رائد وحش
(منشورات المتوسط، إيطاليا، 2022)
[رائد وحش شاعر وكاتب وصحافي من فلسطين - سوريا، من مواليد دمشق 1981. عمل محرّرًا في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية السورية والعربية. صدر له في الشعر: "دم أبيض" 2005، و"لا أحد يحلم كأحد" 2008، و"عندما لم تقع الحرب" 2012، و"مشاة نلتقي.. مشاة نفترق" 2016، و"كتاب الذاهبين" 2022، وفي النثر "قطعة ناقصة من سماء دمشق" 2015، وفي الرواية "عام الجليد" 2019].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة نصوص المجموعة؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
رائد وحش (ر. و.): ولدتْ من حبي للخوض في المناطق المظلمة، والتنقيب عن الجماليّ فيها، وربما من الرغبة في المساهمة بتقديم إجابتي الخاصة لتلك الأسئلة التي لا إجابة حاسمة لها.
هذه القصائد جزء من انشغالي بموضوع الموت، ولعل من المجحف أن موضوعًا عظيمًا مثله بات أسير تصورات نمطية عن الفقد والخسارة والمجهول، ولا تتم مقاربته إلا من خلال الرثاء، رثاء الذات أو الآخرين.
ورغم أن الموت موضوع أثار اهتمام الأدب والفن والفكر والدين على مرّ العصور، إلا أنّ الدافع والمحرّض لكثيرين أنتمي إليهم هو معايشتنا الحيّة لفصول المأساة الكبرى في سوريا، التي اقتحم الموت كل تفاصيلها. لا أتحدث هنا عن المستوى الفيزيائي وحسب، بل عن انقضاء عالمنا الأليف، وابتداء عالم جديد يكتبه الموت ندباتٍ في أجسادنا ونفوسنا على السواء.
إلى جانب ذلك كله، جاء موت الشاعر أمجد ناصر مُزلزلًا بالنسبة لي، ففي الفترات الأخيرة من حياته كنتُ قريبًا منه على نحو شخصيّ، الأمر الذي جعل موته يبدو أكثر من موت إنسان، صديق ومعلّم في آنٍ، بل رأيتُ فيه موتي الخاص، نتيجة لتشابهات عديدة في السيرة والمصير. لهذا فإن كتابتي لقصيدة عنه تحوّلَ فيها إلى قرين هي من جعلت أفكار الكتاب تتوالد من هذا التلاقي العجيب للمصائر، الذي يجعل حياة شخص ما تبدو وكأنها تكرار لحياة شخص آخر. إنها سيناريو جاهز يتغير فيه الشخوص والمسرح قليلًا، لكنها في العمق ذاتها. وأظن أن الحياة تعيد نفسها كي نفهم، إنها تقول لنا: اصغوا جيدًا إلى الآخرين، انتبهوا إلى حياتهم، افهموها وافهموهم. ولأننا لا نفعل ذلك من فرط أنانيتنا باتت ترغمنا على عيش حياة الآخرين.
