اشتياق
إنّهُ الليل
واشنطن تلتحفُ البياض
شقتي تغرقُ في صمتٍ
تراقصهُ أغنيةٌ كئيبة
مات صاحبُها
في فندقٍ، عجوزٌ
لم يمش في جنازتهِ أحد
هكذا هو الحال
أن تعيش وحيداً
هو أن تمشي حافياً
على حافةِ هاويةٍ مظلمة
يَطِنُّ قعرُها بصراخ من تركتهم
في بلدك البعيد
مَسقط الرأس ذاك
حيث سُقيتَ أول كأسٍ
من أجاج المرارة
في ذُروة القَصْف
تحت الشمس
وعدسات الكاميرا الشقراء
كان هذا منذ زمن
وها أنت ترتعُ في ليلٍ
بردهُ صلفٌ
ماراً بخيمة مُشردٍ
يغرقُ برهاويلهِ
حيثُ ينهمكُ
بلفِ آخر جوينت قبل الممات
وأنت تهفُّ في عزِّ سُدُوركَ
بغير ما هدفٍ
ملتحفاً بكلِ خيباتك
وعلى ظهركَ كيسُ المَصيبة
تحملهُ أينما حللت
نصيبكَ من الدنيا
أن تقبعَ في لُبّ عُزلتك
وأن تسرح
(عبر الأسلاك الشائكة)
إلى باحة المدرسة الثانوية
في بغداد
لِتعبَّ من شجر اليوكالبتوس
وأن تسير فرحاً
لحظةً مغشوشةً
دونما دم
في حي الطفولة
لتحتضنَ طيف ديما
تلك الملاك
تلك البلاد
اللّعنةُ على تلك البلاد!
فصل آخر في رحلة الهروب
في قلب قطارٍ
يزحفُ غرباً في صميم الليل
فوق قرى طُمرت بأهلها
على شرف الرجل الأبيض
قبل أن تولد أنت
ويَصلُبَ مدينتك في مرمى نيرانه
ليُعربد فيها متى ما شاء
(على وقع دفٍ
تهتزُ لضربه أستاه أفنديةٍ
من بلدك...)
تجلسُ وحيداً
لصق نافذةٍ
تمرُ عبرها منازل
كم تبدو كئيبةً لك
رغم زينة الميلاد
أنت الذي جئت من حي
كان عامراً يوماً
بضحكاتٍ وهلاهل
أسكتتها غارة
قد يكون فارسها مسافراً معك
هذا المساء
ولا تدري
قادماً من واشنطن
حيث تفوحُ برك البول
تحت أعمدة الرخام
وتهجع مبكراً
شوارع لا تطيق ارتيادها
في طريقك إلى شيكاغو
هنا
في البلاد التي تحب الكلاب
وتكرهُ شعبك واسم الجنوب[*]
حالماً بكتابة قصيدةٍ
قد تذعن كلماتها لتواسيك الآن
على طاولةٍ دبقة
في عربة الطعام
أين تجلسُ
وعينكَ على الباب
متوجساً
وخلف الباب
الركابُ نيام
وماضيك
متسربلاً بأكفان أيامه السوداء
كاللص يتربص.
ولولةٌ ليلية
هكذا إذاً
تتمنعُ عليك حتى الأبجدية
حين يتسلقُ الليل جُدران المنافي
يرتفعُ نشيجكُ في المساء
وتَنسلُ، كاللصِ
من بابِ الذاكرة المَخلوع
(صريرهُ لن يوقظ الراغدين في أمريكا)
لتسيرَ وحدك
على ضفةٍ جرداء عند دجلة
أو تجلسَ، يتيماً، عند بابٍ مزقتهُ الشظايا
تراقبُ، بصمت
أباك يُلمعُ الفيات الزرقاء تحت النارنجة:
"تُحفة مال ألله!"
أمُكَ، حيةٌ، جميلةٌ، كما عرفتها
تقفُ عند شُباك المطبخ
تُحادثُ أحداً ما، باسمةً
أو تعدُ وجبةً لذيذة
وأنتَ، صغيرٌ، سعيدٌ، لاتُشبهكَ
تجري حافياً خلف كُرة القدم
مع أخيك وأولاد عمك
تحت نخلةٍ لم تعد هناك
في عَصريةٍ
سبقت حرباً كانت تئنُ في رحمِ غدٍ
يصكُ أسنانهُ إذ يَعرجُ في طريقهِ، مُبتسماً
إلى بغداد
عندما كان الجوعُ يقرفصُ على عتبات البيوت
وحمتك أُمّكَ بين يديها من ضيم الحصار
أُمّكَ...
-
"حارّة أريد هَوَة!"
-
اختارها الوباء
لترقدَ في مشفى لا يُشفى فيه أحد
مشفى مازلتَ تذرعُ أروقتهُ في المنام
-
"هاي شبيكم؟ لتخافون!"
-
ويهبطُ الأوكسجين
ويرتطمُ رأسُ جُمانة بقاع الهاوية
-
"ألله يفرحك أمي"
-
وتقبلُ يديها
لأنكَ طفلٌ شاخَ بعد صلاة الجنازة
مازلتَ تلوبُ
هُناك، في مستشفى الكاظمية
حيثُ أعالي البُكاء وصرخاتُ الثكالى:
"يبوووو!"
وتُدفعُ الأسِرَّة إلى ثلاجة الموتى
ثم تدنو من قبر الوالدة
ذاهلاً
مع شروق الشمس
لتقبلَ ثراها
قبل أن توصد الباب
وتغفو في بلدٍ بعيد.
هامش:
[*]: محمود درويش، فرسٌ للغريب.