي في عملية الزراعة، وهي واحدة من المصادر الطبيعية المعرضة للخطر، حيث تواجه تحديات كبيرة قد تهدد الأمن الغذائي لملايين البشر، وأول هذه التحديات التصحر، حيث تواجه مناطق شاسعة حول العالم أخطار الجفاف الناجم بشكل أساسي عن التغير المناخي، بالإضافة إلى زحف العمران على حساب الأراضي الزراعية، حيث يتم استغلال الأراضي الصالحة للزراعة لبناء المساكن والقصور، وبدلاً من ضخ الاستثمارات في بناء اقتصاد مستدام ومواجهة مشاكل التغير المناخي، ينفق كل عام ملايين الدولارات لتمويل أبحاث تساعد في التغلب على المشاكل الفنية والهندسية التي تواجه المهندسين والمعماريين الذين يشيدون القصور والمساكن في الأراضي الزراعية.
لا تقتصر مهمة الحفاظ على الأراضي الزراعية في إبقاء المساكن بعيدة عنها وحسب، بل أيضاً في الحفاظ عليها من الممارسات التي تلوثها أو تقلل من خصوبتها، فعلى الرغم من خطورة التصحر والجور الحضري على الأراضي الزراعية، إلا إن الخطر الحقيقي الداهم الذي يواجه استدامة الأراضي الزراعية يتلخص في عاملين: المبيدات التي تستخدم بشكل غير منضبط، واستخدام كميات كبيرة من الأسمدة غير الضرورية.
تلعب المبيدات الحشرية والعشبية، بالإضافة إلى الأسمدة، أدواراً مهمة في أنماط الإنتاج الزراعي الحالية، حيث تسهم المبيدات في القضاء على الأعشاب والحشرات التي تقلل من كفاءة الإنتاج الزراعي، وتزيد من الغلة في نهاية الموسم، وهو ما أسهم في تحسن الإنتاج الزراعي، وأسهم بشكل كبير في توفير الغذاء لمليارات البشر، إلا أن النمط "غير المستدام" هذا سيؤدي إلى نتائج كارثية، فالقضاء التام على الحشرات في الحقول والأراضي المزروعة، وجني كل بذرة من المحصول، وعدم ترك أي شيء للنمل والحشرات والطيور، يهدد بشكل جدي التوازن البيئي والمنظومة الإيكولوجية، ويبشر بمشاكل لا حصر لها. أما الأسمدة، التي يهدف استخدامها إلى زيادة خصوبة التربة وتوفير عناصر مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم وغيرها، فتكمن المشكلة في الإفراط في استخدامها، بشكل يمثل خطراً كبيراً ليس على التربة نفسها، بل تتسبب بالأذى لمصدر طبيعي آخر مهدد بالنفاد: المياه الجوفية.
إن أنماط الزراعة الحالية جائرة، وليست "غير مستدامة" فحسب، فالنشاط الزراعي اليوم يترافق مع استخدام للأسمدة بكميات كبيرة، بشكل يؤدي إلى تراكم النترات التي لا تستخدمها النباتات في التربة، فيما يسمح هطول الأمطار والري للنترات بالتحرك وإيجاد طريقها إلى المياه الجوفية، مما يتسبب في ارتفاع خطير في تركيز النيترات في المياه الجوفية، فيما يدفع السكان والمواطنون في دول العالم ثمن ذلك، إما من صحتهم عبر التعرض لتراكيز غير آمنة من النترات في مياه الشرب، أو دفع تكاليف إضافية ثمناً لشرب مياه غير ملوثة. كما تسهم الزراعة الجائرة في إزالة مساحات شاسعة من الغابات، ففي غضون خمس سنوات، بين عامي 2000 و2005 بلغ متوسط صافي إزالة الغابات أكثر من 7 ملايين هكتارًا - حيث تسببت هذه الإزالة في أكثر من 5 غيغا طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنوياً - بحسب تقرير للبنك الدولي، فيما خسر العالم خلال ثلاثين عاماً، بين عامي 1990 و2020 أكثر من 178 مليون هكتارًا من الغابات.
إن الحلول التي يمكن تقديمها في مجال الزراعة المستدامة مرهونة بتوجيه الحوافز المالية والإستثمارات من أجل جلب المزيد من الإبتكارات والموارد إلى قطاع افتقر إليهما خلال العقود الماضية، وهذا يقودنا إلى نتيجةٍ أن الطريق نحو اقتصاد أخضر ومستدام يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالإرادة السياسية والإقتصادية، عبر استراتيجيات وخطط جادة وطويلة المدى لوضع البنية التحتية السليمة للممارسة الاقتصادية المسؤولة والصديقة للبيئة، فيما لن تسهم حلول السياسيين المجتزأة والاستعراضية لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة في الحفاظ على موارد كوكبنا، أو حماية كوكب الأرض وتوازن نظامه البيئي.