حين أقلّبُ صور أصدقاء الأمس على فيسبوك، من الأقارب أو الجيران أو زملاء المدرسة، أجدهم أنجبوا أطفالًا يشبهونهم في الزمن الذي غادرناه، بينما هم أنفسهم الآن صاروا نسخًا طبقَ الأصل عن أهلهم في الزمن الذي غادره أولئك الأهل. ينطوي هذا التكرار في الأزمان والحيوات والمصائر على معنى ما، أو لعله رسالة بأن مستقبلنا حاضر في صورة ما من ماضي أشخاصٍ آخرين. وما هذا التكرار سوى إصرار الحياة العجيب على دفعنا لفهم هذه الرسالة. ليس الزمن، في نسخته المتكررة هذه، نهر هيراقليطس الذي لا يمكن للإنسان أن يعبره مرتين، بل ربما هو دوامّة تلتقي فيها المآلات.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية التي تحتوي عليها؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه النصوص؟
(ر. و.): هو كتاب عن الموت في ملمح عام. تذهب القصائد وتعود إليه. يتركّز تصور الكتاب عن الموت في قصيدة طويلة اسمها "ترجمة رسائل الحجر"، تريد أن تُخبرنا أن الموت كان يتكلم معنا طوال الوقت عبر الحجارة، كأنّ الحجارة كانت رسائل، لكنها مع الأسف لم تُفضَّ. الحجارة جميعها تحتوي على سطوحها أشكالًا تشبه الكتابات، وهي أيضًا تتحوّل إلى تماثيل وقبور وأضرحة، ولا شأن لأيدي البنّائين أو النحّاتين أو غيرهم في ذلك. تقول القصيدة إن الموت كان يكتب على الحجارة، ثم راح يكتب بالحجارة رسائل مرئية على شكل مشيدات ومبانٍ وصروح، لكي يقول لنا إنه ليس مرعبًا كما نحسبه في خيالنا القاصر، وأن كل هدفه هو اتحاد العالم ببعضه البعض في حجر كبير، مُشكّل من كل الأمم والكائنات والموجودات والكواكب... الموت هو الحقيقة النهائية.
(ج): كتابُك الأخير مجموعة شعرية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ر. و.): الشعر أداة وليس سجنًا. لهذا يمكن أن نستخدمه بالطريقة التي نراها مناسبة. وهو بالنسبة لي مفتاح للبحث والقراءة وعتبة لمداخلات فلسفية أو تاريخية أو اجتماعية. ولعله من المؤسف أن نرى هذا الفن مظلومًا على الدوام، مرةً حين يُحصر في شكل قصيدة النثر فقط، مع أنه على صعيد الشعر المكتوب أوسع وأكبر من ذلك بكثير، ناهيك عن الشعر الشفهي، ومرة أخرى حين يكون بين يدي من يرون فيه وسيلة للكتابة عن الذات، الذات فقط. سمعتُ مرارًا من أشخاص مختلفين في مناسبات لا علاقة لها ببعضها البعض، جملةً تقول إن الشعر فن الذات والرواية فن الآخر. يمكن استحضار المزيد من الأمثلة، لكن هذا يكفي، فما أريد قوله هو أن تأثير الشعر، أو أي طرح فيه أو حوله، ضعيف بالضرورة أمام الانتشار الهائل لهذه السردية التي بات له منتجوها وجمهورها، وأصبحت لها سلطة خطابية. في هذه البلاغة الرائجة والإشكالية، يتم اختصار الشعر تارة بنكران امتداده الحضاري، وتارة أخرى في إحالته على نسخة فردانية أرستقراطية مترفعة عن أسئلة الجماعة وانشغالاتها. الشعر موجود دائمًا على التخوم الغامضة والسائلة بين الذات والآخر، ولعله في ذلك ينكر الفصل الزائف بينهما.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ر. و.): كل مشروع في الكتابة هو تحدٍّ. ولـ"كتاب الذاهبين" نصيبه من التحديات. أكثر ما واجهني هو صناعة شخصيات، ففي القصائد ثمة شخصية الريح، ورجل يلعب دور الدليل يظهر في عدة أماكن من الكتاب باسم الرجل النسر، وهناك أمجد ناصر الذي يأتي على شكل قرين، والنبي أيوب السعيد جدًا وخالي البال، وأخيرًا هناك والتر وايت، بطل مسلسل "بريكنغ باد"، الذي يقف عند أول الممرات بين الحياة والموت، لكنه لا يحضر كما هو في المسلسل، بمعنى أنه لا أهمية لما يمثله في السياق العام الذي عرفناه فيه كمجرم، إنما تُستعار هذه الشخصية لأنها عرفت الحياة، فهو كان خيّرًا ثم تحوّل إلى شرير، ولهذا يبدو لي صورة أخرى للعراف الإغريقي تيريسياس، الذي عاش كرجل ثم امرأة ثم كرجل. والتر وايت يقف عند حدود الحياة الأولى مثل ضابط عمليات ومؤهلاته هي معرفته.