إرنست همنغواي
من هو همنغواي؟
قدم إرنست همنغواي لقرائه مفتاحاً لفهم فلسفته في الحياة والكتابة حين قال: إن هيبة حركة جبل جليد ناشئة عن كون ثُمنه فوق الماء فحسب.
يصارع أبطال همنغواي لإبقاء جزء كبير من شخصيتهم مخبأَ تحت سطح حياتهم الواعية، ولا يكشفون للعالم الخارجي إلا مظهراً بارداً. وغالباً ما ينجحون في إقناع حتى أنفسهم بأن الصورة القوية، الصامتة، والمسيطر عليها، التي يقدمونها، هي حقيقة، لكن القراء النابهين يستطيعون أن يميزوا تعقيدها الضمني وإنسانيتها الكاملة حين يقرؤون ما بين سطور نثر همنغواي المحكم. ولا يظهر في الأسلوب النثري إلا ثمن المعنى. تستطيع كلمة أو عبارة واحدة أن توحي بأعماق مخبأة وينبغي على القراء أن يسبروا تجاربهم الخاصة ليتعرفوا على كل ما هو تحت السطح وإلا سيجازفون بفقدان غنى أعمال همنغواي التي جعلته أحد أعظم كتاب القرن العشرين. يعتمد همنغواي على تجربته الغنية من أجل الحبكات والخلفيات والشخصيات. ورغم أنه اشتهر بأنه يكتب يشكل أفضل عن الرجال في عالم الحرب والبراري الذي هو عالمهم، عاش همنغواي كثيراً في عالم نسوي. هذا الذي ولد في ضاحية أوك بارك الغنية في شيكاغو كان محاطاً بالنساء كونه ترعرع في أسرة تتألف من أربع شقيقات. كان يبلغ السادسة عشرة حين ولد شقيقه الوحيد لايشستر. ومثل نيك آدامز الذي يظهر في أكثر من عشرين قصة ذهب همنغواي إلى الصيد بنوعيه البري والبحري مع والده الفيزيائي في ميشيغان العليا. بدأ همنغواي مهنته في الكتابة كمراسل لصحيفة كانساس سيتي ستار. بعد أقل من سنة نجح في دخول الحرب العالمية كسائق في سلك الإسعاف.
أصبحت الإصابة الخطيرة لساقه والتي عانى منها أثناء إقامته في إيطاليا وشفاؤه البطيء وعلاقته الغرامية مع ممرضة إيطالية أساساً وإطاراً ليس لقصص نيك آدامز فحسب، وإنما أيضاً لقصة فريدريك هنري في روايته وداعاً للسلاح. أصبحت تجارب همنغواي الحربية استعارة ربطت عمله بالتجربة العالمية لجيله: شاب مجروح، خائب الأمل ينشد القوى الشافية للطب والدين والحب. لكن متطوعي همنغواي في الحروب لا يحظون بعلاج، بل بمسكنات مؤقتة فحسب.
عاد همنغواي من الحرب العالمية الأولى إلى الغرب الأوسط الأميركي مقيداً بالكوابح وقيود الأسرة المخدرة وحياة البلدة الصغيرة. وبرهنت الصحافة والسفر على نزعة حب أجواء الحرب لديه. في سنة 1921 تزوج هادلي ريتشاردسون أولى زوجاته الأربع وعاد إلى أوروبا كمراسل لتورنتو ستار. ومسلحاً برسالة تعريف من شروود أندرسون انضم همنغواي إلى مجموعة الكتّاب الأميركيين المنفيين الذين تحلقوا حول جرترود شتاين في باريس. فيما بعد، عزا كثيراً من التكرار في عملها إلى نفورها من المراجعة والحذف، وهما خطوتان اعتبرهما همنغواي حيويتين في الكتابة. ابتعد همنغواي عن التنافس الأدبي واستفاد من دروس كتّاب كبار مثل شتاين وعزرا باوند وف. سكوت فتزجيرالد. عقّد النجاح والشهرة حياة همنغواي مثلما فعلت ولادة ابنه جون في سنة 1923. تركت الأبوة المفاجئة ومسؤولياتها تأثيراً مزعجاً على همنغواي. كانت مغامرته الأوروبية الأخيرة في شهر تموز ذاك أولى زياراته الثلاث إلى إسبانيا من أجل صراع الثيران في بامبلونا. تحدث عن هذه التجربة في روايته التي تلقت مديحاً عالياً وتشرق الشمس أيضاً، التي تصور مجتمع الجيل الضائع الذي بلا جذور في رحلة حج علمانية في عالم شبيه بذاك الذي صوره إليوت في الأرض الخراب. كانت روايته الشيخ والبحر التي منحته جائزة بوليتزر في سنة 1952 الدافع لمنحه جائزة نوبل في سنة 1954. ولقد وضع همنغواي الإنسان الحديث في قارب مفتوح وفي صراع من أجل الموت أو الحياة في البحر: رغم أن شيخه سانتياغو يصطاد السمكة الكبيرة إلا أنه يخسر كل شيء عدا ذكرى نجاحه. وبعد أن استسلم للكآبة والشرب المتواصل انتحر همنغواي في مربى الماشية في كيتشم في 1961. إن أعماله التي نشرت بعد وفاته تغني السيرة الذاتية للرجل، لكن سمعته كروائي ذي أسلوب عظيم لا تزال راسخة.
القصة
كانت التلال الممتدة عبر وادي إيبرو طويلة وبيضاء ولم يكن هناك ظل أو أشجار في هذا الجانب. توضعت المحطة بين خطين من السكك الحديدية تحت الشمس. وفي مكان قريب من أحد طرفي المحطة خيم ظل البناء الحار وظهرت ستارة مصنوعة من خيوط وكرات خيزران معلقة فوق الباب المفتوح المؤدي إلى البار لمنع دخول الذباب. جلس الأميركي والفتاة التي برفقته إلى طاولة في الظل خارج البناء. كان الجو حاراً جداً والقطار القادم من برشلونة سيصل بعد أربعين دقيقة، ويتوقف في نقطة الاتصال هذه لدقيقتين ثم يتوجه إلى مدريد. سألت الفتاة بعد أن نزعت قبعتها ووضعتها على الطاولة: ماذا نشرب؟
أجاب الرجل: الجو حار جداً.
- لنشرب البيرة
وجه الرجل حديثه عبر الستارة: نريد كأسين من البيرة.
سألته امرأة من المدخل: أتريدهما كبيرتين؟
- نعم.
أحضرت المرأة كأسين من البيرة ومنديلين لباديين. وضعت كأسي البيرة والمنديلين على الطاولة ونظرت إلى الرجل والفتاة. كانت الفتاة تنظر إلى خط التلال التي كانت بيضاء تحت الشمس في بلاد بنية وجافة.
قالت: إنها تبدو كفيلة بيضاء.
قال الرجل وهو يشرب بيرته: لم أر فيلاً أبداً.
-لا، لن ترى.
قال الرجل: يمكن أن أرى. إن مجرد قولك إنني لن أرى لا يبرهن على أي شيء.
نظرت الفتاة إلى الستارة المصنوعة من الكرات ثم قالت: لقد كتبوا عليها شيئاً ما. ما هو؟ -هذا أنيس ديل تورو.
-هل نستطيع أن نجربه؟
نادى الرجل عبر الستارة فخرجت المرأة من البار.
-أربعة ريالات.
-نريد كأسين أنيس ديل تورو.
-مع الماء؟
-هل تريدينه مع الماء؟
أجابت الفتاة: لست أدري. أهو جيد مع الماء؟
-لا بأس به.
سألت المرأة: مع ماء؟
-نعم، مع الماء.
قالت الفتاة واضعة الكأس على الطاولة: إن طعمه مثل طعم عرق السوس.
- ينطبق الأمر على كل شيء.
أجابت الفتاة: نعم، ما من شيء إلا وفيه طعم عرق السوس وخاصة تلك الأشياء التي تنتظرها طويلاً، مثل الأفسنتين.
-أوه، توقفي عن ذلك.
قالت الفتاة: أنت بدأت ذلك. كنت أتسلى. لقد أمضيتُ وقتاً رائعاً.
- حسناً، لنحاول ونمض وقتاً رائعاً.
- حسناً. كنت أحاول وقلت إن الجبال بدت كفيلة بيضاء. ألم يكن هذا رائعاً؟
- كان ذلك رائعاً.
- رغبت أن أجرب هذا المشروب الجديد. هذا كل ما نفعله، أليس كذلك؟ ننظر إلى الأشياء ونجرب مشروبات جديدة.
- أظن ذلك.
نظرت الفتاة عبر التلال.
قالت: إنها تلال جميلة. إنها في الحقيقة لا تبدو كفيلة بيضاء. عنيت لونها من خلال الأشجار.
- أنشرب كأساً أخرى؟
-حسناً.
حركت الريح الدافئة ستارة الكرات نحو الطاولة.
قال الرجل: البيرة جيدة وباردة.
أجابت الفتاة: إنها جيدة.
- إنها في الحقيقة عملية بسيطة يا جيك. إنها ليست عملية على الإطلاق.
نظرت الفتاة إلى الأرض التي استندت إليها أرجل الطاولة.
-أعرف أن هذا لن يهمك يا جيك، إن هذا ليس بلا معنى.
إنه فقط لجعل الهواء يدخل.
لم تقل الفتاة أي شيء.
- سأذهب معك وأبقى إلى جانبك طوال الوقت. سيدخلون الهواء فقط وبعد ذلك سيكون كل شيء طبيعياً.
- ثم ماذا سنفعل بعد ذلك؟
-سنكون بخير بعد ذلك، تماماً كما كنا من قبل.
وما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟
- هذا هو الأمر الوحيد الذي يزعجنا والذي جردنا من سعادتنا.
نظرت الفتاة إلى ستارة الكرات، مدت يدها وأمسكت خيطين من الكرات.
-وتظن أننا سنكون بخير وسعيدين بعد ذلك؟
-أعرف أننا سنكون كذلك. لا داعي للخوف. أعرف كثيراً من البشر الذين قاموا بذلك.
أجابت الفتاة: وأنا كذلك. وفيما بعد كانوا جميعاً سعداء.
قال الرجل: حسناً، لست مجبرة إن كنت لا تريدين ذلك. لا أريدك أن تقومي بذلك إذا كنت لا ترغبين بالأمر. لكنني أعرف أن المسألة بسيطة جداً.
- وهل تريد ذلك حقيقة؟
اعتقد أن هذا هو الشيء الأفضل لكنني لا أريدك أن تفعلي ذلك إذا كان هذا منافياً لرغبتك.
- وإذا أجريتها ستكون سعيداً وستعود الأمور إلى سابق عهدها وستحبني؟
- أنا أحبك الآن. تعرفين أنني أحبك.
- أعرف. لكن إذا قمت بذلك هل سيكون عندئذ من الظريف أن أقول إن الأشياء كفِيلة بيضاء، وهل ستحب ذلك؟
- سأحب ذلك. أحب ذلك الآن لكنني لا أستطيع أن أفكر به. تعلمين كيف أصبح حين أقلق.
- ألن تنزعج أبداً إذا أجريتها؟
-لن أقلق لأن ذلك بسيط جداً.
-إذاً سأقوم بذلك لأنني لا أحرص على نفسي.
-ماذا تعنين؟
-لا تهمني نفسي.
حسناً، أنا أحرص عليك.
-آه! نعم. لكنني لا أحرص على نفسي وسأجريها وعندئذ سوف يكون كل شيء على ما يرام.
-لا أريدك أن تجريها إذا كان هذا هو شعورك.
وقفت الفتاة ومشت إلى نهاية المحطة. امتدت في الجهة الأخرى حقول الحنطة والأشجار على طول ضفتي نهر الإيبرو.
بعيداً، وراء النهر، انتصبت الجبال. تحرك ظل سحابة فوق حقل الحنطة فشاهدت النهر من خلال الأشجار.
- ونستطيع أن نحصل على كل هذا، ونستطيع أن نحصل على كل شيء وفي كل يوم نجعله مستحيلاً.
- ماذا قلت؟
- قلت إننا نستطيع الحصول على كل شيء.
- لا، لا نستطيع أن نملك كل شيء.
- نستطيع أن نملك العالم كله.
- لا، لا نستطيع.
-نستطيع أن نذهب إلى جميع الأمكنة.
- كلا، لا نستطيع. لم تعد لنا بعد الآن.
- إنها لنا.
- كلا، ليست لنا، وحالما يأخذوه بعيداً، لا تسترجعينه أبداً.
- لكنهم لم يأخذوه.
- سوف ننتظر ونرى.
- تعالي إلى الظل. يجب ألا ينتابك شعور كهذا.
-لا ينتابني شعور كهذا. أنا أعرف الأمور فحسب.
-لا أريدك أن تفعلي أي شيء لا ترغبين به.
-وهذا أيضاً ليس جيداً بالنسبة لي. أعرف. هل بوسعنا أن نطلب كأس بيرة أخرى؟
-حسناً، ولكن يجب أن تدركي....
-أدرك. هل بوسعنا التوقف عن الكلام؟
جلسا إلى الطاولة ونظرت الفتاة عبر التلال في الجانب الجاف من الوادي ونظر الرجل إليها وإلى الطاولة.
- يجب أن تدركي أنني لا أريدك أن تجريها إن كنت لا ترغبين بذلك. سوف أتحمل ذلك كله إذا كان يعني أي شيء لك؟
- ألا يعني هذا أي شيء لك؟ نستطيع أن نتفق.
- بالطبع تهمني المسألة. لكنني لا أريد أي شخص سواك.
لا أريد أي شخص آخر، وأعرف أن المسألة في غاية البساطة.
- نعم، تعرف أنها في غاية البساطة.
- ما من شيء يمنعك من قول ذلك لكنني أعرف هذا.
- هل ستفعل شيئاً من أجلي الآن؟
- سأفعل أي شيء من أجلك.
- هل بوسعك من فضلك من فضلك من فضلك من فضلك من فضلك من فضلك من فضلك أن تتوقف عن الكلام؟
لم يقل أي شيء بيد أنه نظر إلى الحقائب المسندة إلى حائط المحطة. كان عليها لصقات من جميع الفنادق التي أمضوا الليل فيها.
- لكن لا أريدك أن تتوقفي عن ذلك. لا أهتم بالمسألة أبداً.
قالت الفتاة: سأصرخ.
خرجت المرأة من خلال الستارة حاملة كأسين من البيرة ووضعتهما على منديلين لباديين مبللين وقالت: سيأتي القطار بعد خمس دقائق.
- سيأتي القطار بعد خمس دقائق.
- سألت الفتاة ماذا قلت؟
- قالت إن القطار سيأتي بعد خمس دقائق.
ابتسمت الفتاة ابتسامة متألقة في وجه المرأة لتشكرها.
قال الرجل: من الأفضل أن أنقل الحقائب إلى الجانب الآخر من المحطة.
ابتسمت له.
حسناً، عد بعد ذلك لننهي البيرة.
التقط الحقيبتين الثقيلتين وحملهما ودار حول المحطة إلى المعابر الأخرى. نظر إلى السكك فلم ير القطار. مر في طريق عودته من البار حيث كان البشر الذين ينتظرون القطار يشربون. شرب كأس أنيس ديل تورو في البار ونظر إلى البشر. كانوا ينتظرون القطار. اتجه إلى الخارج عبر ستائر الكرات. كانت تجلس إلى الطاولة وابتسمت له.
سألها هل تشعرين بتحسن؟
قالت: أشعر أنني على ما يرام. لا أشكو من أي شيء.
أنا بخير.
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: Ernest Hemingway, Selected Stories].