منذ مدة ليست بالقصيرة لم تبلغ أذن المستمع العربي أغنية فيروسية الانتشار، كما فعلت أغنية "الغزالة رايقة"، الأغنية التي راكمت ملايين الاستماعات خلال أيام قليلة، نجحت في الترويج لفيلم "من أجل زيكو"، كما أراد القائمون عليه وربما أكثر، إذ أطلقوا الأغنية قبل عرض الفيلم بأيام.
وفي البحث عن أسباب رواج هذه الأغنية على هذا النحو، نقف أمام أسباب البساطة وحسن الأداء، لكن لا بد من الذهاب أعمق للبحث عن تفسير لذلك، ففهم هذه الظاهرة قد يبدو مفيداً في إنتاج أغنيات تستطيع شق الطريق بسرعة وقوة إلى أذن المستمع، في هذه الفترة الصعبة، التي اختلطت فيها الموسيقى على الأذن، حتى لم تعد تسمع شيئاً، وفي ذلك تفسير واف لعودة المستمع إلى أغنيات التسعينيات وغيرها.
كلمات الأغنية
موجة أغنيات المهرجانات وما أحدثه محمد رمضان من لغة لا تتحلى بمسؤولية حيال المتلقي، إذ ساق وراءه صفاً طويلاً من المغنين الشعبيين، للوقوع في لغة شريرة، قوامها الوعيد والتهديد والثأر والاستعلاء، وهو ما أثار حينها حنق نقابة العاملين بالمهن الموسيقية، أخذت الأغنية المصرية إلى قبو سفلي، أو يمكن القول إنها اختطفتها إلى عشوائيات فنية لا تعني شيئاً في الميزان الفني، تبني موسيقاها على الفوضى، والسرقة في أحيان كثيرة، انسجاماً مع الكلمات التي تحط من مغنيها قبل المستمع إليها.
الخصلة تلك لم تكن من خصال الأغنية الشعبية المصرية يوماً، فحتى أيام صعود نجم شعبان عبد الرحيم، وتصاعد الانتقادات لشخصيته والتصاقه بلحن واحد في أغلب أغنياته، واعتماده على الـ"إيييه" التي ظل ينتقده حلمي بكر بسببها، لم نسمع منه أغنية استعلائية قط، بل حين نتذكره، نتذكر جملته الكبيرة: "أنا بكره إسرائيل".
في "الغزالة رايقة" كلمات الأغنية كانت ركيزة أساسية في بنائها بجسد رشيق ومحتشم، ثمة نكهة مصرية غير متأتية من اللهجة بقدر تأتيها من الحس الفكاهي والغزلي الأليف، كتبت كلمات الأغنية منة القيعي، وقد يكون ضلوع امرأة بكتابة عمل شعبي سبباً لتجنيبه نفس الشر الذي سيطر مؤخراً على الأغنية المصرية الشعبية، هذا الفارق الذي أحدثته القيعي، صنع للأغنية منصة خاصة على بساطتها، لتقف عليها قبالة جيش من مغنِّيِ المهرجانات، فبذلك حصلت على بقعة ضوئها الخاصة.
فلا كلام خادش للحياء ولا للذوق، جمل بسيطة نرددها على اتساع رقعة الوطن العربي، ومتصلة بشكل ساعد الملحن على الانسياب في اللحن، حيث الانسياب شرط في اللحن الشعبي.
"الغزالة رايقة"، لازمة الأغنية المتكررة وافتتاحيتها، جملة تتحوّر من قطر عربي إلى آخر، ثمة من يقول مثلا "الغزالة سارحة"، وفي الحالتين هو تعبير يلامس صفاء المزاج والطقس العام، أما عن جذوره فيقول الأصمعي إن الغزالة هي الشمس عند الطلوع محتجّاً بقول ذي الرمة: "فأشرفت الغزالة رأس حزوى// أراقبهم، وما أغنى قبالا".
أعادت إذن كلمات الأغنية إلى الذهن عصر الأغنية الشعبية الجميل، أيام محمد عدوية ومحمد رشدي وشفيق جلال وغيرهم، عبر الرقة في التعبير والإعمال في الغزل الصافي البعيد عن ألفاظ التحرش أو تصوير الجسد على نحو وحشي.