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ر. و.): إنه الكتاب الشعري الخامس. وفيه أطبّق نظرتي الخاصة بخصوص العودة بالشعر إلى أشكاله الأولى: الملحمة، الصلاة، الأغنية.. من أجل استلهامها بشكل معاصر، إلى جانب جعل القصيدة حافلة بالشخصيات والحوارات كما في المسرح، والعمل على لغة تجسّد ذلك. أحاول أن أعبّر من خلال هذه العودة إلى الأشكال الأولى عن رفضي للفهم الرائج والخطيّ للشعر، وكأنه يبدأ من قصيدة كلاسيكية ملحمية وينتهي إلى قطعة نثر مفرطة في الذاتية. لم يكن زمن الشعر يومًا خطيًا، وإن كان لا بد من تخيل زمن له، فإنني أراه دائريًا، تتقاطع فيه مسارات وسير ومدارس، وربما يتجاور في فضائه شاعر عباسي غنائي مع شاعر إنجليزي رومانسي، وتجيب أدوات كلاسيكية فنية عن أسئلة راهنة.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز المجموعة؟
(ر. و.): قرأت لأجل الكتاب، وكتبت فيه بفعل قوة بعض القراءات. أهم ما أفادني مما قرأته هو كتاب "الموت والعالم الآخر في مصر القديمة" لعالم المصريات الألماني يان أُسمان، الذي يقدّم قراءة عميقة لجوهر تفكير المصريين في الزمن الفرعوني بالموت، من خلال ربط كل ما يحدث بقصة أصلية هي قصة إيزيس وأوزوريس. عملية التحنيط هي مربط الفرس هنا، صحيح أنها عملية كيميائية، لكن الفعل اللغوي فيها يوازي الفعل الكيميائي، إذ إنها عملية معالجة لغوية للموتى، حيث يتم الحديث إلى الميت لأيام طويلة، ثم إن القماش الذي يُلف حول جسد المومياء عليه تراتيل.. كأنّ الكلام يعيد ربط الأعضاء الممزقة، كأنّ اللغة تُخرج الميت من موته إلى الحياة الأبدية.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ر. و.): أفكر بالقارئ بلا شك. الإنسان يكتب لأجل فتح حوار ما. هذا القارئ بالنسبة لي مؤمن بدور الأدب، يتواطأ مع الطموح غير الواقعي للشعر في فهم العالم، وربما تغييره، حتى في أزمنة اليأس والخيبة. إنه يتشارك مع الأدب تطلعه إلى التغلب على سطوة الحقيقة وعنفها، ولا يصدق الحدود الزائفة بين الواقعي والخيالي.
يكمن جوهر الأدب والفن في إعادة الأشياء إلى شكلها الأول ثم بنائها من جديد، ومنحها معانٍ وسياقات ومشاعر أخرى. ولأنّ الفن هو إحدى الوسائل الأنجع في ذلك فبمقدار ما أبحث عمن يشاركني الأفكار والمشاعر والأخيلة والحالات، ويختبرها معي عاطفيًا وفكريًا؛ فإنني أبحث بالقوة نفسها عمن يصدّقني ويتعامل مع ما أقدّمه له بجدية.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ر. و.): لدي أكثر من مشروع. لكن دعني أتحدث عن واحد منها كونه يحوز اهتمامي وتركيزي في هذه اللحظة. أكتب نصوصًا عن المنفى. نصوصًا تجمع بين القص والمقال تحاول البحث عما يفعله المنفى فينا، من خلال البحث في العلاقة مع المكان الذي لم يعد مكانًا، والزمان الذي أصبح ماضيًا وحسب. وكذلك فحص الوضع النفسي للمنفي المصدوم، والنظر كذلك في اللغة في البلاد الغريبة، أو كيف يصبح فمُنَا أجنبيًا؟
مقتطفات من الكتاب
استراحة موكب أيوب
هل جاءَ الضّبابُ بهم، أم جاؤوا بالضّباب،
هؤلاء الذين يمشون الهوينى
خلف موكبٍ أميريّ،
فيغيب الجسرُ والنهر،
ولا يبقى واضحًا من مشهدهم غيرُ الضّحك؟
يُنزلون أميرهم من عربته محمولًا على الراحات
ويتركونه لجمعٍ من خلّانه
ثم يتفرّقون ليفترشوا الضفاف ثنائيّاتٍ تحكي وتضحك.
