إدواردو غاليانو
لا قيمة لحقوق الإنسان بالمقارنة مع حقوق الآلات. في المزيد من المدن، وتحديداً في المدن الكبرى للجنوب، يُحظر الناس، وتغتصب السيارات المكان البشري، تسمم الجو، وتقتل بصورة متكررة المتطفلين الذين يغزون أراضيها المفتوحة، ولم يرفع أحد إصبعاً كي يوقفها. هل يوجد فرق بين العنف الذي يقتل بالسيارة وذاك الذي يقتل بسكين أو رصاصة؟
الفاتيكان وطقوس قرابينه المقدسة
يمقت عصرنا المواصلات العامة. في منتصف القرن العشرين استخدم الأوروبيون القطارات والباصات ومترو الأنفاق والترامات من أجل ثلاثة أرباع ذهابهم ومجيئهم. اليوم الرقم هو الربع. ما يزال مرتفعاً بالمقارنة مع المعدل في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث المواصلات العامة، مُستأصلة في معظم المدن، ولا تشكل إلا ٥٪ من كل المواصلات.
كان هنري فورد وهارفي فايرستون صديقين في العشرينيات، وكانت علاقة كليهما جيدة مع آل روكفلر. دعمت عواطفهم المتبادلة تبادلاً للمصالح ركز على تفكيك السكك الحديدية وإنشاء شبكة واسعة من الطرق، ثم الطرق السريعة التي شملت الولايات المتحدة. مع مرور الأعوام، صارت قوة أقطاب السيارات والإطارات والنفط أكثر قدرة على التدمير. نصف الشركات الستين الأضخم في العالم إما ينتمي للحلف المقدس أو يعمل لديه.
تمتلك الولايات المتحدة التي تُعد فردوس هذا الزمن أكبر عدد من السيارات، والترسانة الأكبر من الأسلحة. ستة، ستة، ستة: من بين كل ستة دولارات ينفقها الأمريكي الشمالي العادي، هناك واحد للسيارة، ومن كل ست ساعات حياة، تُنْفق واحدة في السفر في السيارة أو العمل للدفع لها، ومن بين كل ست وظائف، ثمة واحدة تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بالسيارة، وأخرى بالعنف وصناعاته. كل جريمة بالسيارة أو المسدسات، تستهدف الناس أو الطبيعة، تضيف إلى الناتج القومي الإجمالي.
هل هي طلسمات ضد الوحدة أم دعوات للجريمة؟ تضاهي مبيعات السيارات مبيعات الأسلحة، ويمكن أن تعتبر السيارة بشكل جيد نوعاً من الأسلحة: إنها القتلة الرئيسيون للشبان، والبنادق القاتل الثاني. كل عام تقتل السيارات وتجرح عدداً من الأشخاص في الولايات المتحدة يفوق عدد كل الجنود الأمريكيين الذين قُتلوا وجُرحوا في حرب فيتنام الطويلة، وفي كثير من الولايات كل ما تحتاجه هو شهادة سواقة لشراء رشاش وتثقب الحارة كلها بالرصاص. شهادة السواقة مطلوبة أيضاً للدفع بالشيك أو لصرف شيك، لتوقيع الوثائق أو لتصديق عقد لدى الكاتب بالعدل. شهادة السواقة هي الهوية الأكثر شيوعاً: السيارات تمنح الناس هوياتهم.
