قصة قصيرة لـ مارجريت أتوود.
"سراويل أم أوراق شجر ميتة؟" تقول ليزي.
"تخميني أنها السراويل" تقول نيل.
كلتاهما تقفان على الرصيف البحري في بدلات سباحة غير ملائمة لعمريهما، تحدقان بالبقعة المظلمة أسفل المياه.
قبلها بساعة، حمّصت نيل ملابسها المغسولة فوق الرصيف، والذي يعد أفضل موقع لتجفيفها، وهو كذلك منذ سبعين سنة، عدا أنها لم تثبّت أحجارًا فوق سراويل اليوغا القطنية، رغم وجوب إلمامها بالممارسة الأنسب، وثم رجعت لأعلى التل إلى المنزل، عبر همهمات وحفيف الأشجار. السراويل خفيفة الوزن، وعلى ما يبدو فقد طارت بعيدًا. المنطق يفترض أن ينتهي بها المطاف في نطاق البحيرة، لو حصل ذلك لسراويل أخرى ربما لن تُلقي بالًا، لكنها مُغرمة بهذه.
"سأنزل". تقول.
"ربما ليست السراويل" ليزي تقول بريب. تدفّق المياه يصرف أوراق الشجر المتراكمة نحو القعر الرملي/الحجري للبحيرة. شقيقهما الأكبر، روبي، أحيانًا ما يجرف الأوراق خارجًا كمجاملة لهنّ، رفقة الأعشاب المائية الصغيرة التي تنمو إذا ما سُمح لها، ويضع بواقي الوحل المترسب في طشت كبير من الزنك، إلا أن مصيرها بعد ذلك مجهولٌ لنيل. المجرفة والطشت يتكآن قبالة الشجرة، بالتالي لا بد أنه أدى مهامه مؤخرًا. ولو حتى فقط من الطرف الآخر للرصيف. لذلك لربما تَرَكَ بعض الأوراق.
تجلس نيل على حافة الرصيف، ثم بحذر شديد ترخي نفسها للأسفل، واعية للشظايا التي من المحتمل أن تخزها. لها مع الشظايا تاريخ طويل. الشظايا التي في المؤخرة خصوصًا هي الأسوأ، لأنك لن تطال النظر لتسحبها عنك.
ضربت قدمها بالرمل. الماء وصل إلى خصرها.
"هل هو بارد؟" سألت ليزي. هي تعرف الإجابة.
"مررت بالأبرد" دائمًا هذا صحيح. ألم تقم الاثنتان مرة بحق بقذف جسديهما من على نهاية الرصيف للماء المتجمد مَبْلَغ الصدمة القلبية، ضاحكتين برأسيهما؟ هل تهاوتا كقذائف مدفعية؟ نعم فعلتا.
نيل تملك لمحة من ليزي لكن بعمر أصغر – أصغر حتى من القذيفة الكروية - بسنتين أو ثلاثة. "عنكب! عنكب كبير!" كانت تقول. لم تستطيع لفظ كلمة "عنكبوت" كاملة. عنكب. أحمق. رش. أما نيل، ففي أي عمرٍ كانت في ذلك الوقت؟ في الخامسة عشر. جليسة أطفال متمرسة. "لن يؤذيكِ. انظري، إنه يهرب. العناكب تخاف منا". بل تختبئ تحت الرصيف. لكن ليزي لم تطمئن. ظلت على هذا النحو: أدنى كل سطح رقيق لا بد من تواجد كائن ذي أرجل عديدة.
"هل أنا في الاتجاه الصحيح" تسأل نيل. قدماها تتحركان مبدئيًا، وتلاقي دغدغة ناعمة، مادة مركّبة بنسيج حبوب الشوفان لزجة، حجارة حادة صغيرة. ما تستشعر به يشبع عصا. تنغمر لحد إبطها الآن؛ ولا يتسنى لها رؤية البقعة الداكنة بسبب زاوية الانعكاس.
"أكثر أو أقل". ليزي تقول، تصفع من على قدميها المكشوفتان: ذباب مستقر. هنالك تقنية لقتلهم – حينما يحلقون للخلف، عليك أن تتسلل عاليًا بيدك – سوى أنها تستوجب التركيز. "أوكيه، أكثر دافئًا. أدفأ. قليلا إلى اليمين ".
"أراها". تقول نيل، "بالتأكيد السراويل." تصطادهم متجولة بأصابع قدمها اليسرى وتحملها نحوها، يقطرون. لا يزال بوسعها التقاط الأشياء بأصابعها، على ما يبدو: إنجاز ضئيل، إنما لا يجوز الاستخفاف به. استمتعي باللحظة، لن تدوم، تعقب على نفسها.
