بحكم ما يمليه الاقتصاد على السياسة، وما تفرضه السياسة على باقي المجالات، يبدو أن الكميات الكبيرة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وباقي غازات الدفيئة أصبحت في عالمنا المعاصر شرٌ لا بد منه، في ظل تقاعس الكثير من الدول في تنفيذ التزاماتها بتقليل الانبعاثات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وضعف المجتمع العلمي أمام سطوة المصالح الاقتصادية والسياسية، وغياب أي آليات تسمح بالضغط على الدول لأجل تنفيذ هذه الالتزامات. بهذا فهم الكثير من العلماء أن صرخاتهم من أجل إنقاذ الكوكب لا تجد صدىً، سواء أكان ذلك بسبب سوء إستماع الساسة وأصحاب القرار للعلماء، أو بسبب تعارض مصالحهم مع ما يدعو إليه العلماء من خطوات يجب إتخاذها من أجل حماية الحياة على الكوكب. فتغير بذلك جهد العلماء، من السعي لإثبات المثبت: أي أن الاحتباس الحراري حقيقي أولاً ( فهناك الكثير من الساسة لا يصدقون ذلك أصلاً)، وأنه خطر حقيقي على الكائنات الحية وعلى التنوع البيولوجي، إلى البحث عن حلول أخرى مبتكرة، وكما يتضح من السلوك المخادع للساسة والدول، من الاستعراض الانتخابي أو السياسي إلى التجاهل التام للمطالب البيئية الملحة، أصبحت الدعوة إلى تخفيض الانبعاثات أمراً بلا طائل، لتتجه أفكار الكثير من المجموعات البحثية حول العالم إلى ابتكار حلول أخرى قد تسهم في تدارك خطر الاحتباس الحراري.
لنعيد النظر إلى المشكلة أولاً، حيث يواجه العالم أزمة بيئية خطيرة، تتمثل في خطر زيادة درجة حرارة الأرض بشكل قد يؤدي إلى إغراق مدن بأكملها، بالإضافة إلى أخطار متعلقة بالتنوع الحيوي والبيولوجي كنا قد تعرضنا لها في مقالة سابقة، وأدت جهود العلماء إلى توجيه أصابع الاتهام بشكل مباشر إلى غازات الدفيئة وأكثرها تأثيراً وهو غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي ثبتت علاقته بالاحتباس الحراري بجهود عظيمة قام بها العالمان شاكورو مانابي وكلاوس هاسلمان اللذان منحا جائزة نوبل للفيزياء تقديراً لجهودهما عام 2021، ليبدأ صوت العلماء والمهتمين بالبيئة والتنمية المستدامة بالدعوة إلى تخفيض الانبعاثات من هذا الغاز، حيث أصبح الكوكب ينفث كميات هائلة من غاز ثاني أكسيد الكربون بشكلٍ لا يمكن للطبيعة التعامل معه، فعلى سبيل المثال، يسهم المواطن الأوروبي في نفث أكثر من سبعة أطنان سنوياً من غاز ثاني أكسيد الكربون. تعتبر زراعة الأشجار حلاً جاهزاً وتقليدياً لمشكلة انبعاثات الغازات الدفيئة، حيث تمتص الأشجار غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو وتقوم بتحويل الكربون إلى أخشاب عبر عمليات كيميائية-حيوية، بشكل يسهم في تقليل نسب الغاز في الجو، وتقوم الأشجار بـ "حبس" الكربون كي يتسنى لنا استخدامه لاحقاً، لكن هذا الحل تواجهه عقبات عدة، أولها أننا بحاجة لزراعة 7 أشجار على الأقل لتعويض ما يتسبب به مواطن أوروبي واحد، وهذا يعني ضرورة تخصيص أماكن شاسعة لزراعة الأشجار في وقت تعاني الغابات من الجور عليها بغرض استغلال أراضيها في الزراعة، وقلة معدلات إعادة التشجير. وينبغي هنا الإشارة إلى أنه للمحافظة على نسب ثاني أكسيد الكربون في الجو، لا يكفي أن نحافظ على الغابات على ما هي عليه اليوم، بل ينبغي زراعة الكثير من الأشجار؛ حيث تنخفض قدرة الأشجار المعمرة والكبيرة على امتصاص ثاني اكسيد الكربون وكذلك قدرتها على الاحتفاظ بالكربون لفترة طويلة، حيث لا تستطيع الأشجار المعمرة استخدام جميع الكمية التي امتصتها من الكربون في عملية النمو، فتتخلص الأشجار من هذا الفائض الكربوني على شكل سكريات بطرحه في التربة لتستخدمه الفطريات والبكتيريا في عملية غذائها، حسب ما توصل إليه فريق بحثي من جامعة غرب سيدني في أستراليا، ما يعني أن الكربون الذي تمتصه الأشجار المعمرة سيعود ليسهم مرة أخرى في الاحتباس الحراري مع عدم قدرتها على الاحتفاظ به.
