حوار مع ألان غريش: سياسة فرنسا الخارجية، تجارة السلاح، انتصار أفكار اليمين المتطرف وانهيار اليسار

[مقطع من الحوار] [مقطع من الحوار]

حوار مع ألان غريش: سياسة فرنسا الخارجية، تجارة السلاح، انتصار أفكار اليمين المتطرف وانهيار اليسار

By : Bassam Haddad

حوار مع الكاتب والصحفي الفرنسي ألانن غريش الذي عمل رئيساً لتحرير لوموند ديبلوماتيك من ١٩٩٥ إلى ٢٠٠٥، ومحرر OrientXXI التي أسسها في ٢٠١٣. من كتبه المترجمة إلى العربية "الإسلام والجمهورية والعالم"، الصادر عن دار الساقي في بيروت، و"علام يُطلق اسم فلسطين؟" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٢).

أجرى الحوار بسام حداد، الباحث في الاقتصاد السياسي ومدير برنامج دراسات الشرق الأوسط بجامعة جورج ماسون، والمحاضر في كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة جورج ماسون، والأستاذ الزائر بجامعة جورجتاون. يشغل أيضاً منصب المحرر المؤسس لمجلة الدراسات العربية، ومؤسس بالشراكة لموقع جدليّة، ومجلة الوضع الصوتية.

حول الحوار

التقيت بألان غريش في بيته في باريس لمناقشة عدد من المواضيع التي شملت العلاقات بين فرنسا وأوربا والشرق الأوسط في بيئة عالمية متغيرة، والسياسات الفرنسية الداخلية حيال المواطنين الفرنسيين المهاجرين والمسلمين\العرب والتوقعات حول الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة في ٢٠٢٢ في سياق توجه نحو اليمين وانهيار متواصل لليسار. 

تناول الحوار أيضاً دور فرنسا ودور أوربا في المنطقة وسط مخاوف وتوقعات حيال تخفيف الولايات المتحدة لانخراطها في المنطقة (ولو كان هذا سابقاً لأوانه).

على الصعيد النظري، ناقشنا التوجهات الاستبدادية المتنامية لدى عدة أنظمة ديمقراطية في الغرب وأمريكا الشمالية واختتمنا بنقاش حول العلاقات الفرنسية- الصينية في وقت يوجه فيه العالم أنظاره نحو صعود الصين. تحدث ألان أيضاً عن مبادرته الإعلامية، وهي صحيفة إلكترونية تركز على أفريقا AfriqueXXI.

[لقراءة الحوار بالإنجليزية اضغط/ي هنا].

نص الحوار مع ألان غريش

بسام حداد: يسرني أن ألتقي بك ونحن سعيدون جداً أنك ستنوّرنا حول أوربا وفرنسا والشرق الأوسط، وما يحدث أيضاً في فرنسا، وهذا مهم للذين يقومون بالأبحاث حول الشرق الأوسط أو يدرسونه. نرحب بك مرة ثانية. هذا تسجيل تقوم به مؤسسة الدراسات العربية. اسمي بسام حداد، ويشرفني كالمعتاد الحوار معك. جمعنا تاريخ مشترك طويل، حاورتك للمرة الأولى في ٢٠٠٥، وأنا أعي جيداً الحضور والتأثير الذي تمتلكه في إنتاج المعرفة حول الشرق الأوسط هنا في فرنسا، ناهيك عن تاريخك مع اللوموند، فضلاً عن مشروعك الأخير أو المشروع الحديث نسبياً OrientXXI، المصدر الذي نقدره عالياً في جدلية ومؤسسة الدراسات العربية كما يفعل آخرون في أنحاء العالم. سمعتُ أيضاً أنك تقوم بتوسع جديد تستطيع التحدث عنه قليلاً، لكن دعني أولاً أسألك عن أفكارك حول الوضع الحالي من منظار الموضوع الواسع جداً والعام لأوربا والشرق الأوسط مع بعض الانتباه إلى السياسة الفرنسية إزاء المواضيع الساخنة التي تجري، سواء كانت تتعلق بإيران، أو فكرة أن الولايات المتحدة والشرق الأوسط يشهدان تراجعاً في العلاقات - إن شئت- في ضوء الانسحاب الأمريكي التدرجي.

ألان غريش: أولاً، حين تتحدث عن أوروبا وسياستها الخارجية يجب أن نعرف أنه لا يوجد سياسة خارجية أوربية موحدة. كي يكون لك موقف في السياسة الخارجية الأوروبية يجب أن تحصل على إجماع ٢٧ دولة، ما يعني أن هذا تقريباً مستحيل خاصة إذا أردت أن تفعل شيئاً. بالتالي، هناك بعض المواقف العامة أو الآراء لكنها ليست فاعلة على الساحة العالمية. لا شك أن أوروبا فاعل عالمي اقتصادي، ولديها الكثير الذي يجمعها في هذا الصدد خاصة مع شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، وبلدان المتوسط كمصر ولبنان. هناك بعض العلاقات الاقتصادية المهمة لكنها تبقى في الحيّز الاقتصادي، وأعتقد إنها ليست سياسة عالمية. لديك سياسات اوربية خارجية مختلفة كما في ألمانيا وإنجلترا، حتى ولو أنها ليست الآن جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا. وفي المدة الأخيرة كانت السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط تتمحور حول الحرب ضد الإرهاب. وخاصة بعد أن فشل الربيع العربي في معظم البلدان العربية، كانت الفكرة هي العودة إلى السياسة العادية للحكومة الفرنسية لعلى الأقل عشرين سنة، الديمقراطية لا تعمل في العالم العربي، الوضع معقداً جداً، سبب حروباً أهلية في سوريا واليمن وليبيا وكان الاستقرار مهماً. لكن من الجيد أن أذكر أن الاستقرار كان مهماً لمكافحة الإرهاب ولمكافحة الهجرة. ومنذ هذه اللحظة صارت العلاقات الثنائية لفرنسا لا تأخذ في عين الاعتبار كثيراً حقوق الإنسان. شاهدنا هذا مؤخراً في زيارة ماكرون للبلدان الخليجية، فقد ذهب إلى الإمارات والمملكة العربية السعودية وقطر، وكان الهدف الرئيس لزيارته بيع الأسلحة التي نعلم أنها تُستخدم مثلاً في الحرب اليمنية ولدعم القيادات. كان ماكرون أول قائد غربي كبير اجتمع مع محمد بن سلمان. وكان التبرير هو أن المملكة العربية السعودية دولة مهمة، وأنه يحاول أن يصلح العلاقات بين المملكة العربية السعودية ولبنان لاسيما أن فرنسا منخرطة تماماً في الشؤون اللبنانية. بيد أن النتيجة هي أن فرنسا منحت الثناء لمحمد بن سلمان كقائد طبيعي للشرق الأوسط، وأحد الأسباب كما قلت هو الحرب ضد الإرهاب. يفسر هذا بطريقة ما سبب دعمنا لنظام السيسي، وهذا أمر غريب جداً لأنني لا أرى أن السيسي يحارب الإرهاب على أي صعيد. لكن هذه كانت حجة لإرسال طائرات الرافال إليهم، كوسيلة لمكافحة الإرهاب. لقد قوّينا هذا النظام. واليوم نقول إننا نشارك في حرب ضد الإرهاب وخاصة مع الإمارات العربية المتحدة، لكنني لا أرى أي قتال مشترك ضد الإمارات وفرنسا. أعني نعرف أن العلاقة بين الإمارات وبعض الجماعات الإرهابية في اليمن مثلاً، أو ليبيا، قوية جداً. لكن هذه إحدى الحجج. إن الحجة الثانية (والتي هي مهمة جداً اليوم خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، في نيسان وأيار) هي مكافحة الهجرة. صارت الهجرة موضوعاً محورياً للسياسة الفرنسية ونريد، أو نحاول على الأقل أن نساعد البلدان المتوسطية وبلدان الجنوب المختلفة كي تشكل نوعاً من الحماية ضد الهجرة من أفريقيا. لهذا السبب ندعم النظام المصري، وندعم أنظمة شمال أفريقيا ونطلب منهم أن يخدموا كسد ضد الهجرة. وفي الوقت نفسه، كما تعرف، إن فرنسا لاعب مهم في الشرق الأوسط وخاصة في بيع الأسلحة. لا أعتقد أنه لدينا الكثير من القدرة على تغيير سياسات بلدان مختلفة. مثلاً، بعد زيارة ماكرون جرى اتصال هاتفي بين محمد بن سلمان ورئيس الوزراء اللبناني، لكن حتى الآن لم توقف المملكة العربية السعودية مقاطعتها للبضائع اللبنانية. بالتالي، إن المشكلة حين تدقق في الأمر هي التناقض بين خطاب عام حول حقوق الإنسان، وفرنسا كرمز للديمقراطية، والثورة الفرنسية، إلخ، وبين ما تقوم به من دعم لنظام ديكتاتوري. بصراحة أعرف أن أي دولة لا تستطيع بناء علاقات فقط على أساس حقوق الإنسان. إذا انطلقنا من هذا سنقطع علاقاتنا مع الصين ودول أخرى كثيرة. لكن هناك حدوداً والمشكلة ليس هناك حدود بالنسبة للحكومة. وأعتقد هذا واضح خاصة في فرنسا في دعم نظام السيسي، أعني لديه ستمائة ألف سجين سياسي، ولا توجد صحافة حرة، أو حزب سياسي مستقل، ويمكن أن تُسجن بأية ذريعة، إلخ. وفي الوقت نفسه استقبلنا السيسي هنا، واحتفينا به احتفاء كبيراً، وهذا إشكالي. أعني هناك أسئلة كثيرة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن التعددية نموذج جيد، لكن حين تقوم دولة غربية كفرنسا ببناء علاقة مع نظام ديكتاتوري وتنتهك في الوقت نفسه كل ما نقوله عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن هذا يخدم في النهاية أعداء الديمقراطية في الشرق الأوسط. سيقولون: "حسناً إن الغرب يتحدث عن الديمقراطية، لكن انظروا كيف يتصرف". ولقد أدى هذا إلى إضعاف الأشخاص الذين يناضلون من أجل الديمقراطية في الشرق الأوسط، وهم يقولون: "إنهم يتحدثون عن الديمقراطية ولكن انظروا ماذا يفعلون على الأرض".

