لعلّ تنويهاً أضافته الأكاديميّة الملكيّة السويديّة إلى بيانها وهي بصدد منح الروائيّة والصحفيّة البيلاروسية سيفتلانا أليكسيفيتش جائزة نوبل للآداب 2015، لعلّه يبدو بمثابة تأنيب لعالم السرد الروائيّ وفنونه حيث كتبت اللجنة المانحة مشيرةً إلى صاحبة الجائزة "يقع عملها في نقطة اتصال بين الوثائقيّ والروائيّ، وهو النوع الذي لم يُقدّر حتّى الآن"ربّما أريد لهذا التنويه خلخلة المسار الخطّي الذي ابتدأ في منتصف القرن العشرين لأساليب الرواية الحديثة ورواية تيار الوعي وما بعد الواقعية في استخدامها لطرائق الوهم الذهني من أجل خلخلة البنيان السردي، أو عبر مزج الشخصيات الروائية، أو عبر تمزيق الشخصية وتشظيها إلى جانب تصدّع السرد كأزمنة وضمائر وشخصيات أو إفراغ الرواية من الحركة الكلاسيكية من حيث وضوح العقدة وتطور الأحداث وتوازنها، يبدو أنّ هذا المسار قد وضع فنّ الرواية في حالة إنتاج روتينيّة متعالية على تطلّعات القارئ إلى منجزٍ روائيّ يلمس شغاف مأزقه في مواجهة جحيم الاستهلاكيّة بطريقةٍ أكثر صدقيّة ويعزّز جدوى هذا الفنّ، تحديداً مأزق إشباع مداركه بالافتراضي الملفّق على الواقع وبناء وعي فردانيّ حيث الجميع "يشرح كلّ شي قبل فهم أيّ شيء"[1]، ولعلّ هذا المُنجز المنشود تتمثل خصوصيّته بصدقيّة عالية المنسوب في تناولها للتفصيليّ الوقائعيّ والواقعي تخدمُ فنيّات السرد الروائيّة فتمنح القارئ فرصة التشبّع بالوجوديّ الواقعيّ المعاصر عبر استثمار ذواكر التأريخ الحديث، هذه الحاجة للصدقيّة حاول أن يفسّر رولان بارت حضورَها في العمل الروائي بقوله "صدقيّة يزوّد من خلالها مستهلكي هذا الفن بطمأنينة التخيّل القابل للتصديق"[2]، فبالرغم من أنّ جنس الرواية دائماً يحيل إلى فنّ التخيّيل، إلّا أنّه ثمّة دائماً صدقيّة للوقائع لا بدّ من توفيرها للمتلقّي، يمتحها الروائيّ من تأريخ واقعي لزمنيّة الحراك الحدَثيّ في الرواية وإلّا فإنّ الكون الحكائي للرواية سيبدو بمثابة "متاهات قلاع الخيال"[3]، ربّما هذا السياق يتناول جانباً من دواعي التنويه الذي حصلت عليه سيفيتلانا أليكسيفيتش ولكنّه أيضاً يحرضنا نحو المختلف نمطيّاً والذي يتجلّى عبرَ مُكنة روائيّة يمكن أن تجتاز بالمؤلّف الروائي من طور اشتغال سرديّته عند نقطة اتصال الوثائقيّ بالروائي إلى طور تجاهل هذه النقطة وتجاوزها نحو صهر الوثائقيّ في الروائيّ عبر نظام سرديّ مؤهّل بحيث لا تتورّط الكتابة بالأسلوب الوثائقي مع السرد الروائيّ وليست بنفس الوقت كتابة تحت عنوان الرواية التاريخيّة، نحن بصدد طور فائق الحساسيّة ستشتغله الكتابة وتشغله بحيث يتم تجنيسها كرواية وهي تقدّم لياقة تخيّليّة حدَثيّة وبنائيّة عبر نظام سرديّ مؤهّل، وبذات الوقت تستحوذ على أكبر منسوب من الصدقيّة التفصيليّة لوقائعيّة الأحداث وواقعيّة الشخصيّات، هاتان ضرورتان توفّران منتجاً روائيّاً منسجماً مع قصديّة المؤلف حين تكون هذه القصديّة منوطة بهدم المُعلن الرائج مستفيداً من ملحمة وجوديّة محددة الزمان والمكان.