يتمتع الأمريكيون الشماليون ببعض أرخص البنزين في العالم بفضل الشيوخ الذين يرتدون نظارات معتمة، الملوك الخارجين مباشرة من الأوبرات الخفيفة، وحلفاء آخرين للديمقراطية وظيفتهم هي بيع النفط في إطار صفقة متبادلة: ينتهكون حقوق الإنسان ويشترون الأسلحة الأمريكية. ووفقاً لحسابات مؤسسة وورلد ووتش، إذا أُخذت الأضرار البيئية و"كلف خفية" أخرى في الحسبان فإن سعر النفط سيتضاعف. وفي الولايات المتحدة البنزين أرخص بثلاث مرات منه في إيطاليا، ثاني بلد
في الولايات المتحدة بوسع الجميع أن ينجزوا حلم امتلاك سيارة، ويستطيع كثيرون أن يقايضوا سياراتهم بشكل منتظم بأخرى جديدة. هل أنت غير قادر على الدفع من أجل آخر موديل؟ يمكن التغلب على أزمة الهوية هذه ببخاخات الأيروسول التي تجعل سيارتك القديمة التي اشتريتها منذ ثلاث أو أربع سنوات مضمخة برائحة تجعلها تبدو جيدة كالجديدة.في العالم من ناحية عدد السيارات العاملة فيه، والمعدل العام لاستهلاك كل أمريكي من البنزين أعلى بأربع مرات من الإيطالي العادي، وهذا يعني الكثير. إن المجتمع الأمريكي مسؤول عن انبعاث ربع أسوأ الغازات التي تسمم الجو. ورغم أن السيارات وظمأها الذي لا يرتوي للبنزين هي التي يجب أن تلام أكثر، فإن السياسيين هم الذين يمنحون السيارات الحق في النجاح والسيادة مقابل النقود والأصوات. كلما اقترح أحمق ما رفع ضرائب البنزين، صرخ الثلاثة الكبار في ديترويت (جنرال موتورز، فورد وكرايسلر) للسماء وبدعم شعبي واسع تُشن حملات بكلفة مليون دولار لشجب هذا التهديد المقيت للحرية العامة. حين يشعر سياسي عنيد أن الشكوك تملأه تصف الشركات علاجاً لا يخطئ، كما عبرت النيوزويك مرة عن الأمر:"إن العلاقة بين النقود والسياسة عضوية بحيث أن السعي وراء الإصلاح مثل الطلب من الطبيب إجراء جراحة قلب مفتوح لنفسه". نادراً ما يرغب أي سياسي، ديمقراطي أو جمهوري، بالقيام بفعل تدنيس ضد طريقة حياة وطنية تبجل الآلات وتبدد الموارد الطبيعية للكوكب وتساوي التنمية البشرية بالنمو الاقتصادي. تمجد الإعلانات المعجزات التي تجترحها تلك الطريقة في الحياة، معجزات سيحب العالم كله أن تكون من نصيبه.
إن الشيخوخة علامة فشل كالموت، والسيارة هي الجسد الشاب إلى الأبد الذي تستطيع شراءه. وهي تأكل البنزين والزيت في مطاعمها، ولها صيدلياتها وأدويتها الخاصة، ومستشفياتها للتشخيص والعلاج، ولها حتى غرف نومها ومقابرها. تعدُ السيارات الناس بالحرية (لم يطلقوا على الطرق السريعة اسم الطرق الحرة من أجل لا شيء) لكنها تعمل كأقفاص سفر. ورغم التقدم التكنولوجي، يزداد يوم العمل البشري طولاً سنة بعد سنة وأيضاً الوقت المطلوب للوصول إلى العمل والعودة في المواصلات التي تتحرك زحفاً وتمزق أعصابك. إنك تعيش في سيارتك ولن تتركك تذهب. "أطلقْ النار وأنت تقود السيارة": دون أن تغادر سيارتك المسرعة تستطيع أن تضغط على الزناد وتطلق النار بشكل أعمى، كما يفعل بعض الأشخاص أحياناً في ليل لوس أنجلوس. "ادخلْ بسيارتك إلى المصرف"، "ادخل بسيارتك إلى المطعم": دون أن تخرج من سيارتك تستطيع أن تأخذ النقود من المصرف وتأكل الهمبرغر للعشاء، ودون أن تغادر سيارتك تستطيع أيضاً أن تتزوج: "قدْ سيارتك إلى حيث يتم الزفاف". في رينو بولاية نيفادا تسير السيارة تحت أقواس من الأزهار البلاستيكية، يظهر شاهدٌ عند نافذة وكاهن عند النافذة الأخرى والكتاب المقدس في يده ويعلنكما زوجاً وزوجة. في طريق خروجكما تقف امرأة تلبس جناحين وهالة تمنحك شهادة زواجك وتتلقى "تبرع حبك". إن السيارة، ذلك الجسد القابل للشراء، تتحرك بينما الجسد البشري يجلس ثابتاً ويسمن. يمتلك الجسد الآلي حقوقاً أكثر من الجسد المؤلف من لحم وعظم.
كما نعرف جميعاً، شنت الولايات المتحدة حرباً مقدسة ضد الشيطان ”تبغ". شاهدتُ إعلاناً عن السجائر مع التحذير المطلوب حول الصحة العامة: "يحتوي دخان التبغ على أول أوكسيد الكربون". لكن المجلة نفسها تنشر عدة إعلانات عن السيارات ولا يحذر أي منها أن دخان السيارات، والذي هو تقريباً دوماً غير مرئي، يحتوي على كمية أكبر من أول أوكسيد الكربون. الناس لا يستطيعون أن يدخنوا. لكن السيارات تستطيع.