بسام حداد: شكراً لك، أريد أن أعود معك إلى المسائل المحلية فيما بعد لكنني أريد أن أسألك حول الفراغ الذي يمكن أن يولده الانسحاب الأمريكي أو الانسحاب من المنطقة، وخاصة أنه يوجد حدود لمدى قدرة الولايات المتحدة على الانسحاب من المنطقة، على الأقل في أي وقت. هل تستطيع فرنسا أن تتدخل لملء الفراغ، حتى ولو كان الفراغ بلداناً أصغر بكثير مما يقول الناس، هل تستطيع فرنسا أن تفعل هذا مع بلدان أوربية أخرى في الشرق الأوسط؟ أم أن هذا لن يؤثر على السياسة الفرنسية في هذه المنطقة؟

ألان غريش: أتفق معك هنا، أعني أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة لن يكون كبيراً كما يُنظر إليه، أو كما صُور. سيبقى الشرق الأوسط منطقة مهمة لأمريكا، لدى الأمريكيين خمسون ألف جندي، لديهم المارينز، والقواعد، ولن يتوقفوا. ما الذي سيتوقف؟ أعني، على الأقل في العقد التالي لا أعتقد أن الولايات المتحدة ستنخرط في أي حرب على الأرض في الشرق الأوسط. لكن ما هو مهم هو أن كثيراً من الفاعلين في المنطقة يشعرون أنهم لوحدهم ويجب أن يتصرفوا بمفردهم. وحين تنظر إلى الخريطة اليوم هذا غريب جداً. أعني لديك إردوغان الذي يبني علاقات مع الإمارات العربية المتحدة، وينفتح على إسرائيل. لديك الإمارات التي تنفتح على إيران وحتى المملكة العربية السعودية تنفتح. يفهم الجميع أنهم لوحدهم، ليس بشكل كامل لكنهم بطرق ما هم لوحدهم ويحاولون أن يتدبروا الأمر. وغريب جداً أنه لا يوجد تحالفات كما كان الأمر مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة أو حتى معسكر المقاومة ضد إسرائيل. الآن المسألة مختلفة، أعني الإمارات انفتحت على سوريا، وعلى الأرجح سوريا قُبلت الآن في الجامعة العربية، بالتالي هذه فرصة لأي بلد. وبعد التجربة الأمريكية في أفغانستان والعراق أعتقد أن معظم البلدان الأوربية (وليس فقط أمريكا) غير مستعدة لإرسال جنود والتورط في حروب وصراع في الشرق الأوسط. بالتالي يناورون، بمعنى لديهم مجال للتحرك في الشرق الأوسط ولكن لسوء الحظ إن هذا المجال هو فقط لبيع الأسلحة. أعني من الواضح أن الأمريكيين خسروا قليلاً بالتالي فإن فرنسا وروسيا تبيعان المزيد من الأسلحة. من المؤكد أن جيوشاً مختلفة وبلداناً مختلفة تريد الحصول على تطمينات عديدة، لكن على الأرض لا يوجد احتمالات لتغيير الأمور سياسياً، ولا أرى فرنسا تلعب دوراً في هذا المجال، وليست فاعلة ولا تمتلك خطة للشرق الأوسط.

هناك أمران إضافيان: بالنسبة لإيران، إن الموقف الفرنسي غير مهم جداً في رأيي، لكنه ليس إيجابياً جداً. أعني أطلق ماكرون تصريحاً يقول فيه إن الاتفاق يجب أن يُوسَّع كي يشمل إسرائيل ودول الخليج ما يعني أنه لن يُبْرم اتفاق. لكن هذه سياسة قديمة، أعني أن الفرنسيين كانوا معادين جداً لإيران لوقت طويل ولا أعتقد أن هذا سيغير الموقف الأمريكي بأية طريقة. إن المسألة الأخرى التي ناقشناها مرات كثيرة هي الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. الآن لدينا تغيّر حقيقي في السياسة ليس في المبدأ. من حيث المبدأ، تدعم معظم البلدان الأوروبية وفرنسا حل الدولتين لكن من الواضح أنه لا يوجد حل دولتين، على الأرض هناك دعم لإسرائيل من فرنسا لم يكن مهماً من قبل كما هو الآن. ثمة علاقات عسكرية وعلاقات أمنية وعلاقات اقتصادية وعلاقات سياسية دون الأخذ في الحسبان بشكل كامل المسألة الفلسطينية. يقول الفرنسيون: "حسناً نحن نشجب الاستعمار، أو ما نزال نقول بوضوح شديد إننا ندعم حل الدولتين"، لكن هذا لا يغير شيئاً على الأرض بالنسبة لإسرائيل وللفلسطينيين. وبالنسبة لي على الأقل، إن المسألة الفلسطينية محورية لكل شعوب الشرق الأوسط. وحقيقة أن فرنسا تغيرت منذ عشرين عاماً أدت إلى تدهور سياسة فرنسا في الشرق الأوسط، أعني صورة فرنسا التي كانت منذ أربعين سنة إيجابية جداً بعد الحرب، بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلخ. أصبحت فرنسا الآن مثل أية دولة غربية أخرى. لا أعتقد أن هذا إيجابي.

