الغربي عمران
(هاشيت أنطوان، بيروت، 2021)
[الغربي عمران، يشغل منصب أمين العلاقات الداخلية باتحاد الأدباء اليمني، ومنصب رئيس نادي القصة باليمن، ومنصب أمين عام اتحاد البرلمانيين السابقين، ومنصب رئيس مركز الحوار لتنمية حقوق الإنسان. شارك في العديد من المهرجانات والملتقيات الروائية والقصصية داخل الوطن العربي وخارجه. ترجمت قصصه إلى اللغتين الإنجليزية والإيطالية ووردت في مختارات بلغات أجنبية مثل البرتقال في الشمس (2007) وبيرل ديلو اليمن (2009)].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص؟ ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
الغربي عمران (غ. ع.): تخصصي تاريخ معاصر. عادة ما تولد الفكرة من شخصية معاصرة أعرفها. تلفت انتباهي بغرائبيتها، أو شخصية تاريخية حمّلها المؤرخ ما لم يحصل من عظمة زائفة. تقودني تلك الشخصية إلى تخيل شخصيات أخرى.. لتبدأ خيوط الحكايات تتشكل في مخيلتي. وهكذا إلى أن تنضج الفكرة مكاناً وزماناً وشخصيات وأنساق حكائية لحظتها أبدأ كتابة المسودة.
في رواية برّ الدناكل بدأت الفكرة من شخصية "شنوق" شخصية منطوية. نُسجت حوله تلك الحكايات.
وبعد إكمالها أخضعتها لمراجعات تفصل بين مراجعة وأخرى عدة أشهر. لمّا تنتهي الرواية كما خططت لها. فقد ذوت بعض الشخصيات وأخرى تماهت لتبرز أثناء المراجعات المتكررة شخصيات وأحداث أخذت الرواية إلى مسارات وأنساق أخرى.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(غ. ع.): الموضوع المحوري هو أثر الحرب الدائرة في اليمن على المجتمع. أضفت إليه عدة مواضيع غير محورية.. قد شكلت بعضها أثناء الكتابة، وظل الموضوع الرئيسي يشغل المساحة الأوسع بين بقية الثيمات. في برّ الدناكل تعددت الثيمات كالتسلط، والحب، والتشرد.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(غ. ع.): نعم رواية.. الفكرة أو الموضوع الذي يشغلني هو من أختار قالبه. ففكرة لا تصلح إلا أن تكون رواية، وأخرى قصة قصيرة، وثالثة لا تحتمل إلا أن تكون مقالة. الرواية جامعة لفنون عدة. ومن خلالها يمكن أن أصل ما أريد قوله للقارئ حول بشاعة الحرب. والفكرة من اختارت ثوبها الفني. الرواية أعطتني مساحة أكثر لأقدم قسوة أوضاع المجتمع في ظل الحرب.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(غ. ع.): لا توجد تحديات أو صعوبات.. فكتابة الرواية متعة، أن تعيش لعدة أشهر وقد تكون سنوات مع شخصيات متخيلة لا يراها أو يعرفها غيره لهي المتعة القصوى، تشكل حيواتهم.. علاقاتهم، مسارات تلك الأحداث. حتى ما يفكرون به وما يحدثون أنفسهم. كتابة الرواية عزاء لبؤس الحياة وأوضاعنا في ظل حروب لا تنتهي. وبقاء سلطة الدين التي لا ترحم. فنخلق حيوات توازي حياة نعيشها. وشخصيات لهم عوالمهم وصراعاتهم لنعري ما نعيشه من ظلم خاصة على المرأة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(غ. ع.): رواية بر الدناكل. آخر العنقود.. أحبها كما أحب بقية أعمالي. فكل عمل أظنه الأجمل حتى يصدر ويصبح بين أيدي القراء، لأكتشف بأنني قادر على كتابة ما أجمل. ولذلك بر الدناكل أضحت بين أيدي القراء وعلي أن أكتب الأجمل.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(غ. ع.): بالطبع فقراءتي يومية.. فكل نص أقرأه يؤثر فيّ ويضيف إلي الشيء الكثير.. لكن لا يوجد شيء بعينه. فالقراءة اليومية تجعلني لا أميز.. فقط أدع العقل الباطن يأخذ دوره في الهضم والاستيعاب.. ليضيف أثر ذلك عند كتابتي.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(غ. ع.): في بداية أعمالي، خاصة القصصية كنت أتخيل قراء وقراء أتخيل ردود أفعالهم.. أما الأن ومنذ أكثر من عقد أصبحت أكتب لأرضي نفسي. لا يهمني أي رقيب . فقط أعيش لأكتب لنفسي. فالكتابة أضحت حرفتي. وسلوتي.. بل حياة أنعم بها.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(غ. ع.): لدي رواية أكملتها منذ سنتين، وأخرى أنهيتها قبل ستة أشهر، عرضتها على أصدقاء فأظهروا لي ملاحظات جوهرية. لا زلت أفكر بالعودة لمراجعة الروايتين. مهموم بما يدور في اليمن، حربٌ تركت آثارها المدمرة على القيم وأساليب حياة الناس. حرب تحركها أصابع وأموال الخارج. والجلادون من أبناء جلدتنا. مشروعي دوماً: الدين معضلة، والمرأة مستلبة، والحرب عار أخلاقي.