غدًا قد تعالج الخطوط العريضة من الطلاء الرمادي، أو البقع التي تقشرت عن الرصيف ورست مستلقية في قاع البحيرة مثل نمو لفطر خيال علمي شرير. إنها ليزي هي من دهنته. روبي هو الذي أرادهُ مدهونًا. ظن أنه سيحافظ على ألواح الخشب، ويمنع عنها التعفن، لذا هم لن يضطروا لإعادة بناء الرصيف البحري مجددًا. كم مرة أجروا ذلك؟ ثلاثة، أربعة؟
أخطأتا بشأن الطلاء، أو البقع، كما اتضح: الرصيف يتقشر مثل حروق الشمس، والماء يتدفق تحت سائر الرقع، ملينًا الخشب. ومع هذا، لربما لن يلجئوا لإصلاحه بأنفسهم؛ سيتاح لهذا قضاء الدوام معهم، الجيل الأصغر سيرممه، بتصور ما بأنه سيترك لهم.
هذا بالأصل كبعض الأشياء التي اعتادت والدتهما أن تقوله عن ملابسها: " لست بحاجة لسترة جديدة. هذه ستقضي الدوام معي ". نيل أبغضتها تلك المرحلة. واجب الوالدين أن لا يموتوا؛ هذا تهور.
السراويل في اليد، كافحت نيل للعودة للرصيف. حظيت بلحظة وجيزة من التساؤل حيال الكيفية التي ستتسلق بها صعودًا. هنالك درجة مؤقتة متحللة على الجانب الآخر، مُخترعة من لوحين خشب ومكسوة ببراعم الطحالب، إلا أنها فخ مميت وينبغي إزالتها. مطرقة ثقيلة كفيلة بالأمر. عندئذ سيكون فيها زوج قاتل من المسامير الصدئة البارزة من الخشبة الضخمة المرتبطة بها. سيضطر شخص ما بخلاعة للذهاب إليها، باستثناء نيل. فكل ما تحتاجه هو واحد من تلك المسامير التي تنبثق فجاءة لترتد هي ورائها للخلف كي تبتلعها المياه الضحلة، وتصطدم رأسها بالصخرة المزعجة البيضاء المدببة التي يعتزمون اقتلاعها ومحولاتهم لا تفلح.
بعد إعادة التفكير، الأحسن هو دق المسامير الصدئة للداخل، وليس سحبها. الآن من الذي سيفعل ذلك بالضبط؟
تقذف نيل بالسراويل الرطبة على الرصيف. ثم، ترتكز بقدميها بحرص على زند الخشب الزلق لمهد مغمور بالماء يثبت الرصيف مكانه وتتشبث بأقرب خشبة مقيدة بوتد، تحمل نفسها عاليًا. أيتها المسنة الساذجة، حقًا لا يجب أن تفعلي هذا. تخبر نفسها، واحد من هذه الأيام ستكسرين رقبتك.
"النصر". تقول ليزي: "دعينا نشرب الشاي."
***
تناول الشاي هو أقرب للقول من الفعل، بادئ ذي بدء، لقد نفد الماء، مشكلة توقعتاها بإحضار دلو لأدني التل. الآن لا بد أن تتصارعا مع مكبس المضخة اليدوية، ذات الصرير القاسي أكثر من أي وقت هذا العام، وتضاءل سيلان الماء، وفيها نكهة حديدية حادة، مما يعني غالبًا أن صمام القدم الرملية السحيق تحت الأرض مُنسد أو مفكوك. " مطالبة روبي بشأن الصمام "، دونت ليزي في إحدى القوائم الجمة التي تعدها هي ونيل إلى ما لا نهاية قبلما؛ إما يفقدانها أو يتخلصان منها.
الخيارات: حفر الشيء، كابوس، أو غمر مضخة جديدة، كابوس أيضًا. سينتهي الأمر بإحدى الأبناء أو الأحفاد أو كلاهما معًا، يتم دعوتهما للقيام بالدق الفعلي. لا أحد ينتظر من الدجاجتين المسنات بعمر نيل وليزي أن يصلحوها بأنفسهم.