بسام حداد: حسناً، لننتقل قليلاً إلى الجبهة المحلية. هل تأثرت فرنسا كبلد أو نظام سياسي بالتوجه نحو اليمين في السنوات العديدة الماضية في ضوء التحولات على الصعيد العالمي وفي أوربا والولايات المتحدة الأمريكية آخذين في الاعتبار أنه كان هناك انتخابات جديدة في الولايات المتحدة منذ سنة، وكان هناك توجه إلى اليمين؟ كيف تأثرت فرنسا بهذا التوجه وكيف يمكن أن يؤثر في انتخاباتها؟ وكيف يمكن أن تؤثر هذه المسائل في مسائل الهجرة وتلك التي تتعلق بالسياسة الداخلية في فرنسا إزاء العرب والمسلمين وأقليات أخرى من المهاجرين؟

ألان غريش: أولاً، هناك عودة إلى اليمين لكن ربما ليست مهمة في أوروبا كما هي في أمكنة أخرى. مثلاً، ساعدت الانتخابات في ألمانيا الديموقراطيين الاجتماعيين في الحكومة على تهميش اليمين المتطرف. حدث الأمر نفسه في إيطاليا، وفي النرويج. ثمة توجهات إلى اليمين لكنني أريد القول بأن هذا ليس محتماً وليس جلياً. وأعتقد أن هذا يعتمد على كل بلد وتاريخه. أما في فرنسا فإن الحركة أكبر من أي بلد آخر. الآن للمرة الأولى لديك مرشحان فاشيان في الانتخابات الرئاسية. سيحصلان معاً على ٢٥-٣٠٪ من الأصوات. يأتي الخطر الأكبر من الأفكار التي يطورها أشخاص مثل مارين لو بان وإيريك زيمور. إريك زيمور مناظر صنعه التلفزيون وهو شديد العداء للمسلمين. اخترقت الفكرة المعسكرات السياسية كلها، واليمين بشكل كامل. لدينا الآن مرشح يميني لانتخابات الرئاسة، ليس هذا جديداً. لكن بالتدريج صارت فكرة اليمين المتطرف التي هُمشت مركزية. أعني فكرة أنه لدينا "الاستبدال الكبير"، والذي مفاده أن المهاجرين حلوا مكان الشعب الفرنسي، وخاصة المسلمين إلى حد كبير. منذ ٣٠ سنة كان هذا كلاماً فاشياً، أعني بعض المجموعات الفاشية قبلت الفكرة. بيد أن كثيراً من الأحزاب السياسية تطرحها الآن وليس الجناح اليميني فقط، حتى الأحزاب الاشتراكية تطرحها بطريقة ما. وهذا مقلق جداً. حتى إذا لم يفز اليمين المتطرف بالانتخابات الرئاسية، ولا أظن أنه سيفوز، سيكون لهذا عواقب. إن أحد الأسئلة هو: لماذا هذا التوجه قوي جداً في فرنسا بالمقارنة مع بريطانيا؟ مع إيطاليا؟

بسام حداد: النمسا.

ألان غريش: وأيضاً النمسا. بيد أنني أعتقد أن لهذا علاقة بتاريخنا الاستعماري، هذا التاريخ الذي لم ينته بعد. أعني رأينا الاستفتاء في كاليدونيا الجديدة، ولدينا جزر في المارتينيك وفي غوادالوبه. ما نزال قوة استعمارية ولم ننجح بعد في التخلص من هذا التاريخ. إن التخلص منه يعني النقاش العلني وفَهْم ما حصل ولماذا كان هكذا، وماذا كانت أثمان هذا التاريخ الاستعماري؟ تمحور هذا إلى حد كبير حول الحرب الجزائرية وما يزال، أعني بعد ٦٠ عاماً من نهاية الحرب ما يزال موضوعاً حساساً جداً في فرنسا ولسنا قادرين على فتح نقاش صريح مع التاريخ الفرنسي حول الاستعمار. أعتقد أن هذا مختلف جداً عن الأمر في بريطانيا العظمى، مثلاً. أعتقد أن بريطانيا فعلت بشكل أفضل بكثير، حتى ولو كانت هناك أيضاً جرائم، إلخ، وهذا أنشأ وضعاً تحدث فيه عودة لأيديولوجيا كانت موجودة حين كنا في الجزائر (ما نزال في الجزائر). إن الفكرة هي أننا نواجه المسلمين، وأنهم سيغزوننا، هذا كل ما هو موجود الآن. أعني، تحدثتُ عن "الاستبدال الكبير"، الذي أصبح معرفة عامة. كل يوم يقول الناس:"آه العرب هم من يستعمروننا!" وأعتقد أن هذا أحد أسباب فشل اليسار، المنقسم بشكل كامل تماماً. سيكون لليسار خمسة أو ستة مرشحين وسيحصل كل واحد على ١٠٪ من الأصوات لكن اليسار لم يكن قادراً، تاريخياً، على أن يناقش بصراحة مسألة الاستعمار هذه وعواقب التاريخ الاستعماري على مجتمعنا، وهذه حقيقة. يجب نعرف كيف بُني مجتمعنا، لديك الآن ٢٥-٣٠٪ من السكان هم من أصل أجنبي والذين بالطبع ليسوا فقط من شمال أفريقيا، لديك سكان من أوربا ومن أفريقيا، إلخ لكنهم جزء مهم من السكان. لكن المزيد من الفرنسيين يعتبرونهم أجانب، لا فرنسيين، وكما تعرف إذا ولدتَ في فرنسا تحصل على الجنسية الفرنسية. بالتالي هذا سبّب انقساماً، وليست هذه هي المرة الأولى التي كان لدينا فيها هذا الوضع. كان لدينا هذا الوضع في الثلاثينيات مع اليمين المتطرف الذي كان قوياً جداً في فرنسا. لكن في مواجهته كان هناك حزب شيوعي\اشتراكي يساري جداً وكان قادراً ليس فقط على مكافحة الفاشية بل أيضاً على مكافحة العنصرية والمعاداة للسامية، وينبغي القول (خاصة بالنسبة الطبقة العاملة) لم يكن العدو هو الأجنبي بل الرأسمالي. اليوم ليس لديك هذا المصدر، لقد اختفوا.. وهذا مخيف جداً.

بسام حداد: كلام دقيق، وهذا أمر لا يقتصر على فرنسا. ما الذي يمكن توقعه في الانتخابات القادمة، وفيما إذا كان من المحتمل أن يكون هناك أي انتقال أو تغيير للوضع الحالي؟ هل هو أمر سيعيد إنتاج النظام، لكن ربما بطرق مختلفة قليلاً؟ أم هل هناك أي أمل بأن يكون هناك تغيير ليس بالضرورة راديكالي بل نوع من التغيير في السياسات إزاء المهاجرين والناس الذين كانوا هنا لعقود، كما ناقشنا، لكن لا يُنْظر إليهم الآن بوصفهم فرنسيين؟ حتى في محادثاتنا الأساسية مع الناس هنا، وأثناء مجيئنا لزيارتك في البيت، أخبرنا سائقنا الذي من المغرب أن العنصرية كانت منذ بضع سنوات غير مباشرة، تشعر بها لكنك لا تراها دوماً، أما اليوم فهي مباشرة ومرئية أكثر. في ضوء هذا الوضع، هل يوجد أي سبب للاعتقاد بأن الانتخابات القادمة ستفعل أي شيء في هذا الاتجاه؟ أم هل سيكون نفس التحرك المنتظر من اليسار؟