ومن بوابة هذه القصديّةٌ يمكننا أن ندخل مع الكاتب والصحفي السوريّ يعرب العيسى[*] رحاب منتجه الروائيّ البكر "المئذنة البيضاء"، فنجدهُ دوّن على صفحتها الأولى إهداءاً يقول: "لا يحتاج الموت سبباً، يحدث حين تفنى جميع الأسباب، الحياة هي من تحتاج ذلك" حيث تنزاح دلالات هذه العتبة النصّيّة باتجاه الهدم على سبيل التشييد، فعلى حد تعبير رولان بارت "الرواية موت، إنها تجعل من الحياة قدراً، ومن الذكرى فعلاً مفيداً، ومن الديمومة زمناً موجّهاً ذا دلالة"[4]، ثمّ نجد الكاتب في المقدّمة الافتتاحيّة يدوّن سطراً أخيراً يقول فيه "أنا مجبرٌ على تسمية هذا الشيْء رواية، فلولاها لكان تحقيقاً صحفيّاً وهو ما أردت أن أفعله ولم أفلح"، وعليه فإنّ صنعةً ومكنة روائيّة أهّلتِ السرد ليدخل تحت عباءة جنس الرواية الأدبية ناجياً من سمة التحقيق الصحفي، سنحاول في هذه الفسحة من البياض عرض أحد الجوانب الأكثر فنيّةً فيه.
فمن خلال نظرة موضوعيّة إلى الروايّة التي تجاوز عدد صفحاتها 400 صفحة، فإنها تبدو لنا كمنجمٍ حكائيّ تتضافر مسارات القصّ فيه حول ثالوث الذهنيّة التقليديّ روائيّاً "الدين، الجنس، السياسة" ثم تلك الثيمات المتنوّعة والتي غالباً ما تفرزها الحروب عبر ثنائيّة الخير والشرّ والمبثوثة على طول خط السرد الزمني المتجانس لتستقرّ بمحصلتها حول "المئذنة البيضاء"، ثمّ تلك المرويّات الشعبيّة التسويقيّة التي تعكس طبقات الذهنيّة العموميّة بمختلف أبعادها لأفراد المجتمع الشرق أوسطي وثمّة نوافذ استشرافيّة تطلّ بتفصيليّة دقيقة على أساليب مراكز الثقل المؤسساتي في عولمة الرأسماليّة المتوحّشة، وجميع تلك المسارات بواقعيّتها ووقائعيّتها تلفّها زمنيّة زهاء خمسين سنة مضت، في نطاقٍ جغرافي عربيّ متنوّع له اعتبارات تصارعيّة موثّقة.
يختار يعرب العيسى أن يتّخذ الساردُ، دليلنا إلى هذا المنجم الحكائي، هيئةً سرديّة محدّدة مهيمنة على نظام السرد جاء صوتها السرديّ على شكل السارد (خارج القصّة) ومن زاوية النظر سارداً شاهداً، وهذا ما يتيح للقصّ الحكائي ليبدو منزّهاً عن ذاتيّة و"أنا" الكاتب حين يأتي السارد شاهداً (داخل القصّة) فحينها سيعتريها بالطبيعة تحيّزٌ ولا موضوعيّة في القصّ، رغم أنّ هذه النزاهة صوريّة إلّا أنها تضفي على الكون الحكائيّ أجواء من الموضوعيّة تولّد لدى القارئ تفاعلاً عقليّاً ينتج مواقف متلوّنة ما بين التعاطف والضدّيّة والتهكّم وإيجاد المبررات البراغماتيّة.. عندما يتعامل مع "هو" ضمير الغائب الفاعل، "هو" الفاعل الذي ابتكره مخيال المؤلّف "مايك الشرقي" ليمثل الشخصيّة المحوريّة التي يبتدئ عنها ومعها الحكي بفعليّة الماضي التام والناقص لتكون وحدها القادرة على أن تنهيه، مايك الشرقي "غريب الحصو" في جميع مسارات المنجم