"من هؤلاء؟
لماذا توقّفوا هنا؟"
سألتُ.
"قافلة المرضى وأمراضهم
وأميرهم أيوب"
قال الضّبابُ.
أرى سرطانًا يتدلّى من رأس أمجد ناصر وهو يفترش العشب، تاركًا إياه يهوي قبالته خيوطًا رماديّةً لا ملامح لها، لتحكي عن معنى العلامة وارتسامِ المصير قبل الولادة بأجيالٍ، وكيف على المرء أن يحيا ليكتب ما يزيلُ القناع عن وجه الأقدار اللاهي.
أسمعُ صوته القويّ يعلو ويخفت، فيما تلك الحشرجات التي احتَلَّتْ فمه في الأيام الأخيرة، ها هي تصدر عن فم سرطانه.
هناك سلٌّ منبثقٌ من صدر صبيّةٍ أنسجةً حمراءَ. أعرفها جيّدًا، هذه أمونةُ، جدّةُ جدّتي. أوصاف هذه الصّدر حكايةٌ عائليّة رويتْ مرارًا عن جدّةٍ لم ترضعْ لبن أمّها.
أما الأنسجة الحمراء فتقرفصُ أمامها كحبيب يسابق الوقت، وأحلامه تتمثّل في تقليص المسافة بينهما.
هنالك كلٌّ وصاحبه: القصور الكلويّ، السّكّريُّ، التهاب الكبد، الكوليرا، الجُذامُ، الطاعون.. ومن حول الجميع تتطاير فقاعات صغيرةٌ من ضبابٍ لا تنفجر ولا تتلاشى. أسماؤها واضحةٌ من وجوهها:
الحمّى،
الأنفلوانزا،
الشقيقةُ،
الديسك،
الدّوالي..
"لا تبحث عنهم في المشافي
لا تلم الأطبّاء والصّيادلة والأدوية
لا تسأل عن قبورهم
فما أبكاهم وذوّب آمالهم انتهى صداقةً
في قافلة لا هدف لها"
قال الضّباب.
يُعيدون الأميرَ إلى عربته، ثم يلتفّون حولها ليمشوا على خطوات أحصنتها التي انتهت عليلةً، وها هي تجرّ العربات بمعونةٍ من أوبئتها.
ينقشع الضبّاب
يبينُ الجسر
وتظلّ ضحكات أيوب وخلّانه أصداءً
تحدو بالموكب.
قرابة الغياب
1
أسمعه يضاحكُ آخرين بين تلالٍ تتقاذف صدى الضحك فأدرك أنه ضحك قديم، فيما صوته لم يكف عن الدوران بين المرتفعات إلا كي تسمعه الأذن التي يريدها.
ها أنذا أسمعه، وحين أسمعه أناديه، وحين أناديه يردّ باسمي فورًا، لكنّ هذا الذي ينادي عليّ الآن ليس صوته القديم.