آلن غريش: أعتقد أن الأمر سيكون أسوأ. أعني هناك إريك زيمور، كما قلتُ الذي هو مناظر تلفزيوني والآن مرشح للانتخابات الرئاسية. فتح المجال لأي شيء ضد المسلمين، وللعنصرية، وحتى للأمور التي حوكم من أجلها وأدانته المحاكم. لكنه حرّر ذلك الخطاب، وهو يتفوّه بأمور لم يكن الناس يتجاسرون على قولها من قبل: إن المسلمين ليسوا فرنسيين، إنهم لا يندمجون، إلخ. وفي الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٧، حين كان هناك ماكرون وفيون من الحزب اليميني. كان فيون متشدداً جداً حيال الإسلام، غير أن ما خدم ماكرون ولعب لصالحه هو أنه لم يقبل مناظرة حول الإسلام. لم تكن هناك مناظرة حول الإسلام في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٧، والمسألة المحورية الآن هي الهجرة. لماذا الآن؟ ولماذا نجح؟ هناك أسباب كثيرة. أعني الدور الذي لعبه الإعلام، خاصة أنه لدينا الآن قناة تلفزيونية بحجم قناة فوكس نيوز تدعى سي نيوز، يملكها فينسينت بولوري الذي اشترى جزءاً من الصحافة ويقف مع اليمين ولا يخفي ذلك. جعل من خلال قناته التلفزيونية الصغيرة، ولكن التي تعادل قناة فوكس نيوز في التأثير، مسألة الاستبدال الكبير والأمن محور الانتخابات. وهذا خطير جداً. في النهاية سيكون لدينا ثلاثة مرشحين، وكما تعلم في فرنسا لدينا الجولة الأولى ثم الثانية والتي يكون فيها مرشحان فقط، لديك ماكرون وفاليري بيكريس (يمينية) وربما مارين لو بان أو إيريك زيمور (هذا المناظر التلفزيوني). لا أظن أن اليمين المتطرف يستطيع الفوز، لكن أفكاره تفوز، وهذا مقلق جداً. أما بالنسبة لليسار فهو منقسم، ولا يوجد مرشح. إن الأكثر شعبية جان لوك ميلنشون سيحصل على ١٠٪ أو ١٢٪ من الأصوات فقط. بالتالي يجب أن نكون قلقين أنه أياً من يكون الفائز سيفوز بخطاب يميني جداً حول الإسلام والمهاجرين، والأمن، إلخ. هل سيحفّز هذا اليسار كي ينظم صفوفه؟ لست متأكداً. إن مسألة الإسلام قسمت في الحقيقة اليسار، حتى يسار اليسار. لدينا جزء من اليسار علماني جداً بالمعنى السيئ للكلمة يقول: "كل الأديان سيئة لكن يجب أن نكافح الإسلام"، إلخ. وهذا تيار خطير جداً.

بسام حداد: نعم هذا صحيح، وأعتقد في المرة السابقة التي حاورناك فيها في ٢٠٠٥ أو ٢٠٠٦ كنا نعمل على مشروع "ضواحي باريس" وطرحت المواضيع نفسها، ولكن حصل المزيد من الهجرة ليس فقط من سوريا أو بلدان أخرى في المنطقة ووراءها. ومن المثير أن مسألة الإسلام هي الآن مثلاً، أكثر وجوداً مما كانت عليه في ٢٠١٧ للأسباب التي ذكرتها. السؤال الأخير الذي أحب أن أطرحه عليك نظري ويتعلق بمسألة "الديمقراطية" في "الغرب" (وأضع هاتين الكلمتين بين علامتي اقتباس، "الديمقراطية" و"الغرب")،. كان هناك قلق في الدوائر التقدمية في الولايات المتحدة من أن الديمقراطية في الولايات المتحدة كما عرفناها (أو كما عرفوها) ليست ما كانت عليه، ويتعلق هذا بمسائل العنصرية والاقتصاد والطبقة الاجتماعية وما وراء ذلك. وكان هناك تلك الفكرة بأن الميول الاستبدادية تبدأ بالظهور مع صعود الشعبوية، أو صعود اليمين وهلمجرا. هل هناك أي نوع من الخطاب من هذا النمط في فرنسا؟ هل هناك قلق حيال مسألة "الديمقراطية" نفسها أو أسسها؟ أم هل هذه المسائل داخلة تحت مسائل أخرى ناقشناها؟

ألان غريش: هناك أسئلة حول الديمقراطية خاصة في فرنسا. إن النظام السياسي خاص جداً لأن رئيس فرنسا ملك، يستطيع أن يصدر أي قرار. ليس النظام الفرنسي نظاماً برلمانياً سوياً. ومع انهيار الأحزاب السياسية نتحرك شيئاً فشيئاً نحو نظام رجل واحد. أعني أنه يقرر كل شيء من الأزمة الاقتصادية إلى كوفيد، إلى أي شيء. وبعد تصاعد الهجمات الإرهابية اتخذت فرنسا سلسلة من التدابير هي ضد الحريات. أعني، القانون الاستثنائي الذي يصبح قانوناً عادياً. وهذا مقلق، إنه اتجاه عام لكنه مرتبط أيضاَ بإضعاف الديمقراطية التقليدية.

بُنيتْ الديمقراطية التقليدية في البلدان الغربية على حزب سياسي يمتلك إيديولوجيا، له عضوية، وخلايا في مدن مختلفة، إلخ، الآن لم يعد لدينا هذا والأحزاب السياسية ضعيفة جداً. بالتالي إن أحد النجاحات الكبيرة لماكرون هي أنه كان رجلاً جعل النظام السياسي العادي ينهار من الداخل. كان النظام سابقاً في أزمة ورغم ذلك كان دوماً لديك مرشح اشتراكي، ومرشح يميني من اليمين المتطرف بين فينة وأخرى. غير أنه جعل الآن النظام ينهار من الداخل، وأعني أنه لا يوجد حزب اشتراكي، وقام بإضعاف الحزب اليميني، وأدى هذا إلى وضع أَضْعف الديمقراطية. يمكن أن نضيف إلى هذا إضعاف نقابات العمال، وكان هذا مشروعاً تولاه اليمين والرأسماليون لوقت طويل، وهي الآن ضعيفة جداً ما عدا في القطاع العام. بالتالي فإن الشعب لا يعرف كيف يصنع سياسة. هناك الآلاف، عشرات الآلاف من المنظمات والمنظمات المحلية حول الطقس، حول المشكلات الاجتماعية، ولمساعدة المهاجرين، إلخ، لكن ليس هناك أي مشروع. لم يعد هناك أي أمل. إن الأشخاص الوحيدين الذين لديهم مشروع هم اليمين المتطرف، أعني مشروعاً مبنياً على "نحن الشعب الفرنسي الأبيض ضد السود والعرب، إلخ". وهذا النوع من القومية شوفينية، ليس قومية، وهذا تيار تستطيع العثور عليه في الولايات المتحدة والبرازيل وروسيا، إلخ. بالتالي هذا إشكالي. هناك أشخاص يريدون (خاصة الشبان، أنا لا أتحدث فقط عن جيلي) أن يعيدوا ابتكار السياسة. لكن حتى الآن، لم ينجحوا في بناء أي شيء ما يسمح بوجود مشروع سياسي. يمتلكون سياسة محلية دقيقة، وقاموا بتعبئة كبيرة ضد المهاجرين، ومن أجل توليد الكهرباء من المفاعلات النووية، إلخ، لكن لا شيء يوحّد. وهذه مشكلة كبيرة للمستقبل.

بسام حداد: سؤال أخير حول هذه المسألة: كيف تؤثر مسألة إعادة توزيع الثروة على هذه المسائل؟ في ٢٠٠٥، ٢٠٠٦، ٢٠٠٧ شاهدنا أعمال الشغب في الضواحي، سواء كانت عن هذا الأمر أو عن مزيج من المسائل. ما وضع هذه المسألة في فرنسا؟ في الولايات المتحدة مثلاً نرى فجوات تزداد اتساعاً وأعرف أنه في فرنسا هناك نوع من الضوابط والموازين - المزيد من الضوابط والموازين - ضد هذا في الوضع السياسي- الاجتماعي. لكنك تقول إنه في الوضع السياسي الأمر بخلاف ذلك، حيث القوة التنفيذية بلا حدود أكثر مما هو الأمر في أمكنة أخرى وخاصة في الولايات المتحدة إلى حد ما. بالتالي، كيف تؤثر مسألة الطبقة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة على هذه الأمور؟

ألان غريش: من المهم جداً أن نشرح انهيار اليسار. كان اليسار في السلطة (مع فرانسوا هولاند، خاصة، منذ عشر سنوات) غير أنه جعل السياسة النيوليبرالية تُضعف الثقة به بشكل كامل وتقطع أيضاً الصلات بين الحزب الاشتراكي واليسار والطبقات الشعبية. هذا مهم جداً. هناك أيضاً إضعاف الحزب الشيوعي، الذي كان قوياً جداً، وأعني أنه في البلدات الشعبية والأمكنة الشعبية لم يعد اليسار موجوداً. هذا أحد الأسباب التي أدت إلى تطور بعض اليمينيين والفاشيين، لأنهم يمتلكون خطاباً اجتماعياً مثل الذي تجده في الولايات المتحدة وفي أمكنة أخرى. أعتقد أن هذا مهم جداً. فقد اليسار علاقته مع الطبقات الشعبية ليس فقط في الخطاب بل أيضاً كنشطاء. من قبل كان نشطاء الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي مرتبطين مع نقابات العمال، مع الأمكنة الشعبية، كان لهم حضور محلي، إلخ. الآن انتهى كل هذا.

