لمَ ما أزال شيوعيًّا

[سلافوي جيجيك] [سلافوي جيجيك]

لمَ ما أزال شيوعيًّا

By : Yazan el-Haj يزن الحاج

سلاڤوي جيجك

أنا أوّل من يُقرُّ بأنّ حلمَ القرن العشرين الشيوعيَّ قد انتهى. وموقفي أبعد ما يمكن من اللازمة الغبيّة القديمة التي تُكرّر بأنّ الشيوعيّة فكرةٌ حسنةٌ أفسدها منحرفون توتاليتاريّون. لا، ثمّة مشكلات فعليّة في الرؤية الأصليّة، ولذا لا بدّ للمرء من الخضوع لإعادة تقييمٍ صارمةٍ لماركس نفسه. ونعم، أنجز الشيوعيّون الذين تسلّموا السُّلطة أمورًا حسنةً عدّة. نعرف سلسلة الابتهالات – التّعليم، الصحّة، مقارعة الفاشيّة – غير أنّ انتصارهم الحقيقيّ الأوحد ككلّ كان ما حدثَ في الصين بعد 1980، ولعلّه أعظم قصة نجاح اقتصاديّ في التاريخ البشريّ، حيث ترقّى مئات ملايين الفقراء إلى مستوى الطّبقة الوسطى. كيف حقّقت الصين هذا الهدف؟ لقد عُرِّف يسار القرن العشرين بمعارضته لنزعتين أساسيّتين في الحداثة: سلطان رأس المال بفردانيّته العدوانيّة وديناميّاته التّغريبيّة، وسطوة الدولة التسلّطية-البيروقراطيّة. ما نجده في صين اليوم هو – بالتّحديد – أقصى درجات مزيج هاتين السّمتين – دولة استبداديّة قويّة، ديناميّات رأسماليّة جامحة – وتلك هي صيغة الاشتراكيّة الأشدّ فعالية اليوم... ولكنْ أهيَ ما أريده؟

تسير الصين اليوم لتُمسي النّموذج لما سمّاه هنري فارِلْ (Henry Farrell) «الاستبداد المُشبَّك» (networked authoritarianism). الفكرة هي أنّه

إذا تجسّستْ دولةٌ على الشّعب بقدرٍ كافٍ وسمحتْ لمنظومات التعلّم الآليّ بتسجيل سلوكهم والتّجاوب حياله، سيكون ممكنًا خلقُ "مُنافِسٍ أكثر فعالية يمكن له هزيمة الديمقراطيّة في عُقر لعبتها" يلبّي حاجات الجميع أفضل ممّا في وسع الديمقراطيّة أن تفعل. الصين مثالٌ جيّد هنا: يقول مناصروها ومُناوئوها إنّ الصين تخلق، بمساعدة التعلّم الآليّ والرّقابة التّامّة، أوتوقراطيّة مستدامةً، قادرةً على حلّ "المعضلة التسلّطيّة الأساسيّة": "جمع المعلومات وتصنيفها، والاستجابة الفعّالة لحاجات مواطنيها كي تصون استقرارها." ولكنّ فارِلْ يُخمّن أنّ هذا الوضع لا يحدث هنا حقًا – فالصّين تعاني فعليًا من عدم استقرار بدرجةٍ هائلة (إضرابات غير نقابيّة، حركات متواصلة مناصرة للديمقراطيّة، معسكرات اعتقال، فقاعات ديون، انهيار تصنيع، اختطافات متكرّرة، فسادٌ مُتفشٍّ، إلخ).

وجد الغرب اللبراليّ استخدامًا أفضل للسيطرة الرقميّة: ديمقراطيّة مُشبّكة دعاها البعض "رأسماليّة الرقابة،" حيث يُتسامَح مع الديمقراطيّة والحريّة ولكن مع إبقائهما عاجزتين. يوضح نمط السّيطرة الرقميّة الجديد هذا سبب انتفاض الناس في الديمقراطيّات اللبراليّة أيضًا: هم لا ينتفضون ضدّ الحريّة، بل ضدّ ما تُنْبئهم به تجربتهم اليوميّة – أنّ الديمقراطيّة المُشبَّكة أشدّ طغيانًا من الاستبداد، بمعنى من المعاني. 