فضلاً عن قوافي رنانة ومقطعة بشكل يستدرج الإيقاعات أرقّها وأنضجها، إذ لم يشكل تغير طول الجملة أزمة بقدر ما أحدث انحناءات جميلة ساعدت الملحن على صوغ لحنه، وبالحفاظ على الميزان ذاته في كل كوبليه، أصبح بناء الأغنية جاهزاً لاكتساء اللحن.
الغزالة رايقة
ما الناس الحلوة سايقة
يا سيدي يا جماله
ماله
ضغط كتير عليه
اللحن، الجدل والبراءة
دوران اللحن داخل الرأس كقطار سريع، أحدث صدمة حقيقية عند المتلقين النابغين على ما يبدو، وعند خبراء وصناع الموسيقى، وفتح باب الاتهامات على آخره، ففي أول اتهام تلقاه الملحن إيهاب عبد الواحد هو سرقة لحن أغنية Dikaya L’vitsa الروسية 2019، قبل أن ينبش آخر أعمق ويقول إن اللحن مأخوذ عن أغنية "عاشت بلادنا" لمحمد ثروت من ألحان محمد عبد الوهاب، أما الثالث فنبش أعمق وأعمق وقال إن لحن عبد الوهاب نفسه مأخوذ من أغنية "أنا وحبيبي" لفريد الأطرش وقد صنعه في أربعينيات القرن الماضي.
عبد الواحد نفى الأمر نفياً قاطعاً وأكد أن أي تشابه قد يندرج تحت عنوان التوارد ليس إلا، ولكن الأهم من ذلك هو حالة الجدل تلك التي ألمت بالأغنية، وما تعنيه من اهتمام وما تحيل إليه من مضاعفة للنجاح. من جهة أخرى فإن الألحان المرصودة في قائمة الاتهام جميعها لم تتطابق مع لحن عبد الواحد، فالإيقاع المقسوم في "الغزالة رايقة" لم يرد في أي واحد من الألحان الثلاثة، كما أن القفلة مختلفة، ما يعني أن التشابه تركز في استخدام جمل مقام النهاوند المفتوحة كل منها على جملة أخرى تتلقاها قبل أن تتمّ. وهذا يعني براءة الملحن حتى لو كان قد سمع الألحان تلك فعلاً وهضمها وخرج بلحنه الجديد، والذي لا يمكن تحييد دور الموزع أحمد طارق يحيى فيه.
الأداء المختلف
أما أداء محمد أسامة الطفل ذي الصوت الرنان، فهو استثمار ذكي في مساحة صوتية هائلة، قد تضمر مع الوقت والتغير الفسيولوجي، وعلى ذلك أمثلة كثيرة، منها شاهين كندرجي الذي تألق بأغنية مسلم غورسيس في النسخة التركية من أميركان غوت تالنت، قبل أن ينحصر صوته في مساحات أضيق مع تقدمه بالعمر وطرحه أغنياته الخاصة.
تصدير محمد أسامة لأداء مقدمة الأغنية، منحها جاذبية لا تقاوم، وأحدث فضولاً ساعد الأغنية على الانتشار، والأذكى من ذلك، كان تأطير دخول كريم محمود عبد العزيز عبر الإيفيكت اللافت قبيل بدئه الغناء، بما يمنحه حق النجم، وقد كان كذلك فعلاً في الأغنية، بنبرة صوته القادمة من زمن أجمل من هذا الذي نحن فيه، إذ أعادت نبرة صوته إلى المخيلة أباه الراحل الكبير محمود عبد العزيز، وهو يغني ويترنح في فيلم الكيت كات.
كل هذه العوامل باشتمالها على ما هو تجاري ذكي، وما هو كلاسيكي محبب، وما هو عائلي وأليف، تسببت في انتشار الأغنية على هذا النحو، فلم يتردد أحد في إرسالها لأحد مهما بلغت علاقتهما، وهذه مسألة أساسية في زمن الاستماع عبر منصات السوشال ميديا، وزمن الترشيحات عبر الواتساب.