مقتطف من الكتاب
جلس شَنّوق عاريًا إلّا من نافذة أمامه، يتابع حركة أحد الأزقة العميقة بين صفوف الدور، متمتمًا: ستظهر الآن، فقد حان موعد وصولها! يرفع ناظريه متأمّلًا أفقًا كهرمانيًا يحتضن جبال صنعاء البعيدة. تسحره واجهات الدور العتيقة، أسراب الحمام تلوب قبل هبوط الليل، بهاء قباب المساجد ومناراتها الباسقة. غاص قرص الشمس خلف شفاه الجبال العالية، لتبهت الألوان، وتماهت زخارف المنارات «الياجورية» وواجهات الدور، لحظتها ارتفع صوت مؤذّن الحيّ، صديقه طنهاس، الذي يميّز سعادته عن حزنه من خلال نبرة صوته، قدَّر أنّها لن تأتي، عاد يتسلّى بمضغ وريقات القات، مشغولًا بمراقبة تدفّق ذرّات المساء الهابطة من شاهق الجبال، لتحيل دُور المدينة إلى كتل معتمة إلّا من ثقوب أضواء خجولة هنا وهناك. تنصهر الملامح المحيطة رويدًا رويدًا، لتتحوّل إلى أشباح غامضة. يواصل مضغ قاته محاولً الحفاظ على طيب مزاجه، تباغته لفحة برد عبر النافذة، يشاهد أزقة المدينة تؤوي قوافل الريح العتيقة، يتمتم: لقد فات موعد غزال ولن تأتي بعد الآن! يغلق نافذته مصاحبًا ظلمة المكان. يُجيل شنّوق ناظريه في عتمة غرفته، يعرف مواقع الأشياء: طاولة قصيرة أمامه عليها جهازه المحمول، وإلى جواره باقة أغصان قات لُفّت بمنديل مُبلّل، «متفل» معدني تحت الطاولة، ونارجيلة قصيرة يمتدّ خرطومها حتى فمه، يومض جمرها بين وقت وآخر، إلى شماله متّكأ غزال فارغًا، وإلى يمين الباب شمّاعة شُنقت عليها ملابسه، وأعمدة كتب متجاورة تستند إلى إحدى الزوايا. بعد وقت، عاود صوت صديقه مؤذّنًا لصلاة العِشاء، تمتم بنزق: سأقضي ليلتي وحيدًا! تعوّد أن يعيش ظلمة لياليه، مستمتعًا بعريه، يحفظ زوايا سكنه عن ظهر قلب، أمام باب غرفة مقيله موقد نحاسي، يتشامخ وسط حجرة تتوسّط بقيّة أبواب الغرف، يقلّب الجمر لينعكس وهجه على ملامح وجهه الكبير، يلتقط عدّة جمرات ويعود إلى متّكئه مواصلً ليلته وسط ظلمة يأنس إليها. لا يستقبل أحدًا في سكنه. غزال هي الاستثناء. فتاة في العشرينات تعرّف إليها عبر النت، هو من كان يفضّل الأربعينيات، جاءته هذه لتغيّر كلّ إيقاع حياته. تتسلّل خلسة بين ليلة وأخرى إلى سكنه في الدور الرابع لتشاركه ما شاء لها ثمّ تغادره. كذلك يزوره صديقه طنهاس، زوج الشريفة وإمام مسجد الحيّ، يأتيه في ليالي الجُمع، يدير المفتاح بعد عودته من إقامة صلاة العشاء، ليشاطره مضغ القات ورشفات من دموع الأسد، أو المُكَحّل كما يحلو أن يطلق عليه، ثمّ يصعد إلى الدور الخامس، حيث تنتظره زوجته الشريفة مالكة الدار، كي يقضي ما بقي من ليلته، تتأبّط قامته القصيرة صاعدة به سلّم «طيرمانتها» العبقة بروائح البخور، وكؤوس نقيع الزبيب وأطباق أخرى تخصّ ليالي الوصال، وهي تلبس الشفيف، موقنة بأنّ ذلك يثير بقايا مكامن فحولته، ثمّ إنّ نوافذ الطيرمانة مطلّة على الجهات الأربع، ومنظر ليل صنعاء يرفع من نشوته. يستمرّ شنّوق متماهيًا مع ظلمة سكنه، متلذّذًا باستحلاب أوراق قاته. وليزيد من وجده، يحتضن جهاز «اللابتوب»، باحثًا بأصابعه عن أزرار التشغيل، ما يلبث أن ينعكس ضوؤه على عينيه الجاحظتين ووجنتيه المكوّرتين. يبتسم لظهور صفحته على الفيسبوك «ابن الحاج»، بصورة قطّ ذي عينين زرقاوين، يعرّج بعدها على صفحة غزال، لتظهر قبّة خضراء، وجملة كُتبت بالخطّ الكوفي: «حسبي الله ونعم الوكيل». يدعك تكويرة