إن السيارات كالآلهة، وهي مولودة لتخدم الناس كرقى حظ جيد ضد الخوف والعزلة، لكنها تنتهي إلى جعل الناس خدماً لها. إن كنيسة السيارة المقدسة بفاتيكانها الموجود في الولايات المتحدة أركعت العالم كله على ركبتيه. برهن انتشار إنجيل السيارة أنه كارثي، وكل نسخة جديدة تعدد بشكل هذياني نواقص الأصلية. تنتشر نسبة صغيرة من سيارات العالم في شوارع أمريكا اللاتينية لكن أمريكا اللاتينية فيها بعض المدن الأكثر تلوثاً في العالم. أفسحت بنى الظلم الوراثي، المليئة بالتناقضات الاجتماعية الشرسة، المجال لمدن هي وحوش تكبر خارج السيطرة الممكنة. كان الإيمان المستورد بالإله ذي العجلات الأربع والخلط بين الديمقراطية والاستهلاك أكثر تدميراً من أي حملة قصف.
لم يسبق أن عانى كثيرون هكذا أبداً من أجل هذا العدد القليل. فقد جعلت المواصلات العامة السيئة جداً وغياب خطوط الدراجات الهوائية استخدام السيارات الخاصة إلزامياً على المستوى العملي، لكن كم من الناس يستطيعون الاستمتاع بهذا الترف؟ إن الأمريكيين اللاتينيين الذين لا يملكون سيارة والذين لا يستطيعون أن يأملوا أبداً شراء واحدة يعيشون مغمورين في المواصلات ومختنقين من الدخان. الأرصفة تتقلص أو تختفي، والمسافات تزداد، ومزيد من السيارات يعبر الطرق بينما يقل عدد الناس الذين يلتقون. لم تعد الباصات نادرة في معظم المدن الأمريكية اللاتينية فحسب بل يتألف النقل العام من بضعة أكوام صدئة تنفث دخاناً قاتلاً من عوادمها، مزيدة للتلوث بدلاً من أن تخفف منه. باسم الحرية (المشاريع الحرة والطرق السريعة وحرية الشراء) صار هواء العالم غير قابل للتنفس. ليست السيارات الطرف الوحيد المذنب في ارتكاب هذه الجريمة اليومية، لكنها المجرم الأسوأ، وتنتج في المدن في أنحاء العالم معظم الكوكتيل الضار الذي يدمر الرئتين والعينين وكل شيء آخر. تسبب معظم الضجيج والتوتر الذي يؤلم آذاننا ويجعل شعر رأسنا يقف. في الشمال، السيارات ملزمة بشكل عام باستخدام وقود وتكنولوجيا تحد على الأقل من السموم التي تبثها، وهذا تحسن جيد، لولا أن السيارات تتناسل كالذباب، لكن في الجنوب الأمر أسوأ بكثير. إذ نادراً ما يكون البنزين الخالي من الرصاص والكتلايزر (المحول الحفاز) مطلوبين، وحتى عندئذ القانون يُحترم لكن لا يطاع، كما يقتضي تقليد يعود إلى العهد الاستعماري. تخترق زخات معدن الرصاص الوحشية الدم باحتقار كامل وتهاجم الرئتين والكبد والعظام والروح. يمضي سكان أكبر المدن في أمريكا اللاتينية أيامهم مصلين للمطر كي ينظف الهواء أو الريح كي تبعد السموم إلى مكان آخر. وتعيش مدينة مكسيكو، أكبر مدينة في العالم، في حالة طوارئ بيئية متواصلة. منذ خمسة قرون، سألتْ أغنية آزتيكية:
من يستطيع أن يحاصر تينشوتيتلان؟
من يستطيع تحريك أسس السماء؟
إن المدينة التي دُعيت مرة تينوشتيتلان محاصرة اليوم بالتلوث. يولد الأطفال بمعدن رصاص في دمهم ويعاني واحد من كل ثلاثة من صداع متكرر. تُقرأ توجيهات الحكومة للتعامل مع طاعون السيارات كدفاع ضد غزو من المريخ. في ١٩٥٥، نصحت اللجنة المدينية للوقاية من التلوث البيئي والتحكم به سكان عاصمة المكسيك أنه في ما يُدعى بأيام الطوارئ البيئية يجب أن يقللوا من الخروج قدر الإمكان وأن يُبْقوا الأبواب والنوافذ وفتحات التهوية مغلقة، وألا يمارسوا الرياضة بين العاشرة والرابعة بعد الظهر. في هذه الأيام، التي تحدث بشكل أكثر تكرراً، أكثر من نصف مليون شخص يتطلب نوعاً من الانتباه الطبي بسبب تنفس ما عُرف منذ وقت ليس بطويل بأنه "الهواء الأكثر شفافية". في نهاية ١٩٩٦، تظاهر خمسة عشر فلاحاً فقيراً من ولاية جويريرو في مكسيكو سيتي كي يحتجوا على المظالم فنُقلوا جميعاً إلى المستشفيات العامة. في يوم آخر في ذلك العام، تساقط مطر غزير على مدينة ساو باولو، مسبباً أكبر ازدحام مروري في تاريخ البلاد. احتفل العمدة باولو معلوف: "الازدحام المروري علامة على التقدم".
