سلطان القيسي
(خطوط للنشر، عمّان، 2021)
[شاعر ومقدم برامج تلفزية فلسطيني أردني ولد في عمّان. له كتابات شعرية وترجمات، وحاصل على جوائز أدبية].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
سلطان القيسي (س. ق.): "هدنة لمراقصة الملكة" هو طقس تاريخي يتسلل إلى المستقبل، وهو بالمناسبة نتيجة لاستفزاز شعري أوحت لي به الملكة "أليسار"، ملكة فينيقية، من أحفاد الكنعانيين، تمكنت من الهروب من صور إلى تونس، بعد خيانة أخيها لها واستيلائه على المملكة، ثم كونت مملكة هائلة في قرطاج، أصبحت محجًّا حضاريًّا.
هذه المرأة بكل تمثلاتها، كملكة وكزوجة قتيل، وكحكيمة، وكرمز كنعاني تاريخي، وكحلقة اتصال بين المشرق والمغرب، وكجدة لهانيبال أول قائد يستطيع احتلال روما، فتحت بابًا لإسقاط الرمز التاريخي العربي أو الشرق أوسطي على نصوص الكتاب المشغولة في القرن الحادي والعشرين، ولذلك ظلال قادرة على تغيير الألوان وربما القناعات، تطور النص ليبلغ مشكلات المرأة اليوم، ما تواجهه مع المجتمع، وما يقف وراءه من ظروف أكبر من المجتمع نفسه، الكتاب يشرح هوية المرأة في الشرق الأوسط، ثم بعد ذلك يصور من بعيد الرجل في المنطقة ذاتها، وفي المنتصف يوغل في بعض تفاصيل المجتمع بمكونيه، الرجل والمرأة معًا.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(س. ق.): الكتاب مقسم لثلاثة فصول، على شكل رحلة في مترو، لنقل إنها ثلاث محطات، وهي:
"رحلة الملكة"، وتختص نصوصه بالمرأة العربية أو الشرق أوسطية، وثمة نصوص مكتوبة على لسانها، إذ تلعب فيها دور المتكلم، لأنه فصلها الذي استحقت أن تقول فيه ما تريد، وقد حاورتها النصوص ثقافيًّا وجسديًّا وعاطفيًّا.
و"شرق أوسطيون في المترو"، وقد جمع مشاهدات مأساوية من واقع أهل المنطقة، على الصعد السياسية والثقافية، انعكاسات ذلك عاطفيًّا ونفسيًّا أيضًا.
و"شؤون خاصة في المحطة العامة"، الفصل الذي يقول شعرًا عن كل شيء، وعن الشعر أيضًا.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(س. ق.): اخترت أن أسميه "تجربة" لا شعر ولا نثر، لأنه مواصلة لتجربة بدأتها في المجموعة السابقة "بائع النبي"، عبر إفساح المجال للغة اليوم، لأدوات اليوم التي وردت إلى لغتنا بهويات جديدة، كالموبايل والإنترنت والسيارة الهايبرد، وفي "الهدنة" يأتي التاريخ بلغة اليوم، حيث يأخذ القديس جورج "سيلفي" مع التنين.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(س. ق.): مسؤولية المزاوجة بين اللغة الجديدة والقص التاريخي، كانت صعبة عند التفكير في المتلقي، عليك أن تنتج صورة حلوة، وطقسًا جاذبًا، تمتع خلاله القارئ سواء أراد أن يقوم بالبحث عن القصة، أو لم يرد، إن أراد فقد يحصل على معرفة، وأعتقد دائمًا بأنها واحدة من مهام الشعر، وإن لم يرد فعلى القصيدة ألا ترغمه على ذلك، أن يستمتع دون الحاجة إلى مرجع بجانب الكتاب، هذه مسؤولية شكلت أحيانًا تحديًا.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(س. ق.): الكتابة مراكمة للحذف، بقدر ما تحذف تكتب، صدر لي منذ 2011 ثلاث مجموعات شعرية، فاكتشفت أنني تمكنت من تكوين مجموعة واحدة فقط كل خمس سنوات، وأنا راض بذلك، عام 2011 صدر لي "أؤجل موتي" وعام 2016 "بائع النبي"، و"هدنة لمراقصة الملكة" صدر في 2021.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(س. ق.): أتأثر بالقراءة، لكن القراءة ليست مقترنة بالنصوص فحسب، إنما بكل ما يتحرك أو يسكن حولك، هناك نصوص يكتبها شعراء، وأخرى يكتبها الماوراء، تأتي على هيئة مشاهد أو مواقف، وعلى اختلافها أثرت فيّ وتؤثّر، وأظنها سوف تبقى تؤثر أيضًا.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(س. ق.): أفكر بأبطال النص، أحيانًا أكون أنا القارئ ذاك، وأحيانًا أكون هامشًا بدور ثانوي، حينها أفكر بقارئ قادر على إبقائي في الهامش، والتعامل مع النص، رأسًا إلى رأس.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(س. ق.): شعريًّا أفكر في الذهاب إلى مجموعة جديدة تكون جميع نصوصها موزونة، شيء من العودة إلى الشكل التقليدي، مع إلباسه زيًّا حداثويًّا، المبنى لا يعيق المعنى فيه، قد أواصل هذه الرغبة وقد أتخلى عنها في أي وقت.. لدي أيضًا عمل سردي، أتمنى ألا نخيب بعضًا، أنا وهو، قبل أن يخرج إلى الحياة.
مقتطف من الكتاب
مقام شرق أوسطي
في الشرق،
في الشرق الأوسط طبعا،
حيث الصبايا، بقاماتهن المتوسطة، يحاولن التقاط سحابات أحلامهن،
وحيث الرجال يركضون بدمائهم الحارة وراء الضجر،
الذي يرمي الحصى على الشبابيك طوال الليل.
هنا،
بدا حبُنا طيبا، وجريحا، وصامتا، وغوغائيا،
ومتبجحا، ويضرب بأسياف الأسلاف الطيبين،
الذين فتحوا الأندلس، وبنوا شُققا مع الأمازيغ،
واستعادوا الصليب من الروم، والخيمة من الفرس.
بدا حبُنا طيبا وفخورا بجيناته التي توقعه دائما في عاطفته الساذجة، وفي الهتاف للضحية والجلاد في لحظة واحدة.
في الشرق،
في الشرق الأوسط طبعا،
حيث البنات، في حالة انتظار دائم،
ينتظرن الحب؛ فالمبادرة منقصة
وينتظرن دورهن في الحديث؛ فمقاطعة الرجال من صفات الرجال
وينتظرن أن ينتهي الآخرون من تناول الطعام؛ لأسباب كثيرة يعزوها المحللون لاختلاف الهرمونات باختلاف الجنس
وينتظرن الدورة الشهرية؛ لينتظرن ذهابها
وينتظرن "العريس"، وينتظرن "الولد".
الولد،
الذي سينتظرنه طويلا بعد الولادة،
كلما شبّت معركة في حديقة الدار،
أو على حدود البلاد،ومرات كثيرة، يعود شهيدا،
لكنهن ينتظرنه بعد ذلك أيضا..
في الشرق،
في الشرق الأوسط، تزوجت
لدي امرأة ببشرة بيضاء، وعينين كعيني يسوع المسيح، عسليتين، وقلب كثير الخدوش كالكشتبان،
تحفظ وصايا أمي دون أن تمليها،
وتنجب أولادا بدماء حارة يلحقون الضجر بالعصي،
ويلبسون الجينز ويلعنون أميركا ليل نهار، ومتعلقون مثلي بموسيقى الروك والبلوز، والهوت جاز، والطرب الشرقي الأصيل،
على حد سواء..
هنا،
تزوجت، ولم أعد أذكر من العرس، سوى زغرودة أمي،
وهي تختلط بموسيقى أوروبية،
ونحن ندخل القاعة والحياةَ التي تتسلق جدران "الأبارتهايد" بجد نملة،
في الشرق الأوسط،
هنا.
فانتازيا الموت
ليس شعرا ما يُكتب عن الحرب في الحرب،
فانتازيا الموت، أكبر من أن تُحصر في قصيدة،
أنشغل اليوم بقطرة ماء،
وقعت عن جسد امرأة مرت في خيالي مسرعة،
باحثة عن منشفة،
أشكّل الماء: ضحكةً، أو وردةً، أو لهاثاً،
حتى يجف، أو يهدأ سُعار الحرب..
في المرة الأخيرة،
نسيت أن أسرق شامة عن ظهر امرأة،
لتضيء ليل اللاجئين،
نسير الآن في العتمة، ونتذكر:
أكانت شامتك أسفل الكتف اليمنى؟
وتقولين: بل وراء القلب،
القلب الذي ظل في الخزانة،
الخزانة التي ظلت في البلاد،
البلاد التي ظلت في القلب،
القلب الذي ظل في الخزانة،
الخزانة التي ظلت في البلاد،
البلاد التي ظلت..
إلخ.. إلخ..
كلما أعدتِ هذه المتتالية، أعدتِ ظعننا إلى مبتداه،
فلا نحن نصل إلى منفى يليق بمتاعنا القليل،
ولا نحن نرجع إلى البلاد،
البلاد التي ظلت في القلب،
القلب الذي ظل في الخزانة،
مجدُ الهامش
أبحثُ عن اسمي،
بين هذه البنادق المشهرة في الوجوه،
والابتسامات، والبيوت،
أبحث عن وجهي، في الصور التذكارية، واللغات القديمة،
أبحث عنه في خطابات السادة، وفي أغاني العامة.
أبحث عن أي رصاصة، تنطلق باسمي،
عن أي شعار يشبه أمثال أمي،
عن أي صوت أستأنس به استئناس الولد بأبيه،
أبحث عن شهداء يشبهونني، في صفوف القتلة،
عن منتصرين يشبهونني في صفوف الشهداء..
حتى الآن، لم أجد طريقا يلمع في آخره أمل اللقاء،
إلا هناك، بين جثث أحياء الهامش،
الذين قتلتهم اللامبالاة!