لا أحد، سواهما. ستبدأن، ثم ستجرحان نفسيهما - الركبتين والظهر والكاحلين - والجيل الأصغر سيجبر على متابعة الأمور. سوف يفعلونها بشكل الخاطئ بالطبع. بالطبع! عض اللسان سيجري بالترتيب من ليزي لنيل. أو. الأعظم، ستقولان إنهما تعانيان من الصداع، حتى لا تضطرا للمشاهدة، لاحقًا ستجولان في الكوخ وتقرأن جرائم ألغاز القتل. ليزي لديها مجموعة عائلية مجمعة من الكتب الورقية المتسخة بالذبابة والأغلفة المصفرة مرتبة حسب المؤلف فوق رف غرفتها، بعد العش الكبير للفأر الذي أكتشف خلف موقعهم السابق.
تتناوبان على مِقبض المضخة. بمجرد ما أن يمتلئ السطل - أو نصفه، لأن أيًا منهما لم تعد قادرة على جر واحد بكامله، ليس بعد الآن - تتمايلان لأعلى التلة شديدة الانحدار، وهذا يتم مع مخاطرة التعثر فوق هيئة الدرجات المصنوعة من الصخور المسطحة، تتبادلان السطل ذهابًا وإيابًا حتى تصلا القمة، وتتنفسان بثقل. مدينة النوبة القلبية، ها أنا قادمة، تفكر نيل.
"لماذا بحق العهر قام هو بإنشائه على قمة هذه التلة القحباء؟" ليزي تقول. "هو" تتغير حسب مرجع عمن تتكلمان عنه؛ الآن، "هو" تعود على والدهم. بينما الـ “ه" في إنشائه؛ للكوخ الخشبي الذي بناه، بالفؤوس والمناشير اليدوية، والخلاعات وسكاكين الرسم، وأدوات أخرى للرجل البدائي.
" لمكافحة الغزاة" تقول نيل. ما هذه إلا سوى طرف من المزحة. عن كل مرة تريان فيها قاربًا بغيضا يصيد بالقرب منهم – فالبؤرة الرملية هي بقعة مألوفة لسمك البيكلر المفترس - تصير لديهن ردة الفعل نفسها: الغزاة!
تنجحان بالدخول عبر الباب الشبكي للكوخ، بالكاد تسكبان القليل من الماء. "نحن بحاجة لعمل شيء ما بصدد الدرجات الأمامية" ليزي تقول. "إنها مرتفعة للغاية. ناهيكِ بأمر الدرجات الخلفية. علينا جلب درابزين. لا أعرف ماذا الذي كان يفكر به ".
"لم يعتزم على التقدم في السن “تقول نيل.
"أكيد، إنها مفاجأة فاحشة رائعة" تقول ليزي
كلهم ساعدوا ببناء الكوخ، بوقت ما. والدهم أنجز معظم العمل، بطبيعة الحال، لولا جعله مشروعًا عائليًا، يتضمن عمالة الأطفال. الآن إلى حد ما هما عالقتين به.
البشر الآخرون لا يعيشون هكذا. تفكر نيل، البشر الآخرون لدى أكواخهم الريفية مولدات. ماءً جارٍ. لديهم مشاوي الباربكيو. لما كلتانا محاصرتين داخل نوع ما من برنامج تلفزيوني لتمثيل التاريخ؟
"أتذكرين عندما كنا قادرتين على رفع دلوين؟" ليزي تقول. "على حدا؟" هذا لم يحدث منذ فترة طويلة جدًا.
***
الجو حارًا جدًا لإشعال موقد الحطب، بل ستقومان بغلي الماء على موقد التخييم الأثري بأسطوانة غاز البروبان ذو الشعلتين. الصدئ عند أنبوب الضخ، لكن حتى الحين لم تحدث إيه انفجارات. "موقد بروبان جديد" مسجلة على القائمة. الأبريق من الألومنيوم، من الصنف الذي حتمًا جرى حظره. مجرد النظر نحوه يسبب لنيل السرطان، سوى أن قاعدة غير معلنة تذكر بعدم الاستغناء عنه بتاتًا. الغطاء سيلائمه بالضبط إذا ما ثبت صحيحًا: نيل حددت علامة للموضع منذ سنوات، بدائرتين من طلاء الأظافر الوردي اللامع، بواحدة على الغطاء، واخرى مماثلة على الابريق نفسه، والذي يتوجب تخزينه مقلوبًا حتى لا تزحف له الفئران شاقين طريقهم داخل فوهته فيتضورا من الجوع حد الموت ثم تنبعث منهم رائحة مريعة، إضافةً للديدان. التعلم بالممارسة، نيل تعتقد. هنالك ما يفي بالغرض من الفئران والديدان الميتة في حياتها.