من السّائد اليوم التّشديد على الطبيعة "الإعجازيّة" لسقوط جدار برلين قبل ثلاثين عامًا. بدا مثل حلمٍ يتحقّق، تحقُّق أمرٍ مُحال، أمرٍ ما كان ممكنًا قبل شهور عدّة: تفكُّك الأنظمة الشيوعيّة التي انهارت كبيتٍ من ورق. من كان ليتخيَّل في پولندا انتخاباتٍ حرّة يتسلّم فيها لِخْ ڤاوِنْسا (Lech Wałęsa) رئاسة الجمهوريّة؟ على أنّ على المرء أن يضيف أيضًا أنّ "معجزةً" أعظم حدثت بعد عدة سنوات عام 1995: عودة الشيوعيّين السابقين إلى السُّلطة بانتخابات ديمقراطيّة حرّة، هُمِّش ڤاونسا خلالها تمهيشًا تامًا، وبات أقلّ شعبيّة بكثير من الجنرال ڤويتشخ ياروزلسكي (Wojciech Jaruzelski) الذي كان، قبل عقدٍ ونصف، قد سحق حركة "تضامن" بانقلابه العسكريّ. وبعد عقدين أتت مفاجأة ثالثة: پولندا الآن في قبضة شعبويّين يمينيّين يرفضون الشيوعيّة والديمقراطيّة اللبراليّة على حدٍّ سواء... ما الذي جرى هنا إذن، ما الذي أفضى إلى هذه التّعاكسات اللامتوقّعة؟

قد ينتاب المرءَ إغواءُ تفسيرها بـ "الواقعيّة الرأسماليّة،" حيث لا تعدو المشكلة أنّ الأوروپيّين الشرقيّين لم يمتلكوا تصوّرًا واقعيًا للرأسماليّة، وكانوا مفعمين بآمالٍ طوباويّة فجّة. في الصبيحة التي أعقبت حماس أيّام النّصر المخمورة، كان على النّاس أن يستفيقوا ويخوضوا سيرورةً مؤلمةً لتعلُّم قواعد الواقع الجديد – الثّمن الذي دُفعَ لقاء الحريّة السياسيّة والاقتصاديّة. بدا الأمر كما لو أنّ على اليسار الأوروپيّ أن يموت مرّتين: أولًا بوصفه اليسار الشيوعيّ "التوتاليتاريّ"، ومن ثمّ بوصفه اليسار الديمقراطيّ المعتدل الذي بات يخسر امتيازاته شيئًا فشيئًا منذ التّسعينيّات.

لكنّ الأمور أعقد بقليل. حين احتجَّ الشّعب ضدّ الأنظمة الشيوعيّة في أوروپا الشرقيّة، لم تكن الرأسماليّة هدف غالبيّتهم العظمى. أرادوا ضمانًا اجتماعيًا، تكافلًا، نمطًا معقولًا من العدالة؛ أرادوا الحريّة كي يعيشوا حيواتهم خارج قبضة سطوة الدّولة، كي يتجمّعوا ويتحدّثوا كما يحلو لهم؛ أرادوا حياةَ نزاهةٍ واستقامةٍ بسيطتين، متحرّرةً من التّلقين الأيديولوجيّ البدائيّ ومن النّفاق العيّاب المهيمن... باختصار، كانت الأهدافُ الضبابيّةُ التي حرّضت المتظاهرين مُستمدَّةً، بقدرٍ كبير، من الأيديولوجيا الاشتراكيّة ذاتها. وكما تعلَّمْنا من فرويد بأنّ المكبوت يرتدّ بصورةٍ مُشوَّهة، ارتدّت الاشتراكيّةُ المكبوتةُ في المخيال الانشقاقيّ على هيئة شعبويّةٍ يمينيّةٍ في أوروپا.