ترى الآن القادة والأشخاص الذين يعملون للأحزاب الاشتراكية لا يختلفون عن اليمين، إنهم برجوازيون. لا مانع أن يكونوا برجوازيين تقدميين لكنهم فقدوا روابطهم مع الطبقات الشعبية. إن استعادة هذه الصلة صعبة جداً لأن جزءاً من الناس يقول إنه كي نعيد الصلة يجب أن نكون عنصريين، أو يجب أن نكون معادين للمسلمين وللمهاجرين وهذا ما يريده الشعب. لكن في الحقيقة، نقول في غالب الأحيان إن الناس متجهون إلى اليمين ولست متأكداً. هذا مخترع أيضاً. أعني حين ترى الإعلام كله يتحدث عن الأمن كل يوم ولا أحد يتحدث عن المشكلات الاجتماعية يبدو كأن الجميع في فرنسا يريدون التحدث عن الأمن. لكن حين تنتبه، خارج كل هذا الضجيج التلفزيوني، ستسمع الناس يقولون إن أهم شيء بالنسبة لنا هو أن نكسب النقود، أن نحصل على أجور أفضل، إلخ.

بسام حداد: حسناً، لدينا فقط دقيقتان، وهناك الكثير لقوله حول مسألة العلاقات الفرنسية- الصينية من منظار ما يحدث في العالم اليوم في ضوء الانتباه المخصص للصين وصعودها، وخاصة في الولايات المتحدة؟ أهناك أي شيء يحدث في هذا الحقل تريد أن تتناوله؟ أم الموضوع ليس ناضجاً الآن؟

ألان غريش: تمارس الولايات المتحدة ضغطاً هائلاً على أوروبا كلها لجعل الصين عدونا الرئيس. ليس فقط علينا بل على ألمانيا وكل أوربا. لكن أوربا متحفظة لأنها لا تريد الدخول في حرب باردة كبيرة مع الصين. لديها علاقات اقتصادية لكن يوجد ضغط قوي جداً. وهناك ضغط داخلي أيضاً. ما يزال لدينا إعلام معاد لروسيا قوي جداً ولدينا الآن أكثر فأكثر فكرة أن الصين تشكل خطراً علينا ويجب أن نقاتلها. هذا يحدث أكثر على المستوى الفكري والإعلامي لكن يمكن أن يلعب دوراً في المستقبل. وأعتقد أنه سيكون خطيراً جداً دخول هذه الحبكة، أعني بالطبع هناك مشكلة، الصين تواجه مشكلات كثيرة ولا تستطيع أن توجز سياساتها هنا، لكننا نريد علاقات معهم أم هل نريد أن نجهز للحرب التالية؟ هذه هي المسألة.

بسام حداد: حسناً، شكراً جزيلاً لك ألان، كان هذا عميقاً جداً بالنسبة لي وآمل أن نواصل الحديث معك. لكنني أفهم منك أن المرء إذا شعر بخيبة أمل من الحياة في أمريكا كنتيحة لهذه المسائل المتعلقة بالعنصرية وحتى الجندر والسياسة، فإن فرنسا ليست الوجهة الأفضل الآن.

ألان غريش: لسوء الحظ ليست الوجهة الأفضل. وكانت هكذا لبعض الوقت. أشتاق في الحقيقة إلى الوقت الذي ذهبت فيه إلى الشرق الأوسط وكان الناس يسألونني: "هل أنت فرنسي؟" لم يسألوني عن توجهي السياسي، لكن كان مهماً جداً أن فرنسا كانت تدعم الفلسطينيين وحقوق الإنسان، إلخ، أحب أن أعود إلى تلك الأوقات.

بسام حداد: حسناً، افعلْ هذا على مستوى ما. ونعم آمل أن نتحدث معك مرة ثانية حين يقترب موعد الانتخابات وربما عن طريق الإنترنت. شكراً جزيلاً لك على وقتك وكرمك وعلى القهوة والحلويات واستضافتنا في منزلك.

ألان غريش: شكراً لكم على زيارتكم.

بسام حداد: آه، قبل أن أغادر، هل تريد أن تقول شيئاً عن المشروع الذي أطلقته؟

آلن غريش: نعم، نحن الآن في العام التاسع من OrientXXI وكما تعلم بدأنا مؤخراً نكتب عن الصحراء لأن فرنسا متورطة، وكانت موجودة في ليبيا والجزائر والمغرب إلخ. حققتْ المقالات نجاحاً كبيراً، ولهذا تناقشنا مع الأشخاص الذين كتبوا عن الأمر وكانوا مهتمين بالقيام بمحاولة لإطلاق شيء ما مثل OrientXXI لكن حول أفريقيا. أطلقنا الموقع في أيلول\تشرين الأول والآن سنبدأ بإطلاقه بشكل كامل بمقالة كل يوم في كانون الثاني. يوجد فريق من الصحفيين جيد جداً ومطلع على شؤون أفريقيا، وفي فرنسا لدينا كثيرون من أصول شرق أوسطية. هناك أشخاص مهتمون. أعني يوجد فرنسيو الشتات من أصل أفريقي، وملايين الأشخاص الذين يعيشون هنا. هناك أيضاً٢٠ بلداً يتحدث الفرنسية ولا يوجد الكثير من الإعلام الحر والمستقل حيال هذه المسائل. ولهذا نحن متفائلون حول مستقبل AfriqueXXI.

بسام حداد: هذا عظيم ولهاURL منفصل؟

ألان غريش: نعم، https://afriquexxi.info.

بسام حداد: هذا عظيم، نتطلع إلى الاتصال بكم حول هذه المسألة في مؤسسة الدراسات العربية وفي جدلية. لدينا مسبقاً تعاون جيد وآمل أن نواصل ذلك. شكراً.

آلن غريش: (بالعربية) شكراً.

[ترجمة: أسامة إسبر عن موقع OrientXXI].

حين يؤدي اللوم إلى نتائج عكسية: اللاجئون السوريون ومظالم المواطنين في لبنان والأردن

[حوار مع الباحثة والأكاديمية آن ماري بيلوني حول كتابها الصادر مؤخراً عن دار نشر جامعة كورنيل، ٢٠٢٠].

جدلية: ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟ 

آن ماري بيلوني: حين فرّتْ أعداد هائلة من السوريين إلى البلدان المجاورة، واستقرت هناك منذ عام 2011، تساءلتُ: أي تأثير سيُحدثه هذا، وخاصة في الأردن ولبنان، البلدين اللذين فيهما اقتصاد ضعيف، وشح في الموارد، والقليل من المعونة الاجتماعية التي تقدمها الدولة، والعديد من الانقسامات الداخلية؟ ركز الإعلام والمؤسسات الإنسانية تقريباً بشكل كامل على السوريين أنفسهم، ولسبب جيد. لكنني تساءلتُ: أي تأثير أحدثته هذه الحقيقة الديموغرافية الجديدة، وما تزال تحدثه، في هذين البلدين اللذين يستقبلان اللاجئين؟ ويجب أن نشير هنا إلى أن الأردن ولبنان هما من البلدان الرئيسية المستقبلة للاجئين السوريين ويحتويان الآن على العدد الأكبر من اللاجئين في العالم. كيف سيتأقلم البلدان مع هذا الوضع؟  كيف ستتغير الدينامية السياسية، وفهم السياسة بالمعنى الواسع الذي يشمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية؟ هل سيتبدل الإحساس بالهوية إزاء السكان الأجانب الجدد؟ كيف ستتفاعل السياسات النيوليبرالية لهذين البلدين مع مطالب جديدة بالسلع العامة والبنية التحتية؟ هل ستتمكن الحكومتان من تحويل اللوم الذي يقع عليهما من المعاناة الاقتصادية إلى طرف آخر؟ يمتلك البلدان تاريخاً طويلاً من استخدام المهاجرين والأقليات وانقسامات الهوية المحلية كأكباش فداء سياسية. ومنعت سياسة ”فرّق تسدْ“ المواطنين الذين لا يتفقون مع الحكومات من توحيد صفوفهم هناك.