الحكائي شخصيّة محوريّة تتوارى من ورائها ذات السارد الشاهد كراوٍ كلّي عليم، تارةً عبر السرد الوصفي لها ولمحيطها المنفعلة به يهدف إلى تقديم ملامح الشخصية ونفسيّتها أو تعيين احتياجاتها الحياتيّة اليوميّة، الإقامة، ظروف العمل، أو الأماكن المختلفة بهدف الإسهام في تشكيل انطباع محدد لدى المتلقي وبالتالي يؤدّي الوصف دور العرض الذي تكون غايته تشخيصيّة، ما يتيح إمكانات تشغيل الديناميكيّة الحكائيّة، ويزيد من بلاغة التعبير عن الموقف السرديّ، وتارةً أخرى تتوارى عبر السرد الحدَثيّ لأفعال هذه الشخصيّة الأمثولة وصوتها الحكائيّ، ثم لا تلبث هذه الهيئة السرديّة حتّى تنفتح على أصوات حكائيّة متعددة حيث تتداخل أكثر من ذات مسرودة ثانويّاً في الكون الحكائي الذي تتعاصر فيه مستويات لعرض وسرد الأحداث والأفعال وفق جيرار جينت[5]، وهكذا عبر الضمائر (هو وهي ونحنُ) يتبدّى هذا التداخل بكثافة تتدرج تصاعدياً لتبلغ ذروتها في الفصل الثاني من الرواية والمعنون "الدجّال"، ينتقي يعرب العيسى هذه الذوات من مستويات تعريفيّة متعدّدة الحضور: إيروتيكي، براغماتيّ وصوليّ، ثقافيّ مؤدلج، سياسيّ، دينيّ، عرفيّ شفاهيّ، ماضويّ، طقوسيّ، عسكريّ مخابراتيّ، علميّ أكاديميّ.. فيتعامل معها السارد الشاهد من باب الخطاب المنقول، بحيث تحضر أقوال الذوات المسرودة بطريقة المباشرة، فيبدو السارد بمثابة ناقل للأقوال عبر حوارات تفاعليّة مع الشخصيّة المحوريّة مايك الشرقيّ ثمّ لا يلبث حتّى يفتح لها باباً لتبدو ذوات مسرودة وصفيّاً، وهذا اختبار مهمّ للغة يعرب العيسى من حيث خصائصها الأسلوبية والدلالية حيث من خلالها يبرع بمحاكاة هذه الذوات وهو يمارس تقمّصاً واعياً لما ينبغي أن تكون عليه هذه الذوات المسرودة، منضبطة بمعقوليّة حضورها ومنطقها وخصوصيّتها ولغتها التواصليّة كما هي عليه في الواقع المعيش لحقبة زمنيّة ليست بعيدة تاريخيّاً عن متناول القارئ قد يكون ممن عاينها أو ما يزال يعيش تحت وطأة نتائجها كذاكرة جهنّميّة ابتداءً من الحرب الأهليّة اللبنانيّة مطلع الثمانينيات مروراً باجتياح الكويت ثم سقوط بغداد واحتلال العراق وما رافقه من تحولات بنيويّة في المشهد السياسي العربي وصولاً إلى مآلات الحرب السوريّة إبان ثورات الربيع العربيّ، ولعله تبرز هنا خصوصيّة مؤلّف الرواية القادم من عالم الصحافة الراصدة والاستقصائيّة الناقدة حيث أنّ الحرفيّة التي حازها يعرب العيسى عبر زهاء ثلاثين عاماً يفرّغها السارد الشاهد أدبيّاً على الأصوات الحكائيّة وذواتها المسرودة في الرواية وهذا ما يضعنا أمام عتبة جوهريّة تصنع للكون الحكائي في رواية المئذنة البيضاء فنيّةً توازي أجواء الواقعيّة السحريّة ولكنها هذه المرّة تأتي من باب روائيّة التفاصيل بصدقيّتها الواقعيّة.