في تأويله لسقوط شيوعيّة أوروپا الشرقيّة، برهنَ يورگن هابرماس بأنّه الفوكوياميّ اليساريّ الأكبر، حين قَبِل بصمت أنّ النظام الديمقراطيّ-اللبراليّ القائم أفضل نظام ممكن، وأنّ علينا ألّا نُسائل منطلقاته الأساسيّة في سعينا إلى جعله نظامًا أعدل. ولذا احتفى تحديدًا بما عدّه يساريّون كثر القصورَ الكبيرَ في الاحتجاجات المناهضة للشيوعيّة في أوروپا الشرقيّة: حقيقة أنّ هذه الاحتجاجات لم تتحفّز بأيّة رؤى جديدة حيال المستقبل مابعد-الشيوعيّ. بحسب قوله، كانت الثورات في وسط أوروپا وشرقها محض ثورات "تصحيحيّة" أو "تعويضيّة"، هدفها تمكين تلك المجتمعات من بلوغ ما حظي به الأوروپيون الغربيّون؛ أي العودة إلى المعيار الأوروپيّ الغربيّ بمعنى آخر.

إنّنا في لحظة انقلاب مثيرة كان هيگل سيبتهج بها. في العقد أو العقدين الأخيرين، تحوّلت "نهاية التاريخ" الفوكوياميّة (حيث لدينا أفضل بنية اجتماعية ممكنة أساسًا) إلى نسختها الأپوكالپتيّة – لم نصل إلى نهاية التاريخ بعد، غير أنّنا نقترب من النّهاية على هيئة كارثة أپوكالپتيّة... ثمّة سمة شكليّة تبقى على حالها في كلتا نسختَيْ "النهاية": الإحساس بمطمطة لانهائيّة.

من ناحية ثانية، ليست «السترات الصفراء» (gilets jaunes)، واحتجاجات هونغ كونغ، واحتجاجات أخرى مماثلة اليوم (في إسپانيا، وكوريا الجنوبيّة، وبقاع أخرى) حركات تعويضيّة على الإطلاق. بل تُجسّد النّقيض العجيب الذي يسم الوضع العالميّ اليوم. التضادّ القديم بين "الناس العاديّين" وبين النّخب الرأسماليّة-الماليّة قد عاد مع نزعة انتقاميّة، حيث انتفض "الناس العاديّون" في احتجاجات ضد النّخب المُتَّهمة بكونها متعامية عن معاناة [أولئك النّاس] ومطالبهم. بيد أنّ الجديد هو أنّ اليمين الشعبويّ أثبت أنّه أبرع في حَرْف هذه الانفجارات إلى اتّجاهه أكثر من اليسار. ولذا كان آلان باديو (Alain Badiou) مُحقًّا تمامًا حين قال معلّقًا على "السترات الصفراء": "Tout ce qui bouge n’est pas rouge" – ليس كلُّ ما يتحفّز (يُبلبل) أحمر. فاليمين الشعبويّ اليوم يشارك في عُرفٍ مديدٍ من الاحتجاجات الشعبيّة التي كانت يساريّة بالدرجة الأولى. بل يمكن أن تُرى بضع احتجاجات اليوم بوصفها حالةً من حالات ما تُسمّى أحيانًا احتجاجات الأثرياء – فلنتذكّر أنّ كاتالونيا، مع إقليم الباسك، أغنى مناطق إسپانيا، وأنّ معدّل دخل الفرد في هونغ كونغ أعلى بكثير منه في الصين.

هنا، إذن، تكمن المفارقة التي ينبغي لنا مواجهتها: الإحباط الشعبويّ حيال الديمقراطيّة اللبراليّة هو البرهان بأنّ ثورة عام 1989 ما كانت محض ثورة تعويضيّة. فالاحتجاجات التي أفضت إلى سقوط الأنظمة الشيوعيّة سعت إلى ما هو أكثر من المعيار الرأسماليّ-اللبراليّ، وقد كان اليمينُ الجديدُ الشعبويُّ مَنْ نجح في التقاط السخط الأعمق حيال الحداثة الرأسماليّة. تحدّث فرويد عن Unbehagen in der Kultur، سخط أو تّقلقل في الثقافة؛ واليوم، بعد ثلاثين عامًا من سقوط الجدار، فإنّ الموجة الجديدة المتواصلة من الاحتجاجات في الديمقراطيّة اللبراليّة ذاتها (حالتها النموذجيّة السّترات الصفراء في فرنسا) شاهدٌ على ضرب من ضروب التّقلقل في الرأسماليّة اللبراليّة، والسؤال الجوهريّ هنا: من سيكون أبرز من يُفصِح عن هذا السخط؟ هل سيُترَك الأمر للشعبويّين القوميّين كي يستغلّوه؟ يكمن هنا الواجب الكبير لليسار: ترجمة السّخط المُختمر إلى برنامج تغيير فعّال.