جدلية: أية موضوعات خاصة، مسائل، وأدبيات يعالج كتابك؟

آن ماري بيلوني: اعتمدتُ على أدبيات اللوم والتحليل النفسي وعلم الاجتماع، وأدبيات الحركة الاجتماعية ودراسات اللاجئين كي أشرح التغيرات في البلدان المضيفة. وهناك كتاب لتشارلز تيلي غير معروف كثيراً عنوانه ”الثناء واللوم“، وهو يدرس اللوم.  إن اللوم هو سياسي بشكل مكثف واستُخدم غالباً لحرف الانتباه عن المشكلات الرئيسية أو لتبرئة النخب من المراقبة.  ويمكن أن يعني العجز عن تحديد اللوم أنه لا يوجد احتجاج مطلقاً، بما أنه لا يوجد أحد لاستهدافه للقيام بالتغيير. وفي الحالتين اللتين لدينا، لام السياسيون والإعلام اللاجئين السوريين على كل أنواع المشكلات، ومعظمها سابقة لتدفقهم المتزايد إلى البلدين. كانت هذه ممارسة منتظمة في لبنان والأردن، كما في بلدان كثيرة أخرى: فقد لامت النخب في الدولتين سابقاً الأجانب والفلسطينيين والإسلاميين والبعثيين والشيوعيين. ويحافظ نظاما البلدين على السلطة باستخدام الانقسامات والإلهاءات، بما فيه تغيير الحكومة. إن اللوم وإقالة رئيس الحكومة شائعان بشكل خاص في الأردن، كما حصل أثناء كل احتجاجات المعارضة الرئيسية في البلاد. إن تقديم كبش فداء أداة قوية، وهي أداة تنجح عادة. ما  رأيته في الأردن ولبنان هو أنه بينما اتهم الناس السوريين بأنهم يسببون المشاكل، إلا أنهم حمّلوا في الوقت نفسه الحكومة المسؤولية عن حل هذه المشاكل، ونقدوها حين لم تقدم حلاً. كان رد الفعل محدوداً، احتجاجات محلية في السنوات القليلة الأولى، طالبت الحكومة بالسكن والكهرباء والماء والرعاية الطبية الأفضل. ثم شاهدتُ أن دائرة الاحتجاجات المحدودة بدأت بالاتساع وتغيرت قضاياها: لم تعد تتمحور حول الافتقار إلى تقديم الخدمات المحلية فحسب بل تركز بشكل محدد الآن على الأنظمة التي تسبب عمليات النقص هذه.  وبدأت العلاقة والتوقعات بين المواطن والدولة بالتغير. وتحولت مظالم معينة إلى نقد منهجي، وانضمت مجموعات كان من غير المرجح أن تقف مع بعضها، فيما كانت الحركتان تكسبان قوة في البلدين. وحدث  تقريباً في جميع الاحتجاجات تجنب واضح للوم السوريين لأن هذا سيحرف الانتباه عن الهدف النهائي للدفع نحو التغيير في هذه المؤسسات.

كانت هذه نتيجة جديدة وغير مرجحة: بقيت الحركات الأكبر بصورة متزايدة مركزة على هدف صعب ومنهجي. سيكولوجياً، يتجنب الناس الاستنتاجات التي تدفعهم إلى الفعل أو التي تتضمن لوم الذات أو المسؤولية الذاتية.  إن اتهام نظامهم يعني أن الناس في النهاية كانوا مسؤولين عن تغييره، أما إلقاء اللوم على مجموعة أجنبية  فيبرئ المعنيين.

جدلية: كيف يرتبط هذا الكتاب أو يفترق عن كتبك السابقة؟

آن ماري بيلوني: تركز كتبي على الكيفية التي يعيش بها الناس، وكيف يتمكنون من كسب رزقهم، وكيف يفاوضون عالمهم لخلق الأمن لأنفسهم وعائلاتهم.  كما في هذا الكتاب، بحث كتابي السابق ”خصخصة الرفاه في الشرق الأوسط: جمعيات الأقارب للمساعدة المتبادلة في الأردن ولبنان (٢٠١٠) كيف أن الضمان الاجتماعي والقدرة على العيش باستقلال يتغيران بتغير الظروف الاقتصادية. يبدأ الكتابان بفرضية أن الخطاب والدينامية على المستوى السياسي الوطني هما نتاج تغيرات على مستوى القاعدة الشعبية، وكلاهما ينظر وراء القادة والمعارضات السياسية كي يرى ما يدعمها أو يعارضها.  وتستمد الحركات والأحزاب قوتها من المشاركين، وما يدفع الناس للانضمام هو أساسي لفهم التيارات السياسية الأكبر.

جدلية: من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وأي نوع من التأثير تودين أن يحدثه؟

آن ماري بيلوني: سيشعر الجمهور العام والطلاب والأكاديميون بالراحة من قراءة هذا الكتاب. هناك رسالة رئيسية: لماذا ومتى يستطيع السياسيون النجاح في إبعاد اللوم عنهم وثيق الصلة اليوم بعدد من السياقات. نعرف أن بلداناً كثيرة استخدمت رهاب الأجانب أو اللوم ضد مجموعة لا قوة لها لحرف الانتباه والنقد عنها أو عن مشكلة الحوكمة.

يمتلك البلدان تاريخاً طويلاً من استخدام المهاجرين والأقليات وانقسامات الهوية المحلية كأكباش فداء سياسية. ومنعت سياسة ”فرّق تسدْ“ المواطنين الذين لا يتفقون مع الحكومات من توحيد صفوفهم هناك.

  أود أن أرى المزيد من الأبحاث حول متى تنجح التكتيكات التقسيمية ومتى تفشل. نعرف أن الأشخاص الذين من المرجح أكثر أن يلوموا المهاجرين على مشكلاتهم هم الأقل احتكاكاً بهم. هذا صحيح في الدراسات التي أُجريت في أنحاء العالم. بالتالي، هل الذين يُخْدعون بالانقسامات، ويحولون، عن قصد، مجموعة ما إلى كبش فداء، هم الذين فعلاً يعانون؟ تظهر أبحاثي أن  ما حصل في هذه الحالة هو أن الذين يعانون من خسارة حقيقية أرادوا أن يحلوا مشاكلهم ولجأوا إلى الحكومة، مدركين أن لوم السوريين، الذين كانوا يعانون أيضاً، لا جدوى منه. إن نتيجة بحث كهذا يمكن أن تحدث تغييرات في ماهية الرسائل التي يوجهها الناشطون وكيفية توجيهها.

جدلية: ما المشاريع التي تعملين عليها الآن؟

آن ماري بيلوني: أستقصي دينامية تقديم الآخر ككبش فداء وحرف اللوم بشكل عام. جعلني هذا الكتاب أتعمق في بحث من يلوم الناس على مشاكلهم وأهمية هذا لحركات الاحتجاج.  هناك الكثير من اللوم في عالمنا اليوم، وهو لوم غير مرتبط بالأسباب الحقيقية كما تُظهر المعطيات. لكن الناس ما يزالون يصدقون ذلك اللوم ويفضلون عدم مراجعة أنفسهم.  حين يحصل النقيض، يبدأ الناس بتولي المسؤولية.

