سينيشا مالشفيتش، ترجمة طارق عثمان
(الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021)
[د. طارق عثمان، باحث ومترجم مصري، متخصص في العلوم الاجتماعيّة. صدرت له ترجمة "حاوي الثورة المصريّة" لوالتر أرمبرست، و"ما هي الشريعة؟" لوائل حلاق، كلاهما عن مركز نماء للبحوث والدراسات. وله العديد من الأوراق البحثية والمقالات المنشورة إلكترونياً].
[سينيشا مالشيفيتش، عالم اجتماع أيرلندي من أصل كرواتي، حاصل على الدكتوراه من كلية كورك الجامعية بأيرلندا. شغل العديد من المناصب الأكاديمية، أهمها: أستاذ ورئيس قسم السوسيولوجيا بكلية دبلن الجامعية، وأستاذ زائر بكلية لندن للاقتصاد، وأستاذ مساعد بالجامعة الوطنية بأيرلندا. تنصبّ اهتماماته البحثية على دراسة الحرب والعنف المنظم، والإثنية، والدولة-القومية، والأيديولوجيا، والقومية، والنظرية السوسيولوجية، والسوسيولوجيا التاريخية المقارنة].
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
طارق عثمان (ط. ع.): أنا مهتم بدراسة ظاهرة العنف البشري عامة، وبعلاقة العنف بالدين خاصة. وقد ترجمتُ عدداً من الدراسات في هذا الصدد، وهي: "حتى قيام الساعة: جيرار وشميت وأصول العنف" لأنطونيو سيريلا؛ و"عنف الدين: فحص أسطورة رائجة" لوليام كافانو؛ و"إعادة التفكير في العنف الديني: نحو مقاربة محاكية للعنف في العلاقات الدولية" لسكوت توماس؛ و"ما هو الديني حقا في الإرهاب الديني؟" لجيروين جانينج وريتشارد جاكسون. كما كتبتُ دراسة بعنوان "ما وراء الجهاد: نحو سيكولوجيا اجتماعية للمقاتلين الأجانب". واستكمالاً لهذا المسار، ترجمت هذا الكتاب الذي يطرح نظرية سوسيولوجية تاريخية شاملة للعنف المنظم وتحديداً لأهم تجلياته الحديثة: الحرب.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ط. ع.): يحاجج المؤلف، نظريّاً وإمبريقيّاً، عن الأطروحات الأساسية التالية:
- العنف المنظم والحرب ظاهرة اجتماعية في الأساس لا يمكن اختزالها في أية أبعاد بيولوجية أو نفسية أو ثقافية.
- الحرب ظاهرة حديثة تماماً، يوجد عنف ما قبل حديث بالطبع، لكن لا توجد حرب ما قبل حديثة بالمعنى الحق لكلمة حرب.
- يوجد سيرورتان اجتماعيتان أساسيتان تطورتا مع مرور الزمن، إلى أن بلغتا ذروتيهما في العصر الحديث، إليهما يرجع ظهور العنف المنظم واستفحاله: التنظيم الاجتماعي، والأدلجة الجماهيرية. وبالتالي، لم توجد الحرب فيما قبل الحداثة بسبب ضعف هذين السيرورتين أو غيابهما بالكلية، بينما استفحل العنف المنظم في الحقبة الحديثة بسبب تطورهما بل بلوغهما الذروة.
- يوجد ارتباط وثيق بين العنف المنظم والتطور الاجتماعي، فاستعمال العنف المنظم كان شرطاً أساسياً للتحديث.
- لا توجد علاقة سببية بين الحرب والقومية، فالقومية لا تخلق الحرب ولا الحرب تخلق القومية.
- لا تتمتع البروباغندا بتلك القوة الهائلة التي تُعزى إليها غالباً، فعوضاً عن أن تكون آلة غسيل مخ عملاقة، قادرة على تحويل الأفراد المسالمين إلى قتلة متعطشين للدماء، تلعب البروباغندا دوراً أكثر تواضعاً من ذلك بكثير.
- ولدت التقسيمات والتراتبيات الاجتماعية من رحم العنف المنظم ولا يمكنها الاستغناء عنه. فلم يختفِ العنف ولم تختفِ اللامساواة الاجتماعية في الحقبة الحديثة: وإنما تحولا فحسب، وأصبحا بحاجة إلى قدر أكبر من التبرير. والأمر الأكثر أهمية هو أن الحداثة، وعلى خلاف التصور الرائج، لم تنجح في قطع الحبل السري الذي يربط بين العنف والتقسيم الاجتماعي. ففي هذا العصر، وتماماً ككل العصور التي سبقته، لا تزال اللامساواة الاجتماعية ترتدي معطفها العنيف.