الشاي الموجود بغطاء فخارة التحميص المصنوعة بأربعينيات القرن الماضي والمطلية بالمينا ومعنونة بـ “شاي" هو عمليًا نشارة الخشب. ظلوا يسعون للتخلص منها. ليزي أتت مستعدة بخاصتها من مدالي الشاي البلاستيكية ذات سحاب للإغلاق. مدالي من السهل رميها مقارنًا بأوراق نبتة الشاي المنقوعة، ولو أن الكل يعلم أن ميداليات الشاي المطحون تصنع من مكانس الأرض والتراب, خلال عهد تيج، هو ونيل لطالما جربا ورقات النبتة المنفصلة، فقد كان يشتريها من متجر صفير متخصص تديره امرأة مطّلعة من الهند. تيج كان ليسخر من أكياس الشاي.
عهد تيج، انتهى الآن.
عاليًا على الجدار، فوق موقد الحطب، علقت صينية شوي مسطحة متطاولة ابتاعاها نيل وتيج من مزاد زراعي قبل أربعين عامًا مضت، أخذت أحيانًا كمقام مرح لعجن مقليات الفطائر المخمرة، تيج يشرف على تقليبها، وقتما برحت السعة والوفرة تزهو أثناء نضوج الأطفال هو الترتيب السائد للأيام. ها هي قادمة! من التالي؟ أنها لا تستطيع النظر مباشرًا لصينية الخبز هذه – ترمقها بنظرة خاطفة، ثم تشيح بعيدًا- لكنها دائمًا مدركة حضورها.
"قلبي مُحطم" تفكر نيل، إلا أننا عائلة لا نصرح" قلبي مُحطم ", بل ننطق؛ "أهناك أية كوكيز؟" يجب على المرء أن يأكل، ينبغي على المرء أن يبقى مشغولا، الواحِدُ يعين عليه أن يشتتَ نفسه. لكن لماذا؟ لأي غرض؟ لمن؟
"هل هناك أية كوكيز؟" نعقت بها بشق الأنفس.
"لا" تقول ليزي. " إنما هناك شوكولاتة. هيا نلتهم القليل." تدري أن قلب نيل مكسور. فلا داعي لإخبارها.
كل منهما أخذت حصتها الشخصية من كوبي الشاي بشرحتين مربعتين شافيتين من الشوكولاتة، لوز مُملح – وجلستا على طاولة بالخارج في شرفة ضيقة محجوبة. ليزي احضرت القائمة الحالية إذ يتاح لهن تحديثها.
"يسعنا شطب؛ الجزم والأحذية". ليزي تقول.
"مرحى لذلك" ترد نيل.
أمضتا النهار السابق تبحثان بين الأكياس البلاستيكية المعلقة بالمسامير في غرفة نوم روبي القديمة. جميعها احتوت على فردتي حذاء عتيقين ووكر فأر. الفئران تحب الاختباء جوف حجر الأحذية؛ يقومون بحشوها باللحاء والخشب الممضوغ والخيطان وأقمشة المنسوجات التي انتشلوها من ستائر المدخل وأي شيء إضافي يناسب أغراضهم. حاول فأر ما ذات مرة اقتلاع البعض من شعر ليزي أثناء الليل.
الفئران تضع صغارها بباطن الأحذية المعلقة ويتبرزون بقاع الأكياس البلاستيكية، متى لم يسعهم التغوط فوق منضدة المطبخ أو بجانب حوض الحمام، تاركين بذورًا سوداء ضئيلة في كل الحجرات. ليزي ونيل كطبعهما ضبطتا مصيدة لهم، تتألف من ميلان رأسِ سلة قمامة طويلة مع نقطة من زبدة الفول السوداني مستقرة استراتيجيًا عند الغطاء. من الناحية النظرية، الجرذ يقفز على الغطاء ليحصل على الزبدة فيسقط في الحاوية. غالبًا تعمل، بالرغم أن زبدة الفول السوداني عادةً ما تتلاشى في الصباح بدون الفأر. تصدر الجرذان المحاصرة صوتًا كصوت الفشار حينما تقفز، تضرب الجزء العلوي للحاوية. نيل وليزي تضعان دائمًا القليل من الزبيب داخلها مع منشفة ورقية ليختبئوا تحتها، ثم بالصباح يجدفون بالفئران عبر البحيرة - إلا لعادوا بخلاف ذلك، ساعين نحو رائحة عشهم - فيحررونهم بالقرب من ساحل الشاطئ البعيد.
روبي أكثر وحشية. يستخدم مصائد الفئران. نيل وليزي تعتقدان أن هذه الممارسة تضر البوم، حيث أن البوم يٌفضل اصطياد الفئران الحية، غير أنهما لن تتجرأ على أخبراه، لإن روبي سيضحك عليهما.