تدخل ألف سيارة جديدة إلى شوارع ساو باولو كل يوم. تتنفس المدينة يوم الأحد وتختنق طوال الأسبوع. لا تستطيع مشاهدة خط السماء من المحيط إلا يوم الأحد. يحب عمدة ريو دي جانيرو لويث باولو كونديو أيضاً الاختناقات المرورية. قال مرة: "بفضل بَرَكة الحضارة المدينية يستطيع راكبو السيارات أن يتحدثوا بهواتفهم النقالة، ويشاهدوا تلفزيوناتهم المحمولة، ويستمتعوا بموسيقا الكاسيتات أو الأقراص المضغوطة". أعلن العمدة: "في المستقبل ستُعد مدينة بدون اختناقات مرورية مضجرة". تزامن تنبؤه مع كارثة بيئية في سانتياغو دي تشيلي. أُغلقت المدارس وملأت حشود الأطفال غرف الطوارئ. قال علماء البيئة: في سانتياغو يتنفس كل طفل ما يعادل سبع سجائر يومياً، ويعاني طفل من كل أربعة من شكل ما من الالتهاب الشعبي. كانت المدينة مفصولة عن السماء بمظلة من التلوث الذي تضاعفت سماكته في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، المدة التي تضاعف فيها أيضاً عدد السيارات. صارت "أجواء" المدينة التي تدعى بوينس آيرس أكثر سمية سنة بعد سنة، بشكل واكب السيارات، التي ازدادت نصف مليون كل ١٢ شهراً. وفي ١٩٩٦ عانى ١٦ حياً من مستويات ضجيج "خطيرة جداً"، ضوضاء مستمرة قالت منظمة الصحة العالمية "تسبب مشاكل صحية غير قابلة للعلاج". كان شارلي شابلن يحب أن يقول
يفرض المجتمع الاستهلاكي رمزيته السلطوية الخاصة وأساطيره الخاصة في التقدم الاجتماعي. فالإعلانات ترسل دعوات للانضمام إلى الطبقة الحاكمة، وكل ما تحتاجه المسألة مفتاح إشعال صغير. "خذه بطريقتك!" يرعد الصوت الذي يصدر الأوامر في السوق. "أنت المسؤول! اعرض أشياءك باختيال!". وإذا وضعت نمراً في دبابتك بحسب لوحات الإعلانات التي أتذكرها من طفولتي، ستكون أسرع وأقوى من أي شخص، وتسحق كل من يقف في طريقك إلى النجاح. تخلق اللغة واقعاً يعتمد عليه الإعلان، لكن الواقع الحقيقي ليس إطلاقاً مثل رقى السحر التجاري.إن الصمت ذهب الفقراء. مرت أعوام وما يزال الصمت امتياز القلة التي تستطيع تأمينه.