يبدو الأمر معقداً، أو كالنفخ في قربة مثقوبة، حيث تظهر في كل مرة المزيد من التحديات العلمية والبيئية، بالإضافة إلى التعقيدات الاقتصادية والسياسية، فعلى الرغم من أن زراعة الأشجار وإعادة تشجير الغابات يبدو حلاً بيئياً رائعاً، لكنه رومنسي وغير واقعي أيضاً إلى حد كبير، فهناك حدود لقدرتنا على احتجاز الأراضي من أجل تشجيرها في ظل الزيادة الكبيرة للطلب على الغذاء وسط نمو سكاني متسارع في العالم، ليتبقى لنا المراهنة على الحلول العلمية والابتكارات، ومن بين الأفكار المبتكرة لحل هذه المعضلة، هي فكرة جمع الغازات الدفيئة الناتجة من محطات توليد الكهرباء، ثم تبريد ثاني أكسيد الكربون، وضخه في باطن الأرض، ليستقر في غرف صخرية عميقة، أو لتستخدمه شركات النفط لاستبدال رواسب النفط الخام، بشكل يساعد الشركات النفطية على ضخ النفط من أماكن يصعب الوصول إليها. لكن هذا الابتكار يتطلب معالجة كميات هائلة من الهواء لاستخراجه، فغاز ثاني أكسيد الكربون يتواجد بنسبة 0.04% في الهواء، وبين 4 و12% على أقصى تقدير عند العادم الذي ينفث من محطات توليد الكهرباء، رغم ذلك يبقى هذا الابتكار حلاً واعداً.
لكن حلاً أكثر جدوى، تحدث عنه الباحث والأستاذ في جامعة كولومبيا ثم في جامعة ولاية أريزونا كلاوس لاكنر، وهو فكرة الشجرة الاصطناعية، حيث تتكون الشجرة من أوراق بلاستيكية تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وتحوله إلى بايكاربونات على أوراق الشجرة البلاستيكية. تستطيع الشجرة بحسب تصميم لاكنر وحساباته امتصاص نحو طن واحد من ثاني اكسيد الكربون يومياً، وهو حلٌ علمي واعد لكنه مكلف، ومنذ ذلك الحين انطلقت موجة جديدة من الأبحاث في مجالات علمية مختلفة بهدف جمع غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو وتحويله إلى منتج ذو قيمة مضافة، ومن بين تلك الأبحاث، الأبحاث التي تركز على انتاج مواد أكثر كفاءة في امتصاص أو ادمزاز[*] غاز ثاني أكسيد الكربون، وإنتاج تصاميم تستلهم فكرة الشجرة الاصطناعية وتقدمها بكفاءة أعلى وكلفة أقل، بالإضافة إلى إبتكار يعتمد على تأرجح الرطوبة في الجو لإنتاج تيار هواء مشبع بثاني أكسيد الكربون بشكل يسمح باحتجازه واستخدامه لأغراض مفيدة، بالإضافة إلى ابتكارات أخرى كثيرة وواعدة قد تمثل مخرجاً للبشرية من أزمة تعاني من الإنكار والتجاهل رغم إلحاحها، ليتضح للبشر مرة تلو الأخرى أن الرهان على العلم هو المنقذ الوحيد للبشرية. وفي الوقت الذي يفكر فيه الاقتصاديون بمصالحهم وثرواتهم، والسياسيون بـ"نهاية ولاياتهم" فإن العلماء يفكرون في "نهاية العالم"، وكيف يمكننا حماية كوكبنا من الأخطار.
هامش:
[*]الإدمزاز (Adsorption): يختلف عن الامتصاص، حيث تتجمع جزيئات مادة ما بكثافة على أسطح حبيبات مادة أخرى.