بالأمس نيل وليزي قامتا برصف أحذية اعشاش الجرذان، علاوة على خف مطاطي بوكر أسطوري، والتقطا الصور بهاتفيهما ثم أرسلتا اللقطات لروبي: هل يمكننا إلقائهم؟ رده كان أن عليهما ترك كل الجزم ريثما يأتي هو. سيقرر وقتها ما يلزم الاحتفاظ به. “هذا مٌنصف تمامًا، أجابتاه، عدا أنه لا مزيد من تعليق الأحذية في الأكياس البلاستيكية: فتعشيش الفئران لهي جريمة سانحة ويجب احباطها.
"اكتبي: (صندوق شفاف لأحذية روبي) على القائمة", تقول نيل، ليزي تنفذ ذلك. القوائم تتكاثر. تؤدي لخلق قوائم أخرى. نيل تتساءل عما إذ هناك علاج نفسي مخصص للإفراط بإعدادها. لكن إذا لم تقما الاثنتين بهذا، فكيف ستتذكران ما يحتاجون إليه؟ بأية حال، فهما تحبان شطب المنجز. يجعلهما تشعران أنهما تتجهان لمكان ما.
***
بعد العشاء، والذي هو معكرونة - "اكتبي المزيد من المعكرونة"، تقول نيل – تتمشيان خارجًا نحو البؤرة الرملية، ثمة كرسيين تم نصبهما للتخييم، النوع القابل للطي بجيب شبكي محبوك مع مسند ذراع واحد لحمل البيرة يتيح لها بالاستقرار فيه. أحد الكراسي به ثقب بقاعدته، قضمته الفئران، لا يعتبر ثقبًا كبيرًا. أي شيء أنتَ لا تسقط عبره ليس ثقبًا كبيرًا. الكراسي وجهت للشمال الغربي؛ نيل وليزي تجلسان عليهما كل مساء وتراقبان غروب الشمس. إنها أجدر طريقة للتنبؤ بطقس اليوم التالي، أفضل من الراديو أو مواقع الانترنيت المتباينة على هواتفهم. بالإضافة لباروميتر الضغط الجوي، ولو أنه لا يساعد كثيرًا نتيجة اشارته الدائمة " للمتغير".
“لونه دراقي قليلًا". تقول ليزي
"على الأقل ليس أصفرًا." الأصفر والرمادي هما الأسوأ. الوردي والأحمر هما الأفضل، الدراق يحتمل التحول لكلتا الحالتين.
تبقيان هناك في الخارج ريثما الغيوم تنطفئ من الخوخيّ إلى الوردي، ثم بالفعل للظل الأحمر المرعب تمامًا، مثل غابة تحترق في الفضاء.
بالطبع، لما سترجعان للكوخ، نزهة تمشيانها معًا في الغسق، وهذا أيضًا بسبب نسيانهما المصباح اليدوي، مقياس البارومتر أنتقل للأعلى بالكاد، من "a" لـ "n" في "المتغير".
تقول ليزي: "لن يكون هناك إعصار غدًا".
"هللويا!" تقول نيل. "لن نذهب لعالم أوز3 عبر إعصار."
في الواقع مر إعصار من هنا مرة، عهد تيج، واحدًا خفيفًا نسبيًا، وإن فقد أقتلع بعض جذوع الأشجار كاملًا كأنهم عيدان كبريت هشة. متى حدث هذا؟
***
فور أن تحل العتمة تمامًا، تترك نيل مصباحها الرأسي وتستبدله بأخر يدوي ثم تتملص مسلكًا إلى الرصيف. اعتادت أن تتجول ليلاً بدون إضاءة - يمكنها أن ترى في الظلام – لو أن الرؤية الليلية أحد النعم التي تُفقد. هي لا ترغب بالاندفاع نزولًا نحو التل، أن تشل نفسها من على قطع الكسور الجيولوجية التي بمثابة خطوات أو كالتي أخفاها والدها هنا وهناك لغاية مبهمة، منسية الآن؛ ولا تود أن تدوس على أية من شراغيف الضفادع الصغيرة. الذين يظهرون في الليل ويقفزون هائمين، عازمين على صنع مغامرات خاصة بهم، فتنزلق بهم حال سحقهم.
هي ذاهبة للرصيف البحري لمشاهدة النجوم، بعيدًا فوق البحيرة، دون أن تحجبها رؤوس أشجار. إنها ليلة صافية، بلا قمر بعد، والأبراج الفلكية لها عمق وسطوع لا يخول لك قط رؤيتها من المدينة.
تيج اعتاد القيام بذلك. ينزل للرصيف لينظف أسنانه بالفرشاة ويحدق ناحية النجوم. "مدهش!" قد يقول. كانت لديه سعة هائلة للاندهاش؛ النجوم أعطته تلك البهجة. وقد تتهاوى بعض الشهب: إنه أغسطس، موسم نيازك البرشاويات ، حيث يتزامن دائمًا مع عيد ميلاده. نيل على الأرجح كانت ستخبز له كعكة بفرن الحطب – يحترق وجها مرات، سوى أن هذا الجزء يصح كشطه - وتزينها بقمع الأرز وخصل من طحالب النادي وأي شيء آخر تصادفه. بل يحتمل توفر القليل من الفراولة، متبقية من منطقة نضجت به عما كان حديقة بالماضي.
تمكنت من التقدم حتى أدنى التل بلا حوادث مؤسفة، إنجاز تام. ولكن بمحض وقوفها على الرصيف البحري، لم تستطيع المواصلة. إنها لا تشعر باندهاش أو بالسرور، فقط بالحزن والمزيد من الحزن. صينية الخبز القديمة المعلقة على الحائط فوق الموقد لهو شيء واحد - هين بما فيه الكفاية بحيث تتجنب التحديق بها - إنما النجوم؟ ألن تكون قادرة على النظر نحو النجوم مجددًا؟
"لا نجوم، ليست لأجلك، لا أبدًا." هي تنوح، ثم في الشهقة التالية: لا تكوني عاهرة حساسة.
جرت نفسها عائدة لقمة التل، مسترشدة بالضوء القادم من داخل الكوخ. نصف منها يتوقع أن يرى تيج في ضوء مصباحها المسائي، يتفوه بالصيحات الحماسية على مهما كان يقرأه. ليس نصفها. بل أقل من النصف. هل هو يتلاشى؟
***
في الأزمنة القديمة، وهي عديدة، استعمل نيل وليزي وروبي قناديل كاز الكيروسين، والتي يجب التعامل معها بأقصى درجات الحذر - حيث الفتائل أو اغطية الزجاج الحامي تميل للاشتعال أو التفحم- أما العصر الحديث فقد أخذ إتاوته والآن يمتلكون بطارية بحرية، يعاد شحنها بواسطة لوحة شمسية خلال النهار، والتي تربط مع قابس لمبة إنارة كهربائية. وعلى ضوء هذا، نيل وليزي بادرتا لتركيب لعبة الصور المتقطعة. قاموا بحلها بالسابق، منذ آلاف السنين - أرض مستنقعات تحوي الكثير من عشب البردي والطيور المائية وتكسوها المعترشات المتفشية، وأثناء عملهما عليها، تباشر نيل في تذكر تشابكاتها الشيطانية: تكتلات الجذور، وبقع السماء والغيم، النتوءات الخادعة للزهور الأرجوانية.
يُفضل حل الحواف أولاً، وقد حققتا بعض الإنجاز. لولا أن ثمة قطعتا زوايا مفقودتان – أأضاعهم أحدهم؟ أهو شخص من الجيل الأصغر، أنتهك كنز ليزي من ألغاز تركيب القطع المقدسة؟ "كم هذا مُزعج،" تتمتمان لبعضهما البعض، بالرغم من أن ليزي تكتشف واحدة من قطع الزاوية ملتصقة بذراعها.
أخيرًا تتخيلان عن الأحجية - فجذور الشتلات المطمورة عسيرة للغاية، في نهاية المطاف - ثم تقرأ ليزي بصوت مسموع. قصة "سر كونان دويل"، مع إنها ليست بفخامة أحداث شارلوك هولمز، تروي عن قطار حول مساره إلى منجم مهجور من قبل مجرم حذق، من أجل إبادة شاهد وحارسه الشخصي.
أثناء قراءة ليزي، نيل تزيل صورًا من على حاسوبها الشخصي. أكثرهم عبارة عن صور لتيج، التقطوا خلال العام الماضي، عندما كانا يبذلان جهدًا بطوليًا للقيام بالأشياء التي رغب تيج بفعلها، فيما - ما لم يتحدثا عنه. ولا علما متى توقيته الدقيق. إنما كلاهما فهما أن هذا العام سيمضيان خلاله بالدرجة الأدنى للنعمة قد يحظيان بها قُبيل فقدانها قريبًا. لم يعتقدا أنه سينتظر عامين. ولم ينتظر.
الصور التي ترميها نيل هي لتيج. يبدو فيهم تائهًا، أو فارغًا، أو حزينًا - تيج على وشك الاضمحلال. إنها لا تنوي أن تتذكره بهذه الحالة، أو أن يكون كذلك. تحتفظ فحسب بالتي بها تبسم: حينما يدعي بإن لا سوءٍ يحدث، فهو يظل على طبيعته. اكتسب بذلك وقتًا كثيرًا. يا لهُ من جهد تولى حمله، وإن، فقد اضطروا للضغط للحصول على بعض السعادة، من ساعة لساعة.
حذفت الصور إلى أن شرعت ليزي بتناول نهاية القصة، حيث المجرم المصاب بجنون العظمة والذي خطط لاختفاء القطار يتبجح نتيجة جريمته المثالية: الرجلان المنكوبان، محبوسين في قطار يندفع عنيفًا نحو الهاوية، ووجوههما تبدي الفزع عبر نوافذ القطار المفتوحة، يشاهدان مصيرهم يقترب، الهوة الفاغرة المظلمة لفم المنجم، الهبوط الحاد، الغرق في غياهب النسيان. نيل تخشى أن هذا سيسبب لها الكوابيس؛ هذه من طراز القصص الذي يفعل. وهي لم تحب المرتفعات أو حواف المنحدرات قط.
الحلم الذي راودها تلك الليلة لم يكن بكابوس. مع ذلك، تيج فيه، ولم يكن فارغًا وحزينًا. بالعكس، هادئًا يتسلى. في قصة تجسس من نوع ما، مع ذلك بواحدة ترفيهية؛ روسي يدعى بولي بولياكوف متورط، باستثناء أنه ليس بامرأة، لذا لا ينفع لاسمه أن يكون بولي
تيج لم يكن بطل الحركة في هذا الحلم – هو فقط هنا - وبولي بولياكوف لا يبدي اهتمامًا لحضور تيج. إنه مٌرتبك للغاية، بولي هذا. هنالك موضوع مُلح نيل تحتاج معرفته، لكنه لا يملك مطلقًا الحظ لشرح ماهيته. وفقًا لنيل، فهي سعيدة لأن تيج في الحلم. ما تركز عليه غالبًا. يبتسم لها كما لو كانا يحظيان بمزحة مشتركة. أترين؟ كل شيء على ما يرام. بل مضحك. إنها لمن الحماقة كم من السكينة شعرتها فور استيقاظها.
***
في اليوم التالي، بعد أن عثرتا على آخر قطعة ناقصة من بانوراما الصور المتقطعة على الأرض، بعد أن تناولتا الإفطار ونقلتا مأوى الغنائم المكتشفة من الجرذان التي مضغت مناديل الحمام، وقضمت الزبيب، وتغوط أحدهم بشكل سخي لحاء نتئن، وفيما هما تتصنعان الذرائع للذهاب للسباحة - " أنا غيرت رأيي"، تقول ليزي - تضرب نيل إصبعًا من أصابع قدمها بالصخرة البيضاء المدببة تحت المياه، فهي بالطبع ستفعل. كانت ستجرح نفسها عاجلاً أم آجلاً؛ هذا جزء من عملية الحداد، باستثناء إراقة الدماء وتمزيق الملابس ومسح الجبين بالرماد، المرء الذي في حالة عزاء يجب أن يخضع لشكل ما من التشويه.
أكسرت عظمة إصبع القدم أم هي كدمة بسيطة؟ ليست أصبع القدم الكبير. يمكنها متابعة بالمشي أكثر أو أقل. بمساعدة ضمادة قرصان Band-Aid مزينة بالجماجم والعظام المتقاطعة مُخلفة من دزينة أطفال – أم هي لها؟ لروبي؟ للأحفاد؟ - تربط إصبع قدمها المصاب بجاره السليم وفقًا للتعليمات المبينة في هاتفها الخلوي. فلا يوجد الكثير لفعله، حسب مواقع الويب.
"نبش الصخرة البيضاء" تضيف ليزي إلى قائمتهم. بتصورها فأنه سيتعين عليهم الانتظار حتى الخريف، متى ما أصبح الماء منخفضًا، ربما حتى للربيع، عندما يستمر الانخفاض، ثم يخرجون لها بنوع من طقوس التطهير الروحانية، بالمجارف والمشاعل والخلاعات الحتمية، الصخور البيضاء الماصة للدم ينبغي أن تغادر!
كم مرة رتبوا لخطة شبيها بهذه؟ لا تحصى.
***
الأسبوع يتقدم. تشقان طريقهما عبر الزمن كما لو كانتا تجتازان متاهة، أو هذا ما تحسه نيل؛ ليزي، لعلها أقل بكثير.
إصابة نيل جيدة كجانب للاهاء في المحادثات. كلاهما تدرسان إصبع القدم المضحى به باهتمام: لأي مدى يصبح أزرق، لأي درجة أرجوانيًا؟ سيصير؟ ملاحظات كهذه حول جسد مجروح تبهج: أنت لا تصاب بكدمات أو الألآم ما لم تبق على قيد الحياة
"أو لدغات (البعوض) " تقول ليزي. كلاهما تعرفان من القصص البوليسية أن البعوض يتجاهل الموتى.
(أنت لم تُصب توقت الموت، صديقي. كيف حصل هذا؟ فلم يكن ثمة لدغات من البعوض على الجثة. آه! إذًا هذا يعني. . . بلا شك لا! أخبرك أنت أنه عليها أن تتواجد، يا عزيزي. الدليل أمامنا، ولا جدال عليه.)
"رئفة طفيفة". نيل تقول. أنت لا يتعين عليك أن تكون ميتًا ومثيرًا للحكة."
"سآخذ الخيار ب “. ليزي تقول
***
آخرون مروا بذات هذه المتاهة الزمنية المعروضة أمامهم. الكوخ بأكمله مُبعثر بكمائن صغيرة بهيئة كلمة مكتوبة. مُلاحظة في المطبخ، "لا تضع الدهون أسفل الحوض": بخط يد والدتهم. كتاب الطبخ المحفوظ للأبد هنا يحمل تعليقات هامشية بقلم الرصاص أيضًا من قبل والدتهم: "جيد !!" أو: "المزيد من الملح". ليست حرفيًا حكمة القرون، إلا أنها نصائح متينة وعملية. "عندما تشعر بالإحباط في المزبلة" - ماذا، بالضبط، أين هي هذه " المزبلة؟ " من ظل يعرف؟ - "اذهب في نزهة سريعة!" وهذه لم تتم كتابتها. إنها تحوم في الهواء، بصوت أمهم. كصدى.
لا أستطيع السير في نزهة مُنعشة، نيل تخبر والدتها بصمت. أصبع قدمي، أتذكرين؟ لا يتسنى لك إصلاح كل شيء، ترغب بأن تضيف، مع أن والدتها مدركة للأمر. جلست في المستشفى ريثما كان هو على الأرجح يحتضر - "هو" مجددًا تشير نيل لوالدها، مرة حول الفؤوس، مرة واحدة حول المناشير المتقاطعة، مرة واحدة حول الخلاعات – والدتها قالت، "لن أبكي، لأنني إذا ما بدأت فيستحيل أن أكون قادرة على التوقف "
***
اليوم الأسبق لمغادرة نيل وليزي للمدينة، نيل صادفت ملاحظة كتبها تيج من تاريخ طويل سلفًا، لما الإثنين معًا ثبتا ناموسيات فوق الأسرة كخدمة مجتمعية. البعوض يبدو سميكًا أشبه بالفراء على السطح الخارجي للغربال، خاصة في يونيو؛ قد يحشروا أنفسهم عبر أصغر الشقوق. وبمجرد دخولهم، يطنوا أنينًا. حتى إذ ما رششت طارد البعوض، فهم غير عاجزين عن افساد ليلتك.
"ناموسية بشبكة واسعة: في نهاية موسم الحشرات، ينبغي أن توظب الشبكة الكبيرة في هذه الحقيبة. الإطار الخشبي، حال انهياره، يتم إدراجه في الحيز الداخلي للحقيبة الخضراء - شكرًا. "
أيه حقيبة خضراء؟ تتعجب. المحتمل أنها موبوءة بالعفن الفطري وأهملها أحدهم. في جميع الأحوال، لا أحد على الاطلاق تتابع تعليمات تيج؛ شبكة الناموسية بكل بساطة تترك في محلها وتربط برزمة إذا ما لم تستخدم.
نيل تسوي قطعة الورق بحرص وتخزنها في حقيبتها. هي رسالة تركها تيج لتجدها. التفكير سحري، تعلم ذلك بالتمام جيدًا، عدا انها تنغمس فيه، على أي حال، بسبب تعزيته. ستأخذ قطعة الورق هذه لتعود للمدينة، لكن ماذا ستفعل بها هناك؟ ماذا يفعل المرء بهذه الرسائل المشفرة من الموتى؟ ♦
[ترجمة راما مشارقة، عن مجلة النيويوركر].