في المشهد الأخير من فيلم V for Vandetta، يهجم آلاف اللندنيّين العزّل وهم يرتدون قناع غاي فوكس إلى مجلسَيْ البرلمان. بلا أوامر، يسمح الجيش للحشد بالدّخول، ويسيطر الشّعب على السُّلطة... أوكي، لحظة انتشاء رائعة، غير أنّي مستعد لبيع أمي للعبوديّة من أجل أن أرى الجزء الثاني من الفيلم – ما الذي سيحدث في اليوم الذي يلي انتصار الشّعب، حين ينتهي الحماس المخمور وتستمر الحياة اليوميّة؟ كيف لهم (إعادة) تنظيم الحياة اليوميّة؟

يقدّم توما پِكيتي (Thomas Piketty) إجابة لهذا السؤال في كتابه رأس المال والأيديولوجيا Capital and Ideology، حيث يطرح ديمقراطيّة اجتماعيّة مُرَدْكلة[1]. يقوم طرح پكيتي على إعادة إنجاز دولة الرفاه ورَدْكَلَتها – لا بتأميم الثروة كلّها كما في شيوعيّة الأسلوب السوڤييتيّ، بل بصون رأس المال وإعادة توزيع الأملاك عبر منح كلّ بالغٍ حصّةً ماليّةً في سنّ الخامسة والعشرين. ستسمح ضرائب الدّخل التّصاعديّة - التي يقترحها – للحكومات بمنح الجميع دخلًا أساسيًا يعادل 60 في المئة من معدّل الأجور في الأمم الثريّة، وبتغطية كلف نزع الكربون من الاقتصاد. وكذلك، لا بدّ أن يحظى الموظّفون بخمسين في المئة من مقاعد مجالس إدارة الشركات؛ وأنّ تُحدَّد قوّة التصويت بنسبة 10 في المئة حتّى لدى أكبر المساهمين؛ وأن تُفرَض ضريبة كربون فرديّة باستخدام بطاقة شخصيّة تُدوّن إسهام كلّ شخص في الاحتباس الحراريّ... ولكنْ ماذا لو رفض الأثرياء دفع هذه الضّرائب المفروضة، وقرّروا الهجرة؟ يقترح پكيتي ضريبة خروج ومنظومة عدالة عالميّة تجعل التملّص من مصادرة الملكيّة مستحيلًا في كلّ مكان. لتحقيق هذا، يتصوّر وجود برلمان عابر للقوميّات مُكوَّن من أعضاء من مُشرِّعي كلّ دولة.

أفضلُ تمثيلٍ لطرفَيْ مأزق اليسار الراديكاليّ اليوم حوارٌ تلفزيونيٌّ قيّم مطوَّل بين پكيتي وآلان باديو. تقوم رؤية باديو على أنّ الپروليتاريّ المرتحل (nomadic proletarian) ينشأ بوصفه قوة ثوريّة عالميّة جديدة عابرةً لحدود الدولة-الأمة والديمقراطيّة البرلمانيّة، تلغي الرأسماليّة. بالنسبة إلى باديو، لا بدّ لنا من تجاوز الديمقراطيّة كما نعرفها اليوم، إلى أمميّة ثوريّة جديدة. طَرْحُ پكيتي ليس أقلّ طوباويّة، مع أنّه يقدّم نفسه بكونه پراگماتيًا يبحث عن حل داخل إطار الرأسماليّة والإجراءات الديمقراطيّة.