خدّه بتلذّذ، ويرقن إليها: «يا عيباه، ليس من عادتك أن تخلفي الموعد. أتمنّى أن يكون المانع خيرًا»، ثمّ يضغط زرّ الإرسال، متمنّيًا استجابتها فيقضيا الليل في دردشة إيروسية، انتظر قليلً، ثمّ أضاف: «أنتظر ردّك فلا تتأخّري،» وشغل نفسه باستعراض رسائل قيد الانتظار. تستهويه رسائل «قطط الفيس»، صفة يطلقها على البنات، إ لّ أنّ ما يربكه هو تلك الأسماء المستعارة، تلك التي يتعامل معها بحذر شديد، وبحسب تجربته، فإنّ من يتخفّين خلف واجهات قرآنية هنّ الأكثر شبقًا، بدوره يصنّفهنّ إلى مجموعتين: قطط وديعة، وقطط مخربشة. لكنّ ما يخيفه فعلً، هو تخفّي بعض الـ«جحندلات»، كما يحب أن يطلق على فئة الذكور ذوي الأسماء الأنثوية، فما إن يكتشف أحد هؤلاء حتى يسارع إلى حظره. هذه الليلة لفتت انتباهه رسالة جديدة من شخص كتب اسمه «adel». حكّ أنفه محاولً تذكّر الاسم. وحين لم يتذكّر فتح الرسالة: «أخيرًا وجدتك! شكرًا للمستر مارك، أنتظر ردّك!.» توقّف فكّه الضخم عن هرس القات، أعاد قراءة الكلمات القليلة، لاك تلك الأحرف: a. d. e. l ، ليست لديه معرفة بأيّ لغة غير العربية، انتقل إلى صفحة المرسل، الصورة العامّة منظر طبيعي، أفق بحري مفتوح على سحابة قطنية وحيدة.
أمّا تلك الشخصية، فغراب يحلّق وحيدًا. بحث في خانة المعلومات الشخصية لعلّه يجد خيطًا يوصله بصاحب أو صاحبة الصفحة، لكنّه لم يجد منشورات ولا أصدقاء، فقط صورًا مكرّرة لشواطئ، وقوارب صيد، وسواحل رملية طويلة، خمّن أن يكون المرسل صيّادًا، بحث في بياناته المخبّأة، لا شيء! تضاعفت حيرته، وتساءل: يا ترى، أيكون المرسل جحندلً أم قطّة؟ قطع بحثه دويّ هائل عنيف هزّ الدار! خُيّل إليه أنّ الجدران تصدّعت وانهارت. نهض مذعورًا بعريه قاذفًا ما بين يديه، تعاقب الدويّ يصمّ مسامعه، فتح نافذته، ارتفع صراخ هلع من الدور المجاورة، ومن بعيد لمع وميض باهر يصبغ واجهات الدور بألوان ناريّة، هدير يتعالى. ظنّ أنّ نيازك فضائية تدُكّ صنعاء. خطا في ظلمته يدفعه الخوف من المجهول، لم تعد الأشياء في أماكنها، محاولً إيجاد موطئ قدم لخطواته، خرج إلى حجرة الموقد النحاسي، وقد تبعثر جمره أرضًا. ظلّ يبحث عمّا يستر عريه. فتح باب سكنه، ورأى سلّم الدار مكتظًا بأشباح كائنات صاعدة وأخرى هابطة، بكاء أطفال وعويل متداخل. وقف متردّدًا أمام وجوه نسوة بعيون فزعة، ثمّ شقّ طريقه صاعدًا خلف الصاعدين، متجاوزًا سلالم الدور الخامس ليصل إلى سطح اكتظّ بالنواح. هي المرّة الأولى التي يرى فيها «طيرمانة» صاحبه وقد تربّعت على أعمدة قاتمة. وقف في الأطراف يتابع الزحام مشغولً بمتابعة هالات الانفجارات، وتصاعد اللهب في الأحياء البعيدة لصنعاء، لينعكس وميضه على جروف الجبال المحيطة، وواجهات الدور والمنارات العتيقة. بعد حين سمع نعيق طائرات عابرة، ما لبث أن لاحقها رصاص مضادّ من قمم الجبال المحيطة، ترتفع خيوطها الملتهبة لتعود ممطرةً أسطح المدينة وشوارعها رعبًا، يتصاعد دويّ متجدّد، ترتجّ له أحياء صنعاء، ويكسو السماء بهالة كهرمان. يرتفع صوت زوج الشريفة من أعلى سلّم «الطيرمانة» بحماسة: «الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود،الخزي لآل سعود، النصر للإسلام»، ليردّد من في الأسطح «الله أكبر،» ملوّحين بقبضاتهم باتّجاه السماء، إلى أن رأى الفرانصي جاره يردّد مع الموجودين بحماسة واضحة."