جدلية: كيف يمكن أن يُستخدم هذا الكتاب في التعليم؟ هل يغطي مظاهر أخرى لأزمة اللاجئين السوريين؟

آن ماري بيلوني:  هيّأتُ فصول هذا الكتاب كي تكون مفيدة في الصف. لدي فصل حول تصوّرات المضيفين، الواقعية والمتخيلة، وكيف يشعر المواطنون المضيفون حيال السوريين. يوضح كيف تحول الخطاب بسرعة ضد اللاجئين، عازياً لهم مشكلات سابقة ومستمرة. ستستفيدُ من هذا الكتاب أيضاً صفوف تدرس تأثيرات الهجرة، وردود الفعل العنيفة ضد المهجرين قسراً، واستخدام المهاجرين من قبل السياسيين، ودينامية اللاجئ- المضيف. يدرس فصل آخر كيف أثر اللاجئون السوريون على الأردن ولبنان اقتصادياً وعلى خدماتهما العامة. ونويتُ أن يُستخدم هذا الفصل في صفوف دراسات اللاجئ وصفوف حول البلدان النامية، والتي يستضيف معظمها لاجئين. أناقش المعطيات المتوفرة حول الأعمال والتربية وتأثيرات البنية التحتية. إن معطياتنا عن هذه المواضيع ناقصة، لكن اتجاه تأثير تدفقات عالية للاجئين واضح في بلدان ذات قدرات حكومية ضئيلة أو بلدان ذات توجه نيوليبرالي. ويؤثر التغير الديموغرافي في المشاكل القائمة لهذه الدول. سيساعد هذا الكتاب أيضاً سياسات المنظمات غير الحكومية. أبين كيف أن بعض الممارسات الحميدة أثارت الكراهية إزاء السوريين، على سبيل المثال حين قدمت منظمة غير حكومية أجهزة لتنقية المياه للسوريين في بلدة لبنانية، لكنها لم تقدمها للبنانيين يعيشون في جوارهم. كانوا يشربون مثلهم من المياه المتسخة نفسها، وفقراء. كان من المدهش في هذه الأوضاع أنه تم توجيه اللوم الأكبر إلى الحكومة اللبنانية، حيث تستطيع بسهولة أن تتخيل المزيد من الاستياء من السوريين أو جماعة المنظمات غير الحكومية.

إن هذا الكتاب ممتاز للتدريس حول الحركات الاجتماعية، بما أنه يبين تصاعد أطر الاحتجاج والأنواع المختلفة للاحتجاج الذي ينجم، بالإضافة إلى دور اللوم. كما يلقي الضوء على التوجه من احتجاج فردي شبه تلقائي إلى تنظيم متزايد وحركات أكبر وأكثر توحداً. ومع التوجه إلى حركات احتجاج متزايدة في الشرق الأوسط والدور الجوهري للسلع الضرورية في إثارة هذه الاحتجاجات، سيكون هذا الكتاب مفيداً في دروس حول الشرق الأوسط.  ويقدم الفصل الأول ملخصاً قصيراً لتاريخيْ الأردن ولبنان، ويركز على ما تقدمه الدولة وتاريخ الاحتجاج.  وتشرح الفصول التالية أهمية الموارد الأساسية والخدمات في توقعات المواطنين من دولهم، وعواقب انتهاك ذلك العقد الاجتماعي. ومن المثير أن الكتاب يميط اللثام أيضاً عن فكرة عامة حول الدولة المثالية، والتي يريد المواطنون أن تقدمها دولتهم وكيف يجب أن تتصرف. لا تأتي هذه الفكرة من ما قدمته الدولة في الماضي بقدر ما تأتي من المقارنة مع أوربا الغربية، وهذا في حد ذاته موضوع يحتاج إلى المزيد من الدراسة: ما الذي يريده الناس من دولهم، وكيف يتغير هذا بحسب البلد والمنطقة والطبقة السياسية والتربية؟

مقتطفات من مقدمة الكتاب

كان سند الذي يبلغ الرابعة من العمر يقف منتظراً في قاعة المحكمة في مدينة المفرق في شمال الأردن مع أخته التي في السابعة عشرة من عمرها وأمهما.  تم إخلاء الأرملة أم سند وأسرتها الصغيرة من منزلهم، نتيجة مباشرة لتدفق اللاجئين السوريين إلى الأردن.  كانت أم سند تدفع 75 ديناراً أردنياً في الشهر مقابل شقتهم، ما يعادل 199 دولاراً أميركياً، في السنوات التسع السابقة. زاد صاحب الشقة الإيجار ما يقارب 70٪ ولن تبقي لديها هذه التكلفة الجديدة إلا 10 دراهم (14 دولاراً أميركياً) كي تعيش عليها. هُددت مئات العائلات بشكل مشابه بالإخلاء في أنحاء المفرق، مع تزايد إيجارهم بنسبة 300٪. كان السوريون يتدفقون عبر الحدود باحثين عن مأوى في ذلك الوقت في 2013، وكان هذا وضعاً استغله أصحاب العمارات كي يزيدوا الإيجار. وقد ألب الموقف الابن على الأب، والأخ على الأخ، وفي النهاية، الأردني على السوري.

انضم أبو محمد إلى الاحتجاجات المتزايدة ضد الظلم. فقد ازداد إيجاره ثلاثة أضعاف بسبب السوريين. ولأنه لم يتمكن من الدفع اشترى خيمة وشارك مع عشرين عائلة في واحدة من أول عشرة احتجاجات. وأنشأ الأردنيون الذين تشردوا في وطنهم بسبب اللاجئين القادمين من سوريا مخيمهم الخاص الذي حمل اسم (مخيم النازحين الأردنيين رقم ١) في المفرق. حملت خيامهم شعار مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وكانت المفارقة هي أنها اشتُريت من اللاجئين السوريين. طالبت العائلات التي أُخليت من شققها بتدخل السلطات لتساعدها في حل مشكلة الإيجار العالي. ودعا مسؤولو الحكومة المحليون والوطنيون المحتجين إلى التفرق فرد المحتجون عليهم مهددين بالتصعيد وتحويل الاحتجاج المفتوح إلى إضراب عن الطعام إذا لم تُحل مشكلتهم. قال أحد المنظِّمين: ”نحن المحتجين ردينا عليهم أنه لا توجد طريقة لإيقاف الاحتجاج إلا إذا لبوا مطالبنا. إذا تدخلت الشرطة سنعلن الإضراب عن الطعام، بدون طعام وماء، وستصبح مدينة المفرق مدينة خيام“. لم يكن هؤلاء المحتجون الأردنيون تاريخياً جزءاً من المعارضة للحكومة. على العكس، كان يشكلون قاعدة دعم للنظام. لكنهم كانوا بحاجة لحل: صرّحوا أن وضعهم لا يمكن أن يستمر كما هو.

على بعد نصف ساعة من المفرق جلست حمدة مساعد في خيمتها التي صنعتها بنفسها، البالية والتي خربها الزمن. كانت الجدة البالغة 70عاماً من العمر تراقب شاحنات الإغاثة والمنظمات الخيرية تمر قرب خيمتها، التي تأوي عشرة أفراد من أسرتها، كي تقدم المساعدة في الجانب الآخر من الطريق في الزعتري، مخيم اللاجئين السوريين الذي بُني حديثاً. حسدت المواطنة الأردنية حمدة اللاجئين السوريين على الخيام الجميلة الجديدة وقالت لائمة: ”ألا يدركون أننا بحاجة للمساعدة أيضاً؟“    