ثمّة حلمٌ ثالث، ديمقراطيّة محليّة متجدّدة، تبدو لي طرحًا أسوأ حتّى من طرحَيْ پكيتي وباديو. لا بدّ لممارسات "الديمقراطيّة المباشرة" اليوم، من الفاڤيلات [الأحياء العشوائيّة] (favelas) إلى الثقافة الرقميّة "مابعد الصناعيّة"، أن تعتمد على جهاز دولة. ويعتمد بقاؤها على نسيجٍ كثيفٍ من الآليات الصناعيّة "المُغرَّبة": من أين تأتي الكهرباء والمياه؟ من يضمن حُكم القانون؟ لمن نلجأ من أجل الرعاية الصحية؟... كلّما تعاظمَ الحكم الذاتيّ في جماعة، تعاظمَ عمل هذه الشبكة بسلاسةٍ وخفاء. لعلّ علينا تغيير هدف النّضالات التحرّريّة من قهر الاغتراب إلى تعزيز نمط الاغتراب الصحيح – كيف لنا بلوغ الفاعليّة السّلسة للميكانزمات الاجتماعيّة "المُغرَّبة" (الخفيّة) التي تصون فضاء الجماعات "اللامُغرَّبة"؟ هذا ما يجعل دولة الرفاه شديدة الإغواء: ليس عليّ مساعدة الفقراء بنفسي، لأنّ جهاز الدولة المجهول سيؤدّي الأمر بدلًا منّي، مُتيحًا لي خيار التملّص من مواجهة المهمّشين والمحرومين وجهًا لوجه.

لذا، مجددًا، لمَ ما أزال متشبّثًا باسم الشيوعيّة الملعون، مع علمي أنّ مشروعَ القرن العشرين الشيوعيَّ قد أخفق، مُولِّدًا أشكالًا جديدة من الرعب القاتل؟ فلأبدأ من حقيقة أنّنا نعيش عصرًا يعجّ بآفاق أپوكالپتيّة [قِياميّة] – ثمّة وفرةٌ، تضادٌّ حقيقيٌّ من التّهديدات الأپوكالپتية. أتحفّظ هنا: حين أتحدّث عن تهديدات أپوكالپتيّة، أعي تمامًا مدى التباس ومراوغة هذا الحقل، وأنّ ثمّة شعرةً دقيقةً تفصل الإدراكات الدّقيقة للأخطار الفعليّة عن السيناريوهات الفانتازيّة بشأن الكارثة العالميّة التي تنتظرنا. ثمّة متعةٌ خاصة في العيش في زمن النّهاية، في ترقّب كارثة، والمفارقةُ أنّ تملّصنا من مواجهة هذه الكارثة يكون عبر تركيز انتباهنا عليها. ولا أرى الشيوعيّة بوصفها حلًا لويلاتنا، بل بوصفها (ما تزال) أفضل اسمٍ يُمكّننا من أحسن فهم للمشكلات التي تواجهنا اليوم، ومن تصوُّر حلٍّ للنّجاة.

إنّنا في لحظة انقلاب مثيرة كان هيگل سيبتهج بها. في العقد أو العقدين الأخيرين، تحوّلت "نهاية التاريخ" الفوكوياميّة (حيث لدينا أفضل بنية اجتماعية ممكنة أساسًا) إلى نسختها الأپوكالپتيّة – لم نصل إلى نهاية التاريخ بعد، غير أنّنا نقترب من النّهاية على هيئة كارثة أپوكالپتيّة... ثمّة سمة شكليّة تبقى على حالها في كلتا نسختَيْ "النهاية": الإحساس بمطمطة لانهائيّة. عالم فوكوياما عالمٌ لا يحدث فيه أيُّ حدث عظيمٍ أو جديد، تستمر الحياة بتحسينات محليّة (أي العالم الذي وصفه كوجيف (Kojeve) بكونه عالم تنفُّج (snobbery))؛ والأپوكالپس موجودة هنا أيضًا، ونحن نجرّ خطانا في برزخٍ لا ينتهي، بحيث تُعاش نهاية العالم بوصفها استحالة النّهاية. إنّنا معتادون على وضعٍ كهذا في الفن (الذي يحتضر منذ قرن وأكثر) والفلسفة (التي هي منذ هيغل فصاعدًا تتبرّأ من نفسها، تتجاوز نفسها). في كلتا الحالتين، يُفضي الموت إلى إنتاجيّة مدهشة وإلى توليد أشكال جديدة، كما لو أنّ حقيقة الموت خلودٌ عجائبيّ. 