- لا يرجع التقسيم الجندري للحرب، أي استبعاد النساء من نطاق الحرب، إلى أسباب بيولوجية أو ثقافية في الأساس وإنما إلى أسباب تنظيمية وأيديولوجية.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ط. ع.): أثناء تأسيسه السوسيولوجي النظري للكتاب، سعى المؤلف إلى إحياء فكر مجموعة من المنظرين الاجتماعيين الكلاسيكين المنسيين. ولأنهم منسيون، وأعمالهم غير مشهورة ضمن التيار السائد لعلم الاجتماع المعاصر، وجدت قدراً من الصعوبة في ترجمة بعض مصطلحاتهم.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ط. ع.): بالرغم من طبيعة الكتاب الأكاديمية، إلا أنه في متناول القارئ غير المتخصص، بحيث لن يجد أي مشقة في فهم أفكاره. وأتمنى أن يجد فيه كل من يبحث عن تفسيرات لظاهرة العنف المنظم والحرب ما يروي غليله.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ط. ع.): أنا مهتم منذ حين بحقل أكاديمي بعيد تماماً عن السوسيولوجيا، وهو الدراسات الكتابية والقرآنية. وأترجم حالياً مجموعة من الدراسات في النص القرآني، ستنشر لاحقاً في كتاب.
مقتطف من الكتاب
وبناءً عليه، لا ينتج العنف عن عدوانية فطرية متأصلة فينا، ولا عن "أسقام اجتماعية" خارجة عنا، وإنما هو شيء يتطلب حدوثه فعلاً اجتماعياً مكثفاً. فكبشر، نحن لدينا القدرة والاستعداد لأن نكون أنانيين ولأن نكون متكافلين. إن المفارقة الأساسية لسجال ماكيافيلي/هوبز ضد روسو/كنط هي التالية: افتقار كلا المنظورين إلى العين السوسيولوجية قد أدى بهما إلى تشخيص الواقع الاجتماعي على نحو خاطئ: الفكرة هي أننا عندما نتصرف وفق تصور هوبز عن الحالة الطبيعية - كأنانيين مشغولين بحفظ أنفسنا - فإننا نفعل ذلك من أجل أسباب روسويّة تماماً، وفي سياقات روسويّة على الدوام تقريباً. فكما أننا نحتاج إلى آخرين كي نقتلهم، نحن نحتاج أيضاً إلى آخرين كي نضحي بأنفسنا من أجلهم. إن انغراسنا في المجتمع هو مصدر كل من أنانيتنا وغيريتنا على حد السواء. فنحن نقاتل ونقتل بأفضل ما عندنا حينما نكون في حضرة الآخرين - لكي نثير إعجابهم ونسرّهم، لكي نمتثل لهم، لكي نخفي خوفنا، لكي نغنم، ولكي نتلافى الخزي والعار؛ ولغيرها من الأسباب. وهذه الروابط الاجتماعية بعينها هي التي تجعلنا، بنفس القدر، وفي الوقت نفسه غالباً، شهداء وقتلة. إن الخبرة التاريخية تعلمنا أن الحياة لا تغدو "بئيسة وبغيضة ووحشية وقصيرة" عندما نعيش "بمفردنا"، وإنما هي تغدو كذلك عندما نعيش في جماعات، بسبب أننا نعيش في جماعات [قلب لتوصيف هوبز الشهير للحياة خارج المجتمع في كتابه الليفياثان].
ومن ثمَّ، فحقيقة أن علاقتنا بالعنف والحرب محدّدة في معظمها بطبيعتنا الاجتماعية لَتشيرُ إلى أنه لكي نفهم الحرب والعنف يتعين علينا أن نفهم الاجتماعي. وبعبارة أخرى، من دون تحليل سوسيولوجي شامل لا يمكن أن يوجد تفسير حقيقي شافٍ للعنف والحرب. لكن لسوء الحظ، يبدو أن جزءاً كبيراً من الأكاديميا المعاصرة لا يتبنى هذا الرأي، فلا الدراسات التقليدية للحرب والعنف الجماعي تشتبك مع السوسيولوجيا على نحو مُعتَبر، ولا يكرس أي من تيارات السوسيولوجيا الرئيسة المعاصرة الكثير من الانتباه لدراسة الحرب والعنف المنظم (Shaw, 1984; Joas, 2003; Wimmer and Min, 2006). ومن هنا، جعلتُ الهدف الأساسي لهذا الكتاب تبيين أنه لا غنى لنا عن استخدام الأدوات السوسيولوجية، إذا ما أردنا أن نفهم الطبيعة المتغيرة للحرب والعنف بأحسن الفهم. وبالتحديد، يركز الكتاب على فحص التأثير التاريخي والمعاصر للقسر (coercion) والحرب على تبدّل الحياة الاجتماعية، وبالعكس - أي تأثير تبدّل الحياة الاجتماعية على طبيعة القسر والحرب. فعلى الرغم من أن العنف الجماعي والحرب قد شكلا جُلّ التاريخ البشري المُسجل، وكانا مكونين أساسيين من بين المكونات التي شكّلت النظام الاجتماعي الحديث، إلا أن التحليلات المعاصرة تجفل من الدراسة السوسيولوجية لهذه الأصول والطبيعة الدموية للحياة الاجتماعية. وذلك على الرغم من أن العنف، سواء رضينا بذلك أم لم نرضَ، هو أحد المكونات المركزية للذاتية البشرية، خاصة الذاتية الحديثة، وذلك بما أن الحداثة كما نعرفها لم يكن لها أن تكون من دون العنف المنظم.