إن قصص معاناة المواطنين، والتي افتُرض أن تدفق اللاجئين السوريين يقف وراءها، والإهمال الملحوظ للاحتياجات المحلية لصالح اللاجئين، سببت استياء كبيراً. في هذا الوقت، وبعد مرور عامين على الحرب السورية لم يكن هناك حب مفقود للاجئين السوريين. أصبحت شرائح واسعة من المجتمع في لبنان والأردن معادية علناً للسوريين بعد ترحيبهم الأولي بهم. كان التواجد السوري في هذين البلدين كبيراً جداً.  فقد تجاوزت أعداد اللاجئين السوريين أي رقم شوهد في الغرب. وشكل السوريون ما يعادل 10٪ من السكان في الأردن من 2014 إلى 2018، وفي لبنان كانت الأرقام أعلى بكثير: شكل السوريون في لبنان على الأقل ربع السكان. إن التأثير الديموغرافي للسوريين اكتسح المؤسسات والخدمات والبنية التحتية. وتساءل أشخاص من جميع الطبقات الاجتماعية ماذا تعني الهوية الوطنية. ”ما الذي يعنيه أن تكون أردنياً حين يكون 20٪ من بلادك سورياً أو عراقياً؟“. وكمجموعة أقلية غير محبوبة شعبياً، شكل اللاجئون السوريون على ما يبدو أكباش الفداء. ذلك أن أكباش الفداء ينقلون المسؤولية عن المظالم من الدولة إلى أقلية غير محبوبة أو جماعة مهاجرين. وحاولت هاتان الدولتان عند كل منعطف لوم السوريين على المشاكل الوطنية، بصرف النظر عن طول المدة التي سبقت بها وصول السوريين. وفي النمط العادي لتقديم الآخر ككبش فداء، حولت نخب الدولة انتباهها وعداءها إلى السوريين: كان بوسع الدولة أن تحل مشكلة الكهرباء في لبنان، لكن السوريين كانوا يأخذون خمس ساعات من الطاقة يومياً من المنازل. وعلى نحو مشابه، أعلنت السلطات في الأردن أن السوريين جففوا موارد المياه الوطنية واستهلكوا أكثر من المواطنين، الذين يحافظون على هذا المورد. لكن خطابات تحويل الآخر إلى كبش فداء لم تثمر كما تفعل هذه التكتيكات عادة، ذلك أنها لم تحرف الانتباه عن الدولة إلى غضب من أقلية أو مجموعة خارجية.

تأثرت الاحتياجات اليومية الأساسية بضغط السوريين الديمغرافي، مما غيّر أو هدد حياة المواطنين. واقتضت هذه الاحتياجات حلولاً، وليس مجرد لوم جماعة غير قادرة على حل مشاكلها الخاصة. يميّز هذا المظهر الأردن ولبنان عن حالات أخرى من محاولات تحويل الآخر إلى كبش فداء.  كان المواطنون (وما يزالون) غاضبين من السوريين لكن هذا الغضب لا يفعل أي شيء لتوفير الماء وإزالة النفايات أو توفير الكهرباء. وفي الحقيقة إن السكن والماء والنفايات (والتي كانت مشكلات وطنية لفترة طويلة) هي بعض المسائل الأساسية التي حثت على الاحتجاجات بين الأردنيين واللبنانيين ضد حكوماتهم. وفي احتجاجات الخيام، كالمذكورة أعلاه، لام المحتجون الأردنيون اللاجئين السوريين على مشكلتهم، وأراد كثيرون مغادرة السوريين لكن مطالبهم ركزت على معالجة ملموسة من الدولة. وأعلنت لافتات كبيرة في احتجاجات الخيام وطنية السكان وتوسلت من أجل السكن من الله والملك.  وأثناء الفترة نفسها في لبنان، تظاهر اللبنانيون وأحرقوا الإطارات وقطعوا الطرقات احتجاجاً على الافتقار الطويل للكهرباء في بعلبك، المنطقة التي تحتوي على أكبر عدد من اللاجئين السوريين.  وكان هناك إجماع شعبي بأن اللاجئين السوريين مسؤولون عن تجريد المواطنين من الكهرباء. واتهم المسؤولون اللاجئين بسرقة الكهرباء وبالتالي بشل قدرة الشبكة الكهربائية بسبب أعدادهم الكبيرة.  لكن بدلاً من احتجاجات موجهة ضد اللاجئين السوريين انتقد اللبنانيون واستهدفوا وزارة الطاقة وأذرع أخرى للدولة، مطالبين بالمزيد من الكهرباء.

أجهد وصول اللاجئين السوريين الموارد المحلية، مما استدعى الانتباه إلى مشاكل متوطنة أدت إلى احتجاجات ضد الدولتين من أجل معالجة الأمور. وكان كثير من تلك المشاكل متولداً عن الاحتياجات الأساسية اليومية وبعضها جوهري للبقاء. ورد المواطنون بلوم مزدوج: لاموا السوريين واعتبروهم السبب في هذه المشاكل لكنهم حملوا الدولتين مسؤولية حلها.  وركز الاحتجاج الناشط، باستثناءات قليلة، على مؤسسات الدولة المحلية والوطنية وطالب بحلول.  وحين نفد الماء من بلدة أردنية، لامت السوريين قائلة إنهم يستولون على مياه الأردن الوطنية النادرة.  وكانت منظمات المساعدة الدولية تقدم المياه للاجئين السوريين، وأحياناً تأخذ من الزاد المحلي.  لم يبد أن أحداً فكر بالاحتياجات الأردنية. وكانت أولويات المياه لدى المواطنين واضحة بشدة، وواجه المحتجون الأردنيون حكومتهم، وعلى نحو مفاجئ تماماً، الملك نفسه، بالبنادق. وقال أحد المحتجين الرئيسيين: ”ليس لدي ما أخسره. إذا لم أشرب الماء سأموت“.

قال لي أردني من أصل فلسطيني: ”إنه خطأ السوريين. لكن الحكومة يجب أن تفعل شيئاً حيال الأمر“.  ولم تفعل أموال المساعدات التي تم تلقيها لصالح السوريين شيئاً سوى تصعيد النقد.  وكما قال أحد اللبنانيين: ”قبل السوريين قال الناس إن المشكلة لبنانية. ثم لام السياسيون السوريين على كل النفايات واستخدام البنية التحتية. لكن السياسيين كانوا يحصلون على تلك الأموال من أجل هذه المشاكل. وهكذا انقلب الناس ضد السياسيين. تقولون إنكم تحصلون على كل هذه النقود ولا شيء يحصل“.  وقال لبناني آخر:” يوجد فقط كثير من السوريين بالنسبة لعدد السكان في لبنان.  يجب أن نكون إنسانيين معهم، لكن الدولة والأمم المتحدة لا تساعدان بما يكفي“.  وقال عضو مجلس مدينة أردني: ”لدينا احتجاجات خيام هنا (في شمال الأردن حيث يوجد عدد كبير من اللاجئين) لكن لم يعد لدينا الكثير منها. طالبوا بالمساعدة من الحكومة، وهذا حقهم (كأردنيين) في الدستور، كحق العمل والسكن والرعاية الصحية“. وأضاف موظف لبناني في اليونسيف: ”يدركون (اللبنانيون) في دواخلهم أن حكومتهم فاشلة. أحياناً يلومون السوريين لكنهم يدركون أكثر فأكثر أن السياسيين يستخدمون هذا اللوم من أجل فائدتهم الخاصة“.

تاريخياً، خدمت عملية تحويل الآخر إلى كبش فداء هدفها، أي تحويل الغضب بعيداً عن الدولة. لكن هذا التكتيك فشل في الأردن ولبنان حيث يوجد لاجئون سوريون. إن الفرق هنا هو أن المظالم تتعلق بموارد جوهرية للحياة. في حالات كهذه، يمكن أن تفوق الحاجة إلى الحلول التحويل إلى كبش فداء. إن أكباش الفداء نادراً ما يكونون في موقع كي يقدموا الماء والكهرباء أو السكن، ولا يستطيعون إعادة هيكلة نظام نفايات وطني.  في هذه الحالات، وضعوا احتياجاتهم الرئيسية فوق الاحتياجات السيكولوجية للوم جماعة مذنبة مفترضة. إن استخدام الدولتين لتكتيك تحويل الآخر إلى كبش فداء لإعفاء نفسها من الفحص والمسؤولية عن مشكلات بنيوية عميقة كان له نتائج عكسية كما يمكن القول. واتفق المواطنون في هذين البلدين المضيفين للاجئين أنه يجب لوم السوريين، لكنهم حملوا الدولتين مسؤولية تخفيف مظالمهم.                     

[نشرت في جدلية وترجمها أسامة إسبر]