المقتضى التالي الوحيد الآن هو قلب وجهة النظر بأسرها رأسًا على عقب: النّهاية قد حدثت أساسًا، ولكنّنا غفلنا عنها. نبدو مثل القط في المشهد الكرتونيّ القديم المضحك الذي يمشي فوق جرفٍ ولا يسقط إلا حين ينتبه إلى عدم وجود أرضٍ تحته. لا بدّ أن تكون نقطة انطلاقنا بأنّ الأپوكالپس قد حدثت حقًا، بمعنى من المعاني: مجتمعاتنا خاضعةٌ أساسًا لمراقبةٍ وسيطرة رقميّة شاملة، التّغييرات في بيئتنا تواصل عملها، الملايين يرتحلون أصلًا. ولذا لا بدّ أن نتخلّص من مجاز أنّنا "خمس دقائق قبل الظهر،" وأنّها فرصتنا الأخيرة كي نفعل وكي نحول دون الكارثة. الوقت الآن خمس دقائق بعد الظهر، وسيكون السؤال ما ينبغي فعله في كون عالميّ جديد كليًا. لا يعني هذا، بالطبع، أنّ علينا ألا نناضل كي نحول دون الكوارث التي تنتظرنا. لو عدنا إلى نكتة المشهد الكرتوني، وَضْعُنا الحاليّ في مكان ما بين نهايتي الخيط، النهاية الأولى هي ما يحدث حين نشرع بالخطو من دون أرض تحت أقدامنا، والثانية هي ما يحدث حين نسقط فعلًا. إنّنا نمشي على الهاوية أصلًا، وقد فقدنا الأرض تحت أقدامنا، ولكن – بخلاف حالة القط – فإنّ الطريقة الوحيدة كيلا نسقط إلى حتفنا هي أن ننظر إلى الهاوية تحتنا وأن نتصرّف تبعًا لهذا.

وكما أشارت ألينكا زوپانتشتش (Alenka Zupančič) بوضوح، أكبرُ برهان على أنّ الكارثة الإيكولوجيّة قد حدثت هو أنّها قد خضعت لإعادة تطبيع. أكثر فأكثر، بتنا نفكّر "عقلانيًا" حيال كيفيّة أقلمة نفسنا حيالها، بل حتّى كيفيّة الانتفاع منها (نقرأ أنّ بقاعًا كبيرة من سيبيريا ستُتاح للزراعة؛ أنّهم باتوا قادرين على زراعة خضروات في گرينلاند؛ أنّ انصهار الثّلوج في القطب الشّماليّ سيجعل طريق نقل البضائع من الصين إلى الولايات المتّحدة أقصر بكثير...). مثال نموذجي لهذا التّطبيع ردّة الفعل السّائدة حيال انكشاف النّشطاء الفاضحين مثل أسانج، وماننگ، وسنودن، التي لا تصل إلى حدّ الإدانة ("ويكيليكس تروّج الأكاذيب!") بل تكون أشبه بـ: "كلّنا نعرف أنّ حكوماتنا تقترف هذه الأفعال طوال الوقت، لا مفاجأة هنا!" وبذا، حُيِّدت صدمةُ إفشاء الأسرار عبر الإحالة على حكمة أولئك الأقوياء كفايةً ممّن حافظوا على نظرة متّزنة على وقائع الحياة... ينبغي لنا، في مواجهة هذه "الواقعيّة"، أن نسمح لأنفسنا بأنْ نُصْدَم كليًا وبسذاجة حيال فحش وهول الجرائم التي كشفتها ويكيليكس. فالسذاجة، أحيانًا، أعظم فضيلة. 