مع كل طفلين يولدان في العالم تولد سيارة، ونسبة ولادة السيارات أعلى من نسبة ولادة البشر. يريد كل طفل أن يمتلك سيارة، سيارتين، ألف سيارة. كم من البالغين سيكونون قادرين على تحقيق أحلام طفولتهم؟ تظهر الأرقام أن السيارات امتياز، وليست حقاً. يمتلك خمس البشرية
تحب الإعلانات أن تروج للسيارات الجديدة كما لو أنها أسلحة. على الأقل هذه طريقة لا تكذب بها الإعلانات. إن السرعة مثل إطلاق النار من سلاح، تقدم المتعة نفسها والقوة نفسها. تقتل السيارات كل عام عدداً من الناس كالذي قُتل في هيروشيما وناغازاكي. في ١٩٩٠ سببت من الوفيات والعجز أكثر مما سببته الحروب والإيدز. وبحسب تنبؤات منظمة الصحة العالمية ستكون السيارات في ٢٠٢٠ السبب الأكبر الثالث للموت والعجز. ستكون الحرب السبب الثامن والإيدز العاشر. أربعة أخماس السيارات، رغم أن كل خمسة أخماس البشرية يجب أن يتنفسوا الهواء المسموم الناتج. كمثل رموز كثيرة أخرى للمجتمع الاستهلاكي، تنتمي السيارات إلى قلة تتحول عاداتها إلى حقائق كونية، مجبرة بقيتنا على رؤية السيارات على أنها الامتداد الوحيد الممكن للجسد البشري. إن عدد السيارات في مدن أمريكا اللاتينية يواصل الازدياد لكنه ليس شيئاً بالمقارنة مع ذلك في مراكز رخاء العالم. في ١٩٩٥، كان في الولايات المتحدة وكندا من السيارات أكثر من بقية العالم كله، إذا وضعنا أوروبا جانباً. امتلكت ألمانيا في ذلك العام من السيارات والشاحنات والبيك آبات والمنازل المتنقلة والدراجات النارية بقدر ما يوجد في كل أمريكا اللاتينية وأفريقيا. لكن في مدن الجنوب ثلاث من بين كل أربع وفيات سببها السيارة. من بين الثلاثة الذين يموتون، اثنان هم من المشاة. تمتلك البرازيل ثلث ما تملكه ألمانيا من السيارات لكن عدد ضحايا السيارات فيها أعلى بثلاث مرات. كل عام تعاني كولومبيا من ستة آلاف جريمة قتل تدعى بلباقة "حوادث سير".
إن صيد المشاة جزء من الروتين اليومي في المدن الأمريكية اللاتينية الكبيرة، حيث القراصنة الذين على أربع عجلات يشجعون الغرور التقليدي لأولئك الذين يحكمون ولأولئك الذين يتصرفون كأنهم يفعلون ذلك. إن شهادة السواقة مكافئ لرخصة السلاح، وتمنحك الترخيص للقتل. هناك المزيد من العفاريت المستعدة لدهس أي شخص يعبر في طريقها. وبسبب عمليات قطع الطرق الشائعة جعل الذعر من السرقات والاختطافات التوقف على إشارات المرور الحمراء أكثر خطراً وأقل شيوعاً. في بعض المدن تعني إشارات المرور الحمراء، أسرعْ. تضغط الأقليات ذات الامتيازات، المحكوم عليها بخوف أبدي، على دواسة السرعة كي تهرب من الواقع، ذلك الشيء الخطير الكامن في الجانب الآخر من نوافذ السيارة المغلقة بإحكام.
في ١٩٢٢ جرى استفتاء في أمستردام، صوت الناس كي يخفضوا إلى النصف المناطق المحظورة حيث تستطيع السيارات الانتشار في مملكة راكبي الدراجات الهوائية والمشاة. بعد ثلاث سنوات، تمردت فلورنسة ضد الأرستقراطية، دكتاتورية السيارات، وحظرت على السيارات الدخول في وسط البلد. أعلن العمدة أن المنع سيُوسَّع تدريجياً كي يشمل المدينة كلها بينما سيُوسع الترام وقطارات الأنفاق وخطوط الباصات وممرات المشاة وممرات الدراجات، أيضاً: بحسب الخطط سيكون ممكناً أن تقود دراجتك في أي مكان في المدينة بأمان، على وسائل نقل رخيصة، لا تعمل على أي شيء، اخترعها منذ خمسة قرون الفلورنسي ليوناردو دافنشي.
التحديث، المكننة: يغرق زئير المواصلات كورس الأصوات شاجباً خفة يد الحضارة التي تسرق حريتنا ثم تبيعها لنا من جديد، التي تقطع أرجلنا كي تجعلنا نشتري أرجلاً اصطناعية. ثمة من يفرض على العالم طريقة وحيدة في الحياة هي كابوس مدن تحكمها السيارات. تحلم مدن أمريكا اللاتينية أن تصبح مثل لوس أنجلوس، بسياراتها الثماني مليون التي تصدر أوامرها للناس. نحن الأمريكيين اللاتينيين المدربين لمدة خمسة قرون كي ننسخ لا كي نبدع، نتوق إلى أن نصبح محاكاة غرائبية. إذا كان محكوماً علينا أن نكون مقلدين، ألا نستطيع على الأقل أن نكون أكثر حرصاً حيال ما نختار تقليده؟
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: Eduardo Galeano, Upside Down: A Primer for the Looking-Glass World].