يعيشُ الإنسان المعاصر في بحبوحةٍ، ويتنعّمُ بنعم كثيرة، وكلّ ما عليه فعله كي يعيش هذا الترف هو أن يضغط على الأزرار حين يستقيظ أو ينام، أو حين يستحم أو حتى حين يتنزّه، حيث تراه يصلُ الأسلاك بأذنيه، أو يستخدم سماعات لا-سلكية غير آبه بأصوات المحيط الخارجي، كما أنه حين يريد أن يعد فنجان قهوة أو شاي أو يسخن سندويشة، كل ما عليه فعله هو أن يضغط المزيد من الأزرار. صارت الأزرار الرفيق اليومي للكائن الحديث المُرفّه، ولا معنى لحياته من دونها. تخيّلْ فجأة أن مواطناً من نيويورك أو لندن أو باريس أو برلين يستيقظ فجأة في أحد الأيام ولا يعثر على أي من هذه الأزرار. يفتح برّاده فتفوح من طعامه رائحة العفونة، يمسك ركوة القهوة ويضغط على زر الغاز فلا يشتعل، وحين يشتد البرد لا تعمل التدفئة المركزية، وحين ينتهي شحن هاتفه أو تظلم غرفته لا يعثر على أي أثر للطاقة. وحين يدخل حمّامه كي يقف تحت ماء الدوش الساخن ويغمض عينيه ويدخل في أحلام يقظته، يكتشف فجأة أن الماء لا يتدفق، وحين يخرج إلى الشارع ويمد يده في جيبه قد لا يجد ثمن علبة تبغ أو عيدان ثقاب. كيف سيحيا؟ هل سيبدأ بقطع الأشجار في الجادات الرئيسة؟ هل سيحفر آباراً في الشوارع كي يشرب؟ هل سينضم إلى عصابة لترويج المخدرات كي يأكل؟ هل سيغادر هذه المدن؟ ولكن إلى أين سيذهب؟ أم هل سيخرج على الفور كي يحتج، كي يدين المؤسسات الحاكمة، ويسألها أين ذهب كل هذا، وتمتلئ الشوارع بأبناء مدن غاضبين يطالبون بأبسط حقوقهم في الحياة؟ وحين لا يعثرون على جواب، هل سيقبلون العودة بسهولة إلى حياة ما قبل التكنولوجيا، ويتكيفون مع واقع بائس ينتمي إلى عصر كانت فيه حياة الإنسان صراعاً مريراً للتكيف مع طبيعة قاسية؟
هذا وضع افتراضي في الغرب، لكنه في منطقتنا، وخاصة في سوريا، وضع حقيقي يعيشه ملايين السوريين الآن. لم يعد هناك طاقة في حياتهم ولا وقود ولا إنارة ولا اتصالات ولا طعام يغذي جيداً، إلا ما ندر. ويقال إن كثيرين في الأرياف وفي أحياء المدن الفقيرة يتكيفون مع الحياة الجديدة، التي تسحقهم بأعبائها. غير أننا يجب ألا نغفل هنا ذكر حياة المشردين والنازخين واللاجئين في الخيام سواء في الداخل أو الخارج، والذين يدفعون أثماناً مضاعفة أعلى بكثير من التي يدفعها غيرهم، وقد بدأوا بدفعها منذ أول يوم في الحرب.
أسرّ لي أحد الأصدقاء أنه لم يعد قادراً على الاستحمام الممتع والمريح، في البداية عاد إلى الطريقة التي كان يستحم بها قبل تمديد الكهرباء حين كان فتى يافعاً، وفصّل لي كيف أنه كان يملأ برميلاً صغير الحجم ويسخنه على الغاز أو ببور الكاز ثم ينقله إلى الحمام ويخلطه بكمية أكبر من الماء كافية لجسمة دون أن تصل إلى السخونة المطلوبة، ثم يجلس على مقعدة خشبية ويمسك بلوح الصابون ويمرره على جسمه، مستخدماً ليفة، ويعد ذلك يغسل زوماً واحداً، وبعد أن استحالت جرة الغاز إلى حلم هي الأخرى صار هذا الحمام حلماً يتحقق مرتين أو مرة في الشهر، بالتالي لم يعد صديقي يطيق نفسه، في هذا الوضع، وبدلاً من استخدام الماء الساخن، ونظراً للبرودة الشديدة في الحمام وندرة المياه، صار يعقم أعضاء جسمه بالكحول والمواد المتاحة إلى أن تسنح له فرصة لحمام دسم، خاصة بعد أن صار الماء يأتي بالتقتير وأصبح ملء الأوعية والخزانات المنزلية عملاً شاقاً يقتضي السهر حتى مطلع الفجر. أما بالنسبة للثياب فإنك لا تضمن أن تفوح رائحة عطونتها من قلة الغسل، بما أن الغسالات لا تعمل، وطريقة غسل الثياب التقليدية تحتاج إلى توقيت بسبب مجيء الماء النادر، ولهذا صار هذا ترفاً آخر. لم ينس صديقي أن يضيف أن هذا يظل نعمة بالمقارنة مع ما يحدث في خيام اللاجئين وخاصة على صعيد الاستحمام والمأكل والملبس والتدفئة والنوم وكافة التفاصيل الأخرى. وروى صديق موسيقي يعيش في دمشق على صفحته على فيسبوك أن الماء لم يعد يصل إلى خزانه على سطح الطابق السابع وصار تأمين أو شراء صهريج ماء مسألة في غاية التعقيد نظراً لفقدان القدرة على الاتصال بالهاتف ووضع الشبكات بالغ السوء. أما بالنسبة لأجهزة حفظ الطعام فقد أُلغي البراد من حياة العائلات أو الأفراد، وصار يُطبخ الطعام، إن توفّر، بكميات مناسبة للوجبة، أو يتم شراء المواد الغذائية كالأجبان والألبان أو (اللحوم في حالات نادرة) بكميات أقل، وهذا ينطبق على كل ما يحتاج إلى حفظ في البراد بعد تناول الطعام. وحلت ”النملية“ مكان البراد لحفظ الطعام، وخاصة الأنواع التي لا تتلف بسرعة. وعقّب أحد معارفي، الذي قرر أن يعيش في الريف الآن بعد أن هجر المدينة: "نعيش على الحطب كما كان أجدادنا يفعلون، ونقتّر في كل شيء، حتى في كأس العرق، هنا على الأقل نستطيع أن نزرع بعض الخضار كالبصل والفجل والسلق والخس والسبانخ، ونحصل منها على بعض الوجبات، ونبيع بعضها إن استطعنا. ولقد صرنا نباتيين رغماً عنا". وشكى لي صديق آخر على الهاتف أنه وقع مرة ضحية نصب في دمشق، إذ أوقف صهريجاً تجره البغال وطلب من البائعين أن يملأوا له خزان المازوت، والذي يُركّب في السقيفة في الشقق الدمشقية الحديثة، تم تمديد الأنبوب ورفعه بحبل إلى الطابق الثالث، وصعد أحد البائعين الجوالين إلى السقيفة وأوهمه أنه يملأ الخزان، بعد أن رحل الصهريج، حلم بقضاء مساء دافىء، غير أنه حين فتح صنبور المازوت جأر صوت الفراغ.
نسمعُ من القصص والروايات الكثيرة التي لا تتوقف عن الانتشار عن حياة في سوريا عادت إلى الوراء أكثر من عدة عقود، إلى مرحلة ما قبل الكهرباء والغاز والتمديدات الصحية. وانقسمت الحياة إلى عالمين مختلفين، لا صلة بينهما: عالم الأغنياء وعالم الفقراء. في عالم الأغنياء كل شيء متوفر، من أفخر السلع إلى كافة أشكال الوقود ومزودات الطاقة، وفي حياتهم لا يوجد حصار اقتصادي أو عقوبات، لا فرق بين حياتك سابقاً وحياتك الآن، أما في أحياء الفقراء وقراهم فتشعر بشدة الحصار، وبانتصارات كل من يسهم بفرضه، حيث حتى الحطب صار تأمينه مستحيلاً، واحتكرت تجارة الأخشاب مافيات لم تبق شجرة في الغابات على قيد الحياة إلا وقطعتها، وسمعنا عن فقراء قضوا من البرد في العاصفة الأخيرة، وتصحّر حزام الخضرة في سوريا، والتلال التي أتذكرها منذ أكثر من عشر سنوات، والتي كانت أدغالاً تضيع فيها صارت صلعاء، وهي موثقة في صور على مواقع الإعلام الاجتماعي، تلمع عارية تحت ضوء الشمس، فيما الليل دامس في القرى والأحياء، وصار بوسعك أن تلمح في الليل شمعة أو قنديلاً، مما يعيدك إلى الأيام القديمة قبل اختراع أديسون، وتكاثر قطاع الطرق، ولم يعد أحد يتجرأ على أن ينام ويترك باب بيته مفتوحاً كما كنا نفعل في الأيام الخوالي. ليست هذه نوستالجيا إلى أيام آمنة، بل إشارة إلى وضع بدأ يتفاقم ويخرج عن السيطرة، في جغرافيا مهددة ليس فقط بغياب سلطة مركزية وبجيوش احتلال جرارة وجماعات أصولية وميليشيات من كافة أصقاع العالم تزدهر على أرضها، بل بأخطار تُحوّلُ الحياة اليومية إلى نوع من المرض، الذي يدفع الناس إلى التفكير بالمغادرة، وإلى قطع صلتهم بمحيطهم الأرضي الطبيعي والوجودي. ولقد أدى هذا الوضع إلى هجرة جماعية ومحاولات انتحارية لعبور الحدود والبحار، ولا تلوح في الأفق بارقة أمل للحل نظراً للاستعصاء السياسي الذي يديم من الاستعصاء الاقتصادي وللعقوبات التي لا ترحم وللحصار، وكل هذه العوامل سواء كانت داخلية ناجمة عن أخطاء سياسية أو خارجية ناتجة عن تدخلات مشبوهة، تتضافر وتتعاون على فرض عقاب جماعي على الشعب السوري عن طريق تحويل حياته اليوميه إلى لهاث دائم بحثاً عن لقمة الخبز، وشرارة الوقود وشربة الماء. وصار الشعب السوري في مختلف مناطقه جائعاً ويرتجف من البرد في عراء السياسات المحلية والإقليمية والدولية، والأنكى من ذلك أنه لا أحد يكترث، والناس متروكون لحلولهم الخاصة، أو لموتهم ومعاناتهم الخاصة. مرضى السرطان الذين لا يستطيعون أن يشتروا إبرة أو جرعة كيماوية لم يعد كثيرون منهم يذهبون إلى المستشفيات، وقرروا أن يموتوا ببطء متحملين ألماً وحشياً، فيما الطلاب لا يستطيعون استخدام وسائل للنقل للذهاب إلى مدارسهم أو جامعاتهم بسبب أزمة الوقود، ولا أحد يستطيع الاحتجاج على الأوضاع المتردية لأنه من غير المسموح بأن تفتح فمك حتى لو تجمدت ومت في زاوية بيتك من البرد.
لا شك أن هذا الوضع السوري القاسي لوحةٌ لما آلت إليه الأمور بعد أن تحولت السياسة إلى آليات لحماية مصالح آنية ضيقة، ولهدم الجسور الحقيقية مع الناس، ولتبديد أو التفريط بما تبقى من الموارد، ولفقدان السيادة التدريجي والتدخلات الخارجية المشبوهة، وها نحن نرى سورية الآن على مفترق طرق: جميع أصحاب الشهادات والخبرات يغادرون، الأطباء السوريون يذهبون إلى دول الخليج العربي وأفريقيا، أو إلى أي دولة تستقبلهم، بأي نوع من أنواع العقود، فيما المهندسون السوريون يعملون في الشركات الأوربية أو الأمريكية أو الخليجية. وما من بارقة أمل لإنقاذ الليرة، أو لإعادة بناء البنية التحتية، وبدأت العملة المحلية بالاختفاء في المناطق الحدودية المجاورة لتركيا، وحلت محلها الليرة التركية، وصارت اللغة العربية غريبة الوجه واليد واللسان في المدارس والمعاهد في هذه المناطق حيث تم تتريك المناهح، وتعاظمت هجرة الأدمغة إلى حد خطير، غير أن الأخطر من ذلك هو أنه لا أحد يكترث فيما شعب بكامله يعيش فجيعة حقيقية في القرن الواحد والعشرين، غير قادر على إضاءة بيته أو تدفئة نفسه أو غسل جسده أو تغذيته أو معالجته إذا مرض. ما الذي يمكن أن يزدهر في جو كهذا؟ الجريمة المنظمة والمخدرات، مافيات الاتجار بالبشر والتجار المحتكرون للسلع، والتفكك الاجتماعي والعائلي، وربما يوماً ما، إذا ما استمر هذا الوضع المأساوي المزري، في كافة المدن السورية (كي لا يؤول المصنفون والصيادون في الماء العكر كلامي) ويحسبونني على طرف دون طرف، سنتذكر أن خريطة سايكس بيكو وضعتْ مرة حدوداً لدولة يبدأ اسمها بحرف السين… آه…. نسيت اسمها إنه على رأس لساني… سأحاول أن أتذكره! امهلوني قليلاً.