يُسمّى الأصوات الأساسيّون لإعادة التّطبيع "متفائلين عقلانيّين" مثل مات رِدلي (Matt Ridley) الذي يمطرنا بوابل الأخبار السعيدة: كان العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أعظم عقد في التاريخ البشريّ، معدّلات الفقر تنخفض في آسيا وأفريقيا، التلوّث يتضاءل، إلخ. إنْ كانت الحال هكذا حقًا، من أين ينبع جوّ الأپوكالپس المتنامي إذن؟ أليس حصيلةَ حاجةٍ مَرَضيّةٍ ذاتيّةٍ إلى التّعاسة؟ حين يُنْبئنا المتفائلون العقلانيّون بأنّنا نبالغ في خوفنا بشأن مشكلات نافلة، لا بد أن يكون ردّنا أنّنا، على العكس، لسنا خائفين بما يكفي. بحسب صياغة ألينكا زوپانتشتش للمفارقة، "بدأت الأپوكالپس أساسًا، غير أنّنا – على ما يبدو – نفضّل الموت على أن نسمح للتّهديد الأپوكالپتيّ بإخافتنا حدّ الموت."[2] محلَّ لحظات الدّينونة والترقّب المُستسلِم للنّهاية، حلَّ الثّباتُ الشّجاعُ الزائفُ ("سنجتازها على نحوٍ ما، المهمّ ألّا تفقدوا أعصابكم وتقعوا أسرى للهلع").

سهلٌ أن نرى هنا كيف أنّ المتفائلين العقلانيّين وأنبياء الدّينونة وجهان لعملةٍ واحدة: يُنْبئنا الفريق الأول أنّ بإمكاننا أن نهدأ، إذ لا سبب للذعر، الأمور ليس بهذا السوء؛ ويُنبئنا الفريق الثاني أنّ كل شيء قد ضاع، وأنّ جلّ ما في وسعنا هو أن نهدأ وأن نستمتع استمتاعًا منحرفًا بالمشهد. كلاهما يمنعاننا من التّفكير والتصرّف، من اتّخاذ القرار والاختيار. على ضوء جميع الأسباب التي شرحناها في الكتاب، أفضل اسمٍ لهذا الخيار ما يزال «الشيوعيّة». لا يعني هذا أنّ الشيوعيّة إحدى الخيارات المُتاحة؛ إنّها الخيار الأوحد. أما الخيارات الأخرى التي قُدّمت لنا (مثل "إعادة الضبط العظيمة" (Great Reset) التي روّجت لها الشّركات الكبرى) فليست إلا وسائل لتغيير شيءٍ بعينه بحيث لا يتغيّر أيّ شيء فعليًا. وحالما نختار الشيوعيّة سندرك كيف توجَّب علينا اختيارها. مع الشيوعيّة، ستكون لنا حريّة اختيار ما علينا فعله، ما ينبغي لنا فعله. هذا ما يعادل الادّعاء الهيگليّ القديم بأنّ الحريّة ضرورةٌ مُدرَكةٌ: لا يعني هذا أنّ تحقُّق الشيوعيّة حتميّ – قد لا تتحقّق، قد ننتهي في عربدةٍ تدميريّة ذاتيّة أو في رأسماليّة شركات نيوإقطاعيّة – ولكن حالما نختارها، سندرك أنّها خيار النّجاة الوحيدة.

الهوامش:

[1]: پكيتي محقٌّ في التّشديد على الأيديولوجيا التي تلعب دورًا محوريًا في المجتمع حتّى في عصرٍ يُثْني على نفسه بكونه مابعد-أيديولوجيّ. ولكنّ تركيز پكيتي على الأيديولوجيا تركيزٌ بالغ السّذاجة – هو يفهمها فهمًا حرفيًا بالمطلق، محاججًا بأنّ اليسار كان قادرًا على المضيّ أبعد في إنجاز دولة رفاه ديمقراطيّة-اشتراكيّة، غير أنّه فوَّتَ هذه الفرصة، منذ سبعينيّات القرن العشرين فصاعدًا، بسبب عماه الأيديولوجيّ.

[2]: Alenka Zupančič, The Apocalypse Is Still Disappointing (مخطوط).

[ترجمة يزن الحاج].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