هل يأكل الصدى جزءًا من نبرة الصوت؟ أم لعلّ أصواتَ الغائبين تنزل غريبةً على مسامعنا لأن وقتَ الغياب ومسافاته يجعلان الأحرف أثقل وزنًا، والكلمات أبطأ مما يجب؟
أراه مقبلًا فأركض نحوه في زمن سابق، وبين عناق وآخر أرى وجهه أصغر من عمره عند الاعتقال، لكنّ خطّين من الشيب يلونان صدغيه يبدوان رسالةً تقول لكل من يهمهم أمرُ الغائب: لا تقبلوا توقف الزمن على وجه من تُحبّون عند الاختفاء، ولا حتى عند الموت، فكما ينبغي أن نتخيّل الغائبين يكبرون ويتغضنون، علينا أن نتخيل أجدادنا الذين بلغوا من الموت قرونًا باتوا يتنافسون أخيرًا في مراتب الآلهة.
على تلة لا أعرف كيف وصلتها، أجالسه وأبكي من صوته الغريب، صوته المنهك مثل صدى لم يسمعه أحد. وأبكي من ملابسه القديمة التي لا تزال تلازمه كجلده، مختصرةً معنى الفقر في عبارة: ملبس واحد للنوم والخروج. وأبكي لأن خيالي الذي طالما خلته رحمًا لصور الغُيّاب يتمزّق من إجهاضها في هذا اللقاء.
2
يشرب من زجاجةٍ
فأقول: "اسقني من خمركَ"
يقول: "ليس خمرًا
مجرد زجاجة فارغة
التقطتها وأنتِ تعانقينني
جمعتُ فيها
ما استطعتُ من قطرات دمعكِ".
"ولماذا تشرب الدمع؟".
"لعهديَ مع نفسي
على تذوّق كل ألمٍ تسبّبت فيه
وهذه حصتي الأولى منكِ".
"لماذا تكبر الآن أكثر؟
لماذا يزداد الشيب
في رأسك ووجهك؟
وما الذي يجعل الغضون
تتكاثر بهذه السرعة؟
أبسبب شرب الدمع؟".
"لا،
لأكون على صورتي حينما يطلقون سراحي
لتري الآن ما سوف ترينه لاحقًا
فبالأسى ندرّب القلوب على الفرح".
"إذًا لم تخرج بعد
وهذه المرتفعات من نسج خيالي؟".
"لم أخرج،
لا أزال في زنزانتي
وهذه التي تبدو لكِ مرتفعاتٍ
هي صرخاتي التي راكمَتْها الأيام
من حولي".
"هل تعني أنني عندكَ
أنا التي تظنّ أنكَ عندها؟
وهل أنا في خيالكَ
فيما أظنّك أنتَ في خيالي؟".
"لسنا أحدًا
لا خيالًا ولا حقيقةً
ليكون واحد منا عند الآخر.
لعلنا مجرد هذيان نسيَ نفسه
لشدّة ما تطرف في الجنون
فصاغ الحكاية
ليعيد إنشاء نفسه وحسب"
" توقّف.. توقّف..
أعرف أنك ستقول
ما تقوله دائمًا
عند هذا الحدّ:
نحن الذين صنَعَا غيابًا
طوال الوقت
لا بد للغياب من صُنْعِنا أيضًا".
3
أسمعه فأناديه فيسمعنى ويناديني. وحين يأتي يحاول أن يجعل الأشياء بلا معنى لتغدو بلا ألم. قاعدته الوحيدة: امحُ المعاني تمحُ الشقاء فيها.
لا أعرفه. لم نكن يومًا عائلة. لا هو ابني ولا حبيبي، غير أنّني منذ وصلتُ إلى هذه التلال لم يعد هناك من أحد يهمني سواه، وكأنه فكرتي التي بعتُ حياتي للشيطان من أجلها.
عرفت السرّ، سرّي وسرَّه أخيرًا.
عرفت كيف تنشأ صلات القربى بين الغائبين: أنا هو وكلُّ أحدٍ آخر، فالغائبون شخصٌ واحدٌ يريد أن يغيب ومعه آلام الآخرين.