لكن هذا لا يعني القول بأن البشر بما هم كذلك ميالون للعنف أو معجبون به. على العكس، البشر لديهم نفور معياري من السلوك العنيف، وهذا هو السبب الذي يجعلهم عامة – كأفراد - منفّذين ضعافاً لأعمال العنف، والذي يجعل معظم حياتنا اليومية خالية من العنف، بحيث نجد الحروب والمقاتل أمراً فاتناً للغاية. إنها فاتنة لأنها، من وجهة نظر الحياة اليومية، نادرة وصعبة وغريبة. إن هوسنا بها راجع إلى خوفنا وهيبتنا من شيء ليس شائعاً ولا معتاداً وإنما استثنائي، وعصي على الفهم من بعض المناحي. فلكونه شيئاً مناقضاً لتربيتنا الاجتماعية، وشيئاً لا نراه أو نشارك فيه عادة، يغدو إلحاق الأذى بالآخرين أمراً فاتناً. فعوضاً عن أن يكون علامة على "طبيعتنا العنيفة جوهريّاً"، افتتان البشر بالعنف والحرب هو مؤشر دقيق على أن هذه الظواهر غريبة وشاذة وغير معتادة. نحن نشعر بالفضول حيال شيء لا نعرفه ولا نجربه إلا فيما ندر، أو لا نجربه على الإطلاق، وليس حيال شيء عادي وحاضر على الدوام. إن العنف يجذب انتباهنا تحديداً لأننا لسنا بارعين فيه، ولأننا لا نلاقيه على نحو يومي. فكما يلاحظ عالم النفس الفرنسي سيرجي موسكوفيسي، على نحو ساخر، صورة الشيطان "ناجعة ومؤثرة للغاية تحديداً لأننا لا نلاقيه في الشارع" (Moscovici, 1986: 157).
لكن إذا كان البشر، في معظمهم، متحاشين للعنف، وسيئين في القيام به، لماذا كانت الحروب شائعة إلى هذا الحد على مدار التاريخ البشري؟ وعلى وجه الخصوص، لماذا زادت بهذا الشكل الكبير للغاية في العصر الحديث؟
في مسعاه للإجابة عن هذا السؤال، يركز هذا الكتاب على دور كل من التنظيم الاجتماعي والأيديولوجيا في تعزيز الشروط الاجتماعية التي من شأنها أن تيسّر مشاركة الجماهير في أعمال عنف واسعة النطاق، وخاصة في الحروب. والطرح المركزي للكتاب هو التالي: على الرغم من أننا، وكأفراد، لسنا مستعدين تماماً لاستعمال العنف ولا مقتدرين جداً على فعل ذلك، يمكن للتنظيمات الاجتماعية ولعملية الأدلجة أن يساعدا، وغالباً ما يفعلان ذلك، على تحويلنا إلى آلات قتل بارعة وضارية. والفكرة الأساسية هي التالية: أي عنف جماعي طويل الأجل، خاصة الصراعات واسعة النطاق كالحروب، يقتضي وجود هذين المكوّنين الجوهريين: قدرة تنظيمية بنيوية معقدة، وأيديولوجيا مُشرعِنة قوية وفعالة. فلأن البشر لا يمارسون العنف على نحو طبيعي وتلقائي، تتطلب ممارسته بنجاعة على نطاق واسع، كما في الحرب، آليات سيطرة اجتماعية تنظيمية متطورة للغاية، ومذاهب أيديولوجية مفصلة جيداً وممأسسة لديها القدرة على تبرير هذا العنف. يقول كولينز معبراً عن ذلك ببراعة: "لو لم تكن المعارك الكبرى منظمة اجتماعياً على نحو جيد لغدت مستحيلة" (Collins, 2008: 11). وعليه، عوضاً عن تأويل الحرب وأشكال العنف المنظم الأخرى على أسس بيولوجية أو ثقافية أو فردانية أو عقلانية جماعية، يتحول تركيزي إلى دور التنظيم والأيديولوجيا. وعلى نحو أكثر تحديداً، سأحلل العلاقة بين الحرب والعنف والاجتماعي من خلال النظر في اثنتين من السيرورات التاريخية، أجدهما بالغتي الأهمية في تفسير الزيادة الهائلة للعنف المنظم في ظل الحداثة: البرقرطة التصاعدية للقسر (cumulative bureaucratisation of coercion)، والأدلجة المنتشرة من المركز (centrifugal ideologisation)، أو قل الأدلجة الجماهيرية.