روائية التفاصيل:
ربّما لن نخوض في الجانب الاختلافي حول ما أراده رولان بارت باصطلاح "الروائيّة"، ولكنّنا نتناول منه الجانب الذي يبرز حضوره في أجواء "المئذنة البيضاء”، من حيث أن الروائيّة هي صيغة للتدوين وللاستثمار والاهتمام بالواقع اليوميّ، بالأشخاص، بكل ما يحدث في الحياة، إنها "كتابة الحياة" هي تدوين الفضاء التداوليّ للرغبات الخفيّة، والرغبات المتنقّلة"، بل أيضاً ممارسة أدبية مشتهاة على حد تعبير بارت، وهنا تحديداً نقدّر ليعرب العيسى بأن جعل سارده الشاهد تفصيليّاً إلى درجة الهامشيّة في التفصيل، تفصيليّاً وهو يسبح في الفضاء التداولي للرغبات الخفية، والرغبات المتنقلة في مواضع حياتيّة تبلغ بها الحساسيّة لدقّة انتقاء التفاصيل درجةً عالية من حرفيّة العين الراصدة والوثائق المطابقة للحيثيّات كما يعرفها خبراء هذه المواضع واقعيّاً، فمن منطقة باب شرقي 1984 في دمشق بمحاذاة المئذنة البيضاء والتي هي المئذنة الوحيدة حيث تقف منفردةً بلا مسجد، تنطلق الحكاية الأولى التي تمثّل نقطة التمفصل الزمني الأساسية التي تشكّل مرجعيّة لمآلات السرد، يبدأ بعدها تدوين الفضاءات التداوليّة من مواخير وكازينوهات بيروت المثخنة بالحرب الأهليّة وبما يواكبها أثناء السرد من استرجاعات داخليّة حول آمنة الحصو الكنف الذي نشأت فيه طفولة غريب المشرّدة، فضّة الجاروش والدته الفاركُ متعدّدة الشرور، ثم تتعاقب الفضاءات بتنوّع مدروس ومتناغم مع وحدة القصّ الكلّية متوائمة مع تنوع الأمكنة وجغرافيا الأحداث بين دبيّ، الصين، قبرص، اليخوت الفارهة في عباب المتوسّط، إلى أن يختمها بالعودة إلى موضع الحكاية الأولى 2020 حيث يفرد له تنوّعه الخاص وتفصيليّة روائيّة مغموسة بإكسير الحياة الدمشقيّة، عبر هذا التعاقب يُشيئ السارد وقائع حياتيّة متخيّلة للشخصيّة المحورية (غريب الحصو / مايك الشرقي) ترافقها روائيّة تفصيليّة صانعة للأجواء التي تبدو للوهلة الأولى سحريّة "افتراضيّة" بمأساويّتها بذرائعيّتها بحميميّتها، ولكنّها ليست كذلك فهي موضوعيّة انطلاقاً من حقيقة مُقابلاتها في الواقع المعيش وبهذه التفصيليّة، وكأنّ السارد يقوم وحسب بكشف الغطاء عنها، ولكن هل يتفرّد يعرب العيسى باعتبار هذا الواقع أقرب إلى الخيال، الحقيقة إن أحدنا ممن عاش ويعيش واقع هذه الجغرافيا الخطرة من العالم صرّح مراراً بأنّ ما حدث ويحدث لها أقرب إلى الحلم والسحر "شيء مثل الكذب" الذي لا يمكن تصديقه!
