ينقلنا كتاب "الثورة المصرية ونساء يقاومن العنف الجنسي: شهادات نسويات عربيات"[1] لنعيش قصص ثلاث ناشطات مصريات انتفضن في مواجهة العنف الممنهج نحوهن خلال الفترة التي تلت ثورة يناير (ما بين 2011 و2012)، فتضطلع الكاتبة والباحثة النسوية منال حمزة بالتعاون مع الناشطات: سميرة ابراهيم، وعُلا شهبة، وياسمين برماوي، بتعرية الأنظمة المستبدة والقامعة التي تحاول بشتى الطرق والوسائل أن تمحو تجارب ومواقف من يحاول مقاومتها خاصة من النساء. وكما يشير عنوان الكتاب صراحةً؛ فهو يوثق شهادات المناضلات الثلاث بتفصيل يبرز من خلاله مقاومة وجرأة المرأة المصرية ودورها المحوري في الثورة والنضال السياسي.
الدكتورة منال حمزة نسوية عربية مقيمة في أمريكا تعمل أستاذة دراسات النوع الاجتماعي (الجندر) والجنسوية في جامعة ولاية نيو مكسيكو. تتميز أبحاث وأعمال الكاتبة باعتمادها الممارسات البحثية النسوية والافتكاك الكولونيالي إضافة إلى منهجيات البحث النوعية القائمة على استخدام الفنون[1، 2، 3] وتوطيد العلاقات الإنسانية التبادلية العابرة للحدود وبالرغم من انتقالها للعمل والعيش في الغرب، إلا أنها لم تنقطع يوماً عن قضايا وأحداث عالمنا العربي، فتصف في مقدمة الكتاب أثر حركة يناير والثورات العربية الأخرى في نفسها - خاصة وأن لديها تاريخاً شخصياً وعائلياً طويلاً مع مصر- "أردت أن أكون في الميادين المصرية في رحم الثورة وأن أكون في صلب رؤيتها، أردت أن أعيش "عروبة" جديدة".[4]
ومن خلال متابعتها الوثيقة لأحداث الثورة، تعرّفت منال على شهادات النساء قبل البدء بمشروع الكتاب، إذ كانت موثقة ومعلنة عبر وسائل الإعلام المختلفة. وفي عام 2013 وخلال زياراتها المتكررة للقاهرة، قامت الكاتبة بالتعمق في شهادات الناشطات من خلال بناء علاقات تشاركية معهن قائمة على الثقة المتبادلة والانفتاح والفهم العميق للتجربة المعيشة وتداعياتها. فتفاعلت منال مع سميرة وعُلا وياسمين وتجاربهن من خلال تساؤلات ونقاشات عدة حول موازين القوة والعنف والمقاومة والاستعمار والدين واللغة والإعلام وغيرها من القضايا المحورية.
لم تدّعي الكاتبة أنها تملك السلطة المعرفية كباحثة وأكاديمية، إنما تفاعلت مع الناشطات كشاهدة رابعة وتجولت في ثنايا وتفاصيل قصصهن لتنسج من هذه الخبرات والتجارب نصاً تحليلياً يعبر عن موقف سياسي ونسوي صريح وعربي. لم تكن الشاهدات في موقع المبحوثات بل مشاركات في تنظير وتحليل شهادتهن وموقفهن وتجربتهن والتي حصلت على النصيب الأكبر من صفحات الكتاب. فالكتاب هو ثمرة ثماني سنوات من العمل الدؤوب للباحثة وأربع سنوات من التعاون مع المناضلات سميرة وعُلا وياسمين، الأمر الذي يظهر جلياً في تفاصيله وقوة توثيقه وتحليله للشهادات الثلاث.
تقدم منال "الحكي" و"الشهادات" على أنهما أدوات ومنهجيات بحث نسوية عربية، موضحة أن الشهادة هي سرد للحقيقة بشكل قصدي وعلني وله أغراض سياسية، أما الحكي فهو حديث وتفاعل عفوي يفتح مجالاً أمام الشاهدات للتعمق بتجاربهن مع الباحثة بعد بناء علاقة ثقة تبادلية معهن. وعليه، يساهم الكتاب بشكل رئيس في توثيق واعتماد الشهادات والحكي كأدوات بحثية ديكولونيالية وثورية، ويتحدى صراحةً الفكر الغربي التراتبي السائد حول منهجيات البحث وطرق البحث الحداثية/الاستعمارية (الكولونيالية) والتي تفرضها المؤسسات الأكاديمية على الباحثات/الباحثين[5]. كما يؤكد الكتاب على أهمية الشهادات والقصص الفردية في الكشف عن ممارسات النظم/المنظومات القمعية، وعلى التعمق المنهجي في هذه الشهادات وتوثيقها كوسيلة للحفاظ عليها خاصة في الذاكرة الجمعية العربية. فيصبح توثيق الشهادات أداة لتمثيل ممارسات يومية شجاعة للناشطات أنفسهن وغيرهن من المناضلات اللواتي يقاومن الأنظمة القمعية بشكل يومي.
ومن الملفت للنظر استخدام الكاتبة للعديد من المصطلحات المحورية والمهمة في الكتاب باللغة العربية إنما بأحرف لاتينية، فتحتم على القارئ/ة – خاصة الغربي/ة – على التفاعل مع هذه المفاهيم والمصطلحات في سياقها العربي بدلاً من ترجمتها للغة الانجليزية، فتصبح بذلك اللغة العربية واستخدامها شكلاً آخر من أشكال المقاومة التي يطرحها الكتاب.
تناولت الشهادات الثلاث التي تم نقلها وتحليلها في الكتاب ثلاثة تكتيكات لعنف جسدي وجنسي ضد المرأة مارستها أجهزة الأنظمة الحاكمة لمصر عقب ثورة يناير في محاولة لإيقاف المقاومة الشعبية من خلال انتهاك وتعرية جسد المرأة في المجال العام. فتروي الشاهدات تلك الممارسات العنيفة بشكل مفصل في ثلاثة فصول من الكتاب:
توثق سميرة إبراهيم في شهادتها "كشوف العذرية" والتي قامت بها قوات الجيش المصري بعد تنحي/إسقاط الرئيس حسني مبارك وتسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد الحكم في البلاد لترهيب النساء ومنعهن من المشاركة في الحراك السياسي بشكل عام والثورة بشكل خاص. تسرد سميرة إبراهيم في شهادتها معركتها مع القضاء والنظام والمؤسسة العسكرية وكافة المؤسسات والأفراد المتواطئين مع النظام للدفاع عن حقها وحقوق النساء في رفض فحص "كشوف العذرية" -وانتهاك أجسادهن- الذي يمارس ضدهن. وعلى الرغم من تواطؤ النظام الحاكم والقضاء حينها وعدم إنصافها في القضية، إلا أنها نجحت باستصدار قرار من المحكمة العسكرية يمنع استخدام فحص "كشوف العذرية" ضد النساء المعتقلات بالسجون المصرية.
أما شهادة ياسمين البرماوي فوثقت حادثة الاغتصاب الجماعي أثناء تولي محمد مرسي الحكم في البلاد. فتصف ياسمين بتفاصيل موجعة الضرب والعنف الجنسي الذي تعرضت له لمدة 90 دقيقة أثناء المظاهرات المليونية في نوفمبر 2011 في المنطقة المحيطة بميدان التحرير، كما تصف ياسمين في شهادتها طرقاً مختلفة قاومت من خلالها بكل قوة وشجاعة الاعتداء الجنسي الجماعي الذي كان يحوّطها وينتهك جسدها من كل جانب وسط مشاركة المارة من الذكور بالتحديق إلى حد الاستمتاع الجنسي. وأدركت ياسمين أهمية دورها في الكشف عن حقيقة ما تعرضت له هي والعديد من النساء في تلك الفترة لمقاومة هذا التكتيك الممنهج في إسكات النساء ومنع مشاركتهن في حركات المقاومة الشعبية.
وأخيراً وثقت شهادة علا شهبة الاعتداء الجسدي والجنسي الذي تعرضت له من قبل الميليشيات الإسلاموية في الحجز والذي كان أيضاً تحت إشراف قوات الأمن والجيش عند مشاركتها في تظاهرة المليونية أمام قصر الإتحادية في الخامس من ديسمبر 2012. وكانت مشاركة علا وغيرها من المتظاهرات/ين اعتراضاً على القرارات المطلقة التي أعلنها الرئيس مرسي آنذاك، حيث تصاعدت الاشتباكات بين الميليشيات الإسلاموية والمتظاهرين في ذلك اليوم والتي أدت إلى مقتل عشرة أشخاص وإصابة المئات. وساهمت شهادة علا التي أدلت بها مباشرة في مقابلة تلفