روبرت دبليو.ميتشيزني
إن النيوليبرالية هي النموذج السياسي الاقتصادي المعرِّف لزمننا، ويشير إلى السياسات والعمليات التي يُسمح من خلالها لعدد قليل نسبياً من القوى الخاصة بالسيطرة قدر الإمكان على الحياة الاجتماعية من أجل رفع فائدتها الشخصية إلى الحدود العليا. كانت الليبرالية الجديدة مرتبطة في البداية بـريغن وتاتشر، وكانت في العقدين السابقين التيار الاقتصادي السياسي العالمي المهيمن الذي تبنته أحزاب الوسط وكثير من أحزاب اليسار التقليدية بالإضافة إلى أحزاب اليمين. وكانت هذه الأحزاب والسياسة التي تبنتها تمثل المصالح المباشرة لمستثمرين أثرياء جداً ولأقل من ألف شركة كبيرة.
كانت معرفة مصطلح النيوليبرالية مقتصرة على بعض الأكاديميين وأعضاء جماعة قطاع الأعمال، ولم يكن معروفاً على نطاق واسع، ولا تتداوله الجماهير بصورة عامة، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث كانت المبادرات النيوليبرالية تُصور كسياسات حرية سوق تشجع المشروع الخاص وخيار المستهلك، وتكافئ المسؤولية الشخصية والمشاريع الخاصة، وتحارب التدخل الحكومي وتعدّه غير كفء، وبيروقراطياً وطفيلياً، لا يستطيع أبداً أن يفعل الخير حتى ولو كانت نيته سليمة، ولكنّ هذا لم يكن صحيحاً. وقد منح جيل من جهود العلاقات العامة الممولة من الشركات هذه المصطلحات والأفكار هالة تقارب القداسة. وكانت النتيجة هي أن هذه الأفكار نادراً ما اقتضت دفاعاً، واستخدمت كي تعقلن أي شيء من خفض الضرائب على الأغنياء وانتهاك قوانين البيئة إلى القضاء على التعليم العام وبرامج الرفاه الاجتماعي. والواقع أنّ أي نشاط يمكن أن يتدخل في هيمنة الشركات على المجتمع يصبح عرضة للشبهة على نحو آلي، وذلك لأنه يتدخل في أشغال حرية السوق المصورة على أنها الموزع الوحيد العقلاني والعادل والديمقراطي للسلع والخدمات. ويصور أنصار النيوليبرالية أنفسهم كأنهم يقدمون للفقراء وللبيئة وللجميع خدمة كبيرة بينما هم في الواقع يصنعون سياسات لصالح القلة الثرية.
كانت العواقب الاقتصادية لهذه السياسات متماثلة تقريباً في جميع الأمكنة، وهي بالضبط ما سيتوقعه المرء: تعاظم كبير في اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، وازدياد ملحوظ في البؤس الشديد لأمم وشعوب العالم الأكثر فقراً، بيئة عالمية مهددة، واقتصاد عالمي غير مستقر وثراء غير مسبوق للأثرياء. وحين يُواجَهون بهذه الحقائق، يدّعي المدافعون عن النيوليبرالية أن غنائم الحياة الجيدة ستنتشر بالتدريج وتصل إلى الكتلة الأوسع من السكان طالما أن السياسات التي تفاقم هذه المشكلات لا يتم التدخل بها!
في النهاية لا يستطيع الليبراليون الجدد أن يدافعوا علمياً عن العالم الذي يصنعونه ولا يحاولون ذلك. إنما، على العكس يقدمون (كلاّ يطلبون) إيماناً دينياً بعصمة السوق غير المقيدة، المستمدة من نظريات القرن التاسع عشر، التي لا تمتلك إلا صلة ضعيفة بالعالم الواقعي. فالورقة الرابحة المطلقة للمدافعين عن النيوليبرالية، هي أنه ليس هناك بديل. فالنيوليبراليون يعلنون أن المجتمعات الشيوعية، والأنظمة الديمقراطية الاجتماعية، وحتى دول الرفاه الاجتماعي المقبولة مثل الولايات المتحدة فشلت كلها، وقَبلَ مواطنوها النيوليبرالية على أنها النهج العملي الملائم الذي يمكن أن يكون غير كامل لكنه النظام الاقتصادي الوحيد الممكن.
دعا بعض النقاد في أوائل القرن العشرين الفاشية بأنها "الرأسمالية وقد نزعت قفازيها"، وعنوا بهذا أن الفاشية كانت رأسمالية صرفة دون حقوق ومنظمات ديمقراطية. والواقع أن الفاشية هي أكثر تعقيداً من هذا بكثير. فالنيوليبرالية هي بالفعل "رأسمالية نزعت قفازيها". وتمثل مرحلة زمنية تكون فيها قوى التجارة أكثر قوة وعدوانية، وتواجه معارضة منظمة أقل من قبل. وفي هذا المناخ السياسي تحاول تشفير قوتها السياسية على جميع الجبهات الممكنة وبالتالي تزيد باستمرار من صعوبة تحدي التجارة وتجعل وجود القوى الديمقراطية غير التجارية وغير المرتبطة بالسوق تالياً للمستحيل.
نلاحظ كيف تشتغل النيوليبرالية ليس كنظام اقتصادي وحسب وإنما كنظام سياسي وثقافي أيضاً من خلال قمعها للقوى غير المرتبطة بالسوق. وهنا نرى أن الفروق بينها وبين الفاشية واضحة جداً، وذلك بسبب احتقارها للديمقراطية والحركات الاجتماعية ذات التعبئة العالية المستندة إلى العرق والقومية. وتعمل النيوليبرالية بصورة أفضل حين تكون هناك ديمقراطية انتخابية شكلية، ولكن بعد أن يتم إبعاد الشعب عن المعلومات والمدخل إليها وعن المنتديات العامة الضرورية للمشاركة الهادفة في صناعة القرار. عبّر عن ذلك المعلم الروحي للنيوليبرالية ملتون فريدمان في كتابه "الرأسمالية والحرية" حين قال: "لأن صناعة الربح هي جوهر الديمقراطية، فإن أية حكومة تتبنى سياسات معارضة للسوق هي معادية للديمقراطية، مهما كان حجم الدعم الشعبي الذي يمكن أن تتمتع به. بناء على ذلك، من الأفضل أن يقتصر دور الحكومات على وظيفة حماية الملكية الخاصة وفرض العقود، وحصر الجدل السياسي في مسائل ثانوية. أما المسائل الحقيقية كإنتاج الثروة وتوزيعها والتنظيم الاجتماعي فينبغي أن تحددها قوى السوق".
لا يشعر نيوليبراليون مثل فريدمان، من الذين يمتلكون فهماً فاسداً للديمقراطية كهذا الفهم بوخز الضمير حيال الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة ألليندي التشيلية المنتخبة ديمقراطياً في سنة 1973، لأن ألليندي كان يتدخل في تحكم قطاع رجال الأعمال بالمجتمع التشيلي. وبعد خمس عشرة سنة من الدكتاتورية المتوحشة والبدائية باسم حرية السوق الديمقراطية تمت استعادة الديمقراطية الشكلية في سنة 1989 بدستور جعل من الصعب جداً على المواطنين، إن لم يكن من المستحيل، أن يتحدّوا هيمنة قطاع رجال الأعمال والجيش على المجتمع التشيلي. وتركز هذه الديمقراطية النيوليبرالية المتحكّم بها على جدل تافه حول مسائل ثانوية تقوم به أحزاب تتبنى بصورة أساسية السياسات الداعمة لقطاع رجال الأعمال بصرف النظر عن الفروق الشكلية وجدل الحملة. إن الديمقراطية مسموح بها طالما أن السيطرة على قطاع الأعمال بعيدة عن تفكير السكان أو لا يطالها التغيير؛ أي طالما أنها ليست ديمقراطية. بناء على ذلك، للنظام النيوليبرالي منتجٌ فرعي مهم وضروري: مواطنون محرومون من السياسة يتسمون باللامبالاة والسينيكية. وإذا ما أثّرتْ الديمقراطية الانتخابية في قليل من الحياة الاجتماعية، فمن غير العقلاني تخصيص الكثير من الانتباه لها؛ وفي الولايات المتحدة، الأرض التي تتناسل فيها الديمقراطية النيوليبرالية، تبين أن عدد الناخبين في انتخابات الكونغرس في سنة 1998 كان متدنياً جداً بشكل مثير للجدل، ولم يذهب أكثر من ثلث الناخبين المؤهلين للانتخاب إلى صناديق الاقتراع. ورغم أن هذا الأمر يسبب أحياناً قلقاً لدى تلك الأحزاب العريقة كالحزب الديمقراطي الأميركي الذي يميل إلى جذب المعدمين فإن قلّة عدد الناخبين تلقى أحياناً قبولاً وتشجيعاً من القوى الموجودة كشيء جيد جداً بما أن غير الناخبين هم على نحو غير مفاجئ يوجدون بشكل متفاوت بين الفقراء والطبقة العاملة. فالسياسات التي تستطيع زيادة اهتمام الناخب ونسب المشاركة بسرعة تُعرقل حتى قبل الدخول في الساحة العامة. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، رفض الحزبان الرئيسان اللذان يهيمن عليهما قطاع رجال الأعمال، والمدعومان من أصحاب الشركات، أن يصلحا القوانين التي تجعل من المستحيل عملياً تأسيس أحزاب سياسية جديدة (يمكن أن تروق للمصالح غير المرتبطة بقطاع الأعمال) وجعلها نافذة. ورغم أن هناك سخطاً واضحاً لوحظ بصورة متكررة بين الجمهوريين والديمقراطيين فإن سياسة الانتخاب هي أحد المجالات التي ليس فيها لمفاهيم التنافس والاختيار الحر دور يُذكر. وفي بعض النواحي يميل عيار الجدل والاختيار في الانتخابات النيوليبرالية إلى أن يكون أقرب إلى انتخابات الدولة الشيوعية ذات الحزب الواحد منه إلى الديمقراطية الحقيقية. غير أنه نادراً ما يشير هذا إلى تعقيدات النيوليبرالية المؤذية للثقافة السياسية المتمركزة مدنياً. من ناحية، إن اللامساواة الاجتماعية الناجمة عن السياسات النيوليبرالية تقضي على أية محاولة لتحقيق المساواة القانونية الضرورية لجعل الديمقراطية موثوقة. فالشركات الضخمة تمتلك موارد للتأثير بالإعلام وللهيمنة على العملية السياسية، وتفعل ذلك بسبب هذا الأمر. ولنقدم مثالاً واحداً وحسب يتعلق بالسياسة الانتخابية الأميركية: إن الربع الأغنى من واحد بالمائة من الأميركيين يقوم بثمانين بالمائة من كل التبرعات المالية السياسية الفردية والشركات تبز العمال بهامش 10 مقابل 1. كل هذا له معنى في ظل النيوليبرالية، بما أن الانتخابات تعكس مبادئ السوق، وتُساوى التبرعات بالاستثمارات. بناء على ذلك، تُجرّد السياسة الانتخابية من أهميتها بالنسبة لمعظم الناس وتقوّي حكم الشركات غير القابل للتشكيك.
من ناحية أخرى، كي تكون الديمقراطية فعالة يتطلب هذا أن يشعر الناس بروابط مع أخوتهم المواطنين، وأن تتجلى هذه الروابط من خلال مؤسسات ومنظمات مختلفة غير مرتبطة بالسوق. ذلك أن ثقافة سياسية نابضة بالحياة تحتاج إلى جماعات ومكتبات ومدارس عامة ومنظمات أهلية وتعاونيات وأماكن عامة للاجتماعات وجمعيات طوعية ونقابات عمال لتقديم طرق للمواطنين من أجل الاجتماع والاتصال والتفاعل مع زملائهم من المواطنين الآخرين. إن الديموقراطية النيوليبرالية، بفكرتها عن هيمنة السوق على كل شيء، تقوم بتسديد قاتل على هذا القطاع. فبدلاً من المواطنين، تنتج مستهلكين، وبدلاً من الجماعات تنتج مراكز تسوق. النتيجة النهائية هي مجتمع منقسم إلى ذرات من الأفراد غير الملتزمين يشعرون بأنهم فاسدون أخلاقياً وضعفاء اجتماعياً.
باختصار، إن النيوليبرالية هي العدو المباشر والأول للديمقراطية الأصيلة القائمة على المشاركة، ليس في الولايات المتحدة وحسب وإنما في أرجاء الكوكب أيضاً، وستكون كذلك في المستقبل المنظور.
إن نعوم تشومسكي هو الشخصية الفكرية البارزة في العالم اليوم الذي يخوض المعركة من أجل الديمقراطية وضد النيوليبرالية. في الستينيات، كان تشومسكي ناقداً أمريكياً بارزاً لحرب فيتنام، فضلاً عن ذلك ربما أصبح المحلل الأكثر عمقاً للطرق التي تدمر بها السياسة الخارجية الأميركية الديمقراطية، وتسحق حقوق الإنسان، وتعزز مصالح القلة الثرية. وفي السبعينيات قام تشومسكي هو والكاتب إدوارد.إس. هرمان. ببحثهما حول كيف يخدم الإعلام الأميركي مصالح النخبة ويدمر قدرة المواطنين على أن يحكموا فعلياً حيواتهم بطريقة ديمقراطية. ويبقى كتابهما الصادر في سنة 1988 بعنوان صناعة الإذعان، نقطة الانطلاق لأي بحث جاد حول أداء الإعلام.
كان يمكن أن يُوصف تشومسكي طوال تلك الأعوام، بأنه فوضوي، أو ربما بدقة أكبر، بأنه اشتراكي تحرري، ومعارض ديمقراطي صريح ومبدئي ومتماسك وناقد للدول والأحزاب السياسية الشيوعية واللينينية. وقد علّم عدداً لا يُحصى من الناس، وبينهم أنا نفسي، أن الديمقراطية حجر زاوية غير قابل للتفاوض لأي مجتمع ما بعد رأسمالي جدير بأن نعيش فيه أو نقاتل من أجله. في الوقت نفسه أوضح عبث مساواة الرأسمالية بالديمقراطية أو التفكير بأن المجتمعات الرأسمالية حتى في أفضل الظروف ستقدم مدخلاً إلى المعلومات أو صناعة القرار خارج الإمكانيات الأكثر ضيقاً وخضوعاً للسيطرة. وأشك بأن أي مؤلف، بصرف النظر عن جورج أورويل ربما، قارب تشومسكي في الفضح المنظم لنفاق الحكام والأيديولوجيين في كل من المجتمعات الشيوعية والرأسمالية حين يزعمون أن صيغتهم هي الصيغة الأفضل للديمقراطية السليمة المتاحة للبشرية.
في التسعينيات، تقاطعت خيوط جميع مؤلفات تشومسكي السياسية، من نقده للإمبريالية والتحليل النقدي للإعلام إلى الكتابة عن الديمقراطية والحركة العمالية، في هذا الكتاب الذي يتحدث عن الديمقراطية والتهديد النيوليبرالي. فعل تشومسكي الكثير كي يبلور من جديد فهماً للمتطلبات الاجتماعية للديمقراطية مستمداً من اليونانيين القدماء بالإضافة إلى المفكرين البارزين للثورات الديمقراطية في القرنين السابع والثامن عشر. وكما يوضح، من المستحيل أن تكون مناصراً للديمقراطية القائمة على المشاركة وفي الوقت نفسه نصيراً للرأسمالية، أو أي مجتمع آخر منقسم طبقياً. وفي تقييمه للصراعات التاريخية الحقيقية من أجل الديمقراطية، يكشف تشومسكي أيضاً كيف أن النيوليبرالية لا تكاد تكون شيئاً جديداً، وإنما مجرد نسخة حالية من معركة القلة من الأثرياء كي يقيدوا حقوق الشعب السياسية وقواه المدنية.
ربما كان تشومسكي أيضاً الناقد البارز لميثولوجيا حرية السوق "الطبيعية"، تلك الترنيمة المبهجة التي تتردد في أذهاننا حول كيف يكون الاقتصاد تنافسياً وعقلانياً وفعالاً وعادلاً. وكما يشير تشومسكي، ليست الأسواق تنافسية أبداً. فالشركات الضخمة تسيطر على معظم الاقتصاد وتتحكم بأسواقها بشكل كبير وبالتالي تواجه قليلاً من التنافس من النوع الموصوف في المقررات الاقتصادية المدرسية وخطابات السياسيين. زيادةً على ذلك، إن الشركات نفسها هي منظمات توتاليتارية قوية تعمل على خطوط غير ديمقراطية. وبما أن اقتصادنا يتمحور حول مؤسسات كهذه فإنّ هذا يعرض قدرتنا على بناء مجتمع ديمقراطي لخطر شديد.
تؤكد ميثولوجيا حرية السوق أن الحكومات مؤسسات غير فعالة ويجب أن تُقيد بحيث لا تؤذي سحر السوق الطبيعي القائم على عدم التدخل في شؤونه. وكما يؤكد تشومسكي، إن الحكومات أساسية للنظام الرأسمالي الحديث. فهي تمول الشركات بترف وتعمل على دعم مصالحها على جبهات عديدة. والشركات نفسها التي تتبنى أيديولوجيا نيوليبرالية هي في الحقيقة منافقة غالباً: تريد من الحكومات وتتوقع منها أن تمرر إليها دولارات الضرائب أو أن تحمي أسواقها من التنافس ولكنها لا تريد أن تفرض عليها الحكومات الضرائب أو تدعم مصالح أخرى غير مصالح قطاع رجال الأعمال وخاصة مصالح الفقراء والطبقة العاملة. والحكومات هي أكبر من قبل، ولكن في ظل النيوليبرالية تبدو كأنها لا تهتم إلا بخدمة مصالح الشركات.
لا تتوضح مركزية الحكومات وصناعة السياسة كما تتوضح في بزوغ اقتصاد السوق في العالم. فما يقدمه الأيديولوجيون المناصرون للتجارة، على أنه التوسع الطبيعي لحرية الأسواق عبر الحدود، هو النقيض تماماً. فالعولمة ناجمة عن قيام الحكومات القوية، وخاصة حكومة الولايات المتحدة، بإدخال الصفقات التجارية واتفاقيات أخرى داخل حناجر سكان العالم من أجل تسهيل هيمنة الشركات والأثرياء على اقتصاد الأمم في أنحاء العالم دون أن يكون لهذه الشركات وللأثرياء التزامات إزاء شعوب تلك الأمم. وليست العملية واضحة في أي مكان على غرار وضوحها في تأسيس منظمة التجارة العالمية في أوائل التسعينيات، وفي المداولات السرية لصالح الاتفاقية متعددة الأطراف حول الاستثمار.
ومن سمات النيوليبرالية الأكثر بروزاً هي عدم القدرة على القيام بمناقشات صادقة وصريحة وبمجادلات حولها. فنقد تشومسكي للنظام النيوليبرالي محرّم في تحليل إعلام الاتجاه السائد رغم قوته العلمية، بسبب التزامه بالقيم الديمقراطية. يقودنا هذا إلى أن تحليل تشومسكي للنظام العقائدي في الديمقراطيات الرأسمالية مفيد. فإعلام نظام الشركات، وصناعة العلاقات العامة، والإيديولوجيون الأكاديميون وأدبيات الثقافة الفكرية يلعبون دوراً محورياً في تقديم "الأوهام الضرورية" لجعل هذا الموقف الكريه يظهر عقلانياً وخيِّراً وضرورياً إن لم يكن مرغوباً بالضرورة. وكما يُسرع تشومسكي كي يشير، هذه ليست مؤامرة شكلية من قبل مصالح قوية: ولا تحتاج إلى أن تكون. فهي ترسل، من خلال آليات مؤسساتية متنوّعة، إشارات إلى المفكرين والنقاد والصحفيين تدفعهم إلى رؤية الوضع القائم على أنه أفضل العوالم الممكنة، وبعيد عن تحدي أولئك الذين يستفيدون من الوضع القائم. إن أعمال تشومسكي نداء مباشر للناشطين الديمقراطيين كي يعيدوا صناعة نظامنا الإعلامي بحيث ينفتح على المنظورات والبحث المضاد للشركات والنيوليبرالية. إنه تحد أيضاً لجميع المفكرين، أو على الأقل لأولئك الذين يعبرون عن التزام بالديمقراطية، كي يقوموا بنظرة متفحّصة، قاسية في المرآة ويسألوا أنفسهم: من أجل مصالح من، ولأجل أية قيم يقومون بأعمالهم.
إن وصف تشومسكي للسيطرة النيوليبرالية التي تقوم بها الشركات على اقتصادنا وحكومتنا وصحافتنا وثقافتنا قوي جداً وشامل بحيث يمكن أن يسبب لبعض القراء إحساساً بالاستقالة. ويمكن للبعض في أزمنتنا السياسية الفاسدة أخلاقياً أن يقوموا بخطوة إلى الأمام ويستنتجوا أننا واقعون في شرك هذا النظام الانكفائي لأن البشرية، للأسف، هي غير قادرة على بناء نظام اجتماعي أكثر إنسانية ومساواة وديمقراطية.
يمكن أن يكون إسهام تشومسكي الأعظم هو إصراره على التوجهات الديمقراطية الجوهرية لشعوب العالم، والطاقة الثورية الكامنة في تلك الدوافع. فالدليل الأفضل على هذه الطاقة هو الحد الذي تذهب إليه قوى الشركات لتمنع الديمقراطية السياسية الحقيقية. فحكام العالم يفهمون ضمنياً أن نظامهم هو نظام مؤسس كي يلبي احتياجات القلة، وليس الكثرة، بناء على ذلك لا يُسمح للكثرة بالتشكيك بحكم الشركات أو تبديله. حتى في الديمقراطيات المعرقلة الموجودة، تعمل جماعة الشركات بلا توقف كي تمنع أي نقاش علني لمسائل مهمة مثل الاتفاقية متعددة الأطراف حول الاستثمار. وتنفقُ جماعة الأعمال ثروة لتمويل جهاز علاقات عامة لإقناع الأميركيين أن هذا هو أفضل العوالم الممكنة. فزمن القلق من إمكانية التغير الاجتماعي نحو الأفضل، وفقاً لهذا المنطق، سيبدأ حين تهجر جماعة الشركات العلاقات العامة وشراء الانتخابات، وتسمح بإعلام تمثيلي وتكون مرتاحة لتأسيس ديمقراطية قائمة على المشاركة والمساواة لأنها لم تعد تخشى قوة الكثرة. لكن ليس هناك سبب للتفكير بأن هذا اليوم سيأتي.
إن رسالة النيوليبرالية الأكثر صخباً هي أنه ليس هناك بديل للوضع القائم، وأن التاريخ البشري وصل إلى نهايته. ويشير تشومسكي إلى أنه كانت هناك عدة فترات أخرى صُورت كأنها "نهاية التاريخ" في الماضي. ففي العشرينيات والخمسينيات، على سبيل المثال، ادعت النخب الأميركية أن النظام كان يعمل وأن القبول الجماهيري كان يعكس رضا واسع الانتشار بالوضع القائم. لكن الأحداث بيّنتْ فيما بعد سخف تلك المعتقدات. وأعتقد أنه حالما تسجل القوى الديمقراطية بضعة انتصارات ملموسة فإن الدم سيعود إلى شرايينها، وسينتهي الحديث عن عدم وجود أمل ممكن للتغيير كما انتهت جميع أوهام النخب السابقة حول كون حكمهم المجيد سيستمر لألفية.
إن فكرة عدم وجود بديل أفضل من الوضع القائم هي أكثر بعداً عن الصحة مما كانت عليه من قبل، في هذه المرحلة حيث يوجد تكنولوجيا مذهلة لتحسين الوضع البشري. صحيح أنه يبقى من غير الواضح كيفية بناء نظام ما بعد رأسمالي قابل للتطبيق وحر وإنساني، والفكرة ذاتها تبدو كأنها طوباوية. لكن كل تقدم في التاريخ، من إلغاء العبودية وبناء الديمقراطية إلى إنهاء الاستعمار، كان عليه أن يتغلب على فكرة أنه عند نقطة ما كان من المستحيل فعل ذلك لأنه لم يُفعل أبداً من قبل. وكما يسرع تشومسكي كي يشير، إن النشاط السياسي المنظم مسؤول عن مستوى الديمقراطية الذي نمتلكه اليوم، وعن حق اقتراع البالغين الكوني وعن حقوق النساء والنقابات العمالية والحريات التي نتمتع بها. حتى ولو بدت فكرة مجتمع ما بعد رأسمالي غير قابلة للتحقق، نحن نعرف أن النشاط البشري السياسي يستطيع أن يجعل العالم الذي نعيش فيه أكثر إنسانية بكثير. وحين نصل إلى تلك النقطة، ربما سنكون قادرين مرة أخرى على التفكير ببناء اقتصاد سياسي مستند إلى مبادئ التعاون والمساواة والحكم الذاتي والحرية الفردية.
وحتى يحين ذلك الوقت، لن يكون الصراع من أجل التغير الاجتماعي مسألة زائفة. فالنظام النيوليبرالي الحالي أنتج أزمات سياسية واقتصادية كبيرة من شرق آسيا إلى أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية. أما نوعية الحياة في البلدان المتطورة مثل أوروبا واليابان وأميركا الشمالية فهي هشة والمجتمعات في اضطراب واضح. وعلى العموم، ثمة تنبؤ بثوران هائل في السنوات والعقود القادمة. وهناك شك معتبر حول نتيجة الثوران وسبب قليل للتفكير بأنه سيقود آلياً إلى حل ديمقراطي وإنساني. سيتحدد هذا من خلال كيف نحن السكان سنتنظم ونستجيب ونفعل. وكما يقول تشومسكي: إذا تصرفت كما لو أنه ليس هناك إمكانية للتغيير نحو الأفضل فإنك تضمن أنه لن يكون هناك تغيير نحو الأفضل. إن الخيار خيارنا، إن الخيار خيارك.
[ترجمة: أسامة إسبر، عن Noam Chomsky, Profiting over the People, Neoliberalism and the Global Order].