هدمُ المُعلَن:
على حد تعبير هايدن وايت فإنّ وسائل الإقناع بالخبر المتخيّل في خضمّ مرحلة تاريخيّة "تتمثل بالوصف المفصّل للأشياء وللأمكنة وللوجوه وللإيماءات، مع ذكر التفاصيل الصغيرة جدا، بوجود شاهد، وما تفعله هذه الوسائل هو أنها تعزز فعل المحاكاة ليمازج الواقع بالخيال"[6]، وفيما سلف أوضحنا أن القارئ نفسه قد يمثّل شاهد عيان إلى جانب السارد الشاهد، أضف إلى أنّ يعرب العيسى يقدّم الكون الحكائي بتناغم مدروس يوقّت فيه زمنيّة السرد المنوط بالوثائقي التأريخي توقيتاً قدريّاً مع الزمنيّة المنوطة بالمتخيّل الحكائي وأحياناً براغماتيّاً بدون فصل لتعزيز الاستدلال المقنع عند القارئ، ولكن ما هي ضرورة الإقناع الذي تصبو إليه قصديّة المؤلّف بتوظيفه لهذه الوسائل؟
تبدو الذوات المسرودة (هو، هي، نحنُ) كمنصّات بما فيها الشخصيّة المحوريّة مايك الشرقي في مرحلة متقدّمة من الأحداث، تسرّب قصديّةُ المؤلّف عبرها مجتمعةً وبطريقة مدروسة زخماً من الرأي المُعلَن خارج الرسمي المروَّج، والتي كلّ منها منفردة تمثّل شريحة واسعة من شرائح الرأي العام وبعضها نستشفّ من تموضعها الوظيفي في القصّ معطياتٍ عن هذا الرأي المُعلن بشكل غير مباشر وذلك في الحقبة الزمنيّة التي استهدفتها الروايةً سرديّاً، الشيخ قسّام مهندس المجون والمتعيّة الغرائزيّة في بيروت حانةُ العرب، عائدة الراهبة المنذورة للربّ، طلعت الفلسطيني السوريّ سمسار الإنشاءات العقارية في دبيّ، الاسكوتلندي ساكس مدير شركة تصنيع وصيانة السفن، بيان ملحم الذي سقط من حسابات منظمة التحرير الفلسطينيّة ليتحول إلى النسخة الحداثيّة للمتعيّة السياحيّة في قبرص، سلمى المختصّة في التراث الفلسطيني وأزيائه، صبر نموم الفنان التشكيلي ضحيّة مافيا المؤسسات، الشيخ البقيعي الداعية ومدير مركز حراء للدراسات الإسلاميّة، عبلة نار الدين الأكاديمية في الفلسفة والعلوم الانسانيّة، فايز عاج الروائي الدمشقيّ البحّاثة مع رواياته الأربع، كما تمثلَ ضمير "نحن" في الصفحات المعنونة "محضر اجتماع شبه تنفيذي"، هذه المنصّات يتم طحن معلناتها على حجر رحى محورها ينحته السارد الشاهد ببراعة حكائيّة عقدتها واضحة ومتوازنة الأحداث وذلك عبر تشييء وقائع حياتيّة متخيّلة للشخصيّة المحورية (غريب الحصو / مايك الشرقي) وإلى جانبها (هو، هي، نحن) فيمسك بزمام المبادرة السرديّة ويوصلها إلى قصديّة المؤلّف في هدم المُعلن ذي الصدقيّة المجتمعيّة عبر صهره في بوتقة المتخيّل الحكائي المنضبط بنظام سرديّ تتعدّد فيه الأصوات المُتخيّلة بنسبيّة معقولة والذي تعزّز فنيّتهُ روائيّةُ التفاصيل، إلّا أن هذا الهدم يحرص يعرب العيسى كما يبدو على أن لا يكون هدماً من أجل الهدم، وإنّما هو هدمٌ على سبيل التشييد حيث يحضر ضمير المخاطب "أنتَ" الذي يعدُّ من الهيئات السردية التي افتتح عهدها الجديد الروائي الفرنسي "ميشيل بوتور" ولكنّها هيئة تمثُل في مواضع مقنّنة من "المئذنة البيضاء" تارةً كافتتاحيّة لفصل من الفصول وأخرى ضمن سياقاته، هذا الحضور يتمّ على طريقة يعرب العيسى بفتح زاوية خاصّة في الرواية تجمع أنا السارد مع القارئ فيما يبدو أنّه جلسة تقيميّة ومواجهة تفتح نقاشاً حول ما عرضه كشاهد أو ما هو مقدِمٌ على عرضه وقد تبدو هذه الجلسة انقطاعاً في الحكي، إلّا أنّها في السرديّات الطويلة تعتبر محطّة لتجنّب انقطاع وعي القارئ وتحفيزه على مواصلة القصّ إلى النهاية فهو الآن في هذه المحطّة مع أنا السارد الشاهد وهي محطّة أجواؤها منعكسة عن المتن الحكائي وتنشّط وعيَ القارئ بالقصّ، ومما لا شكّ فيه أنّ السارد الشاهد يلبس ثوب النزاهة كشاهدٍ عادلٍ في الفكرة الكلية للقصّ. يرى ويسمع ويدوّن محاولاً أن ينفي ذاتيّة الكاتب من متنها نفياً كلياً متحرّياً الموضوعيّة، ولكنّه يبقى دائماً نفياً زائفاً أيضاً، وعليه وفي هذه المحطّة مع أنت المخاطب يتكشّف هذا النفي الزائف للكاتب وكأنّه يترك الفرصة للقارئ ليشيّد قناعات جديدة على أنقاض كل ّهذا الهدم عبر استفزازه في هذه المواجهات والتي كان أطولها مع افتتاحية الفصل الأول من "الدجّال"، وظهرت في باقي المواضع على شكل ومضات تخاطبيّة ونذكر منها "البحر لا يتقاسم الكوكب مع اليابسة، ولا يتناوب معها بل يخلقها بنفسه، يفعل كما يفعل القادة العظماء حين يخلقون مستقبل أوطانهم : يصنعونه بالانسحاب".
ختاماً:
فيما سلف اشتغالٌ يضع رواية "المئذنة البيضاء" عند عتبة نقديّة صرفة لينضمّ إلى مجهود نقديّ عربيّ حديث نسبياً حول تحديد أجناسيّة للأعمال التي تتعامل مع التاريخ كمادة روائية يقصدها المؤلّف ليجعل الحوادث والسير والشخصيات والوقائع تشكيلات نصيّة سرديّة يستحضر فيها الواقعيّ، كما يغلغل فيها التخييليّ مستجمعاً له أعلى منسوب من الصدقيّة ليلتقي الماضي القريب بالمستقبل الوشيك على أرض واقع نصّي، موفّراً مادة أدبية ليس البغية منها هندسة الماضي، أو استذكاره وإنما الهدف أبعد من ذلك بكثير، وأيضاً أراد هذا الاشتغال أن يتجنّب قدر الإمكان عرض مفردات القصّ ومجريات الحكي بأمثلة من صلب متنها، وفي هذا فرصة للقارئ ليقدّر متعة القراءة ومخرجاتها بنفسهِ، ولكن في هذه السطور الأخيرة هَب أنّ قارئاً عابراً خاض تجربته القرائيّة معها، أخال أنّ إحدى ممكنات التعبير عن مجرياتها هي أنّ قيامةً قامت على مستوى شرائح واسعة ومتعدّدة من معلناتنا القيميّة كانت بحاجة لمن يتمّم أشراطها بما فيها مسيحاً دجّالاً يخصّها ثم ذهب ليلتقم صورَ السرد وينفخ فيه، ثمّ تركها بلا سراطٍ ولا ميزان لعلّ القارئ ينصب لها سراطها وميزانها، مشيراً بإصبعه السرديّ إلى المئذنة البيضاء[7] والتي عندها يبتدئ أو ينتهي عربيّاً أغلبُ الكلام التأريخيّ عن قيامة سماويّة مرتقبة.
الهوامش:
[*]: يعرب العيسى، كاتب وصحافي من سوريا، ولد في بادية حماة 1969. عمل في الصحافة منذ عام 1988، ترأس تحرير العديد من الصحف والمجلات السورية. صدرت روايته البكر "المئذنة البيضاء" عن دار المتوسط 2021.
[1]: تاريخ الرواية الحديثة R.M. Alberes
[2]: إيمانويل بُيري: بارت روائيّاً / ت: نقوس المهدي.
[3]: رولان بارت: درجة صفر الكتابة.
[4]: بارت روائيّاً.
[5]: جبرار جينيت: خطاب الحكاية/ ت: محمد معتصم.
[6]: محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي، هايدن وايت / ت: نايف ياسين.
[7]: المئذنة البيضاء أو المنارة البيضاء التي سينزل عليها المسيح والتى بناها السلطان نور الدين محمود بن زنكي في القرن السادس الموجودة اليوم على الباب الشرقي لمدينة دمشق القديمة، ويعتبر نزوله من أشراط القيامة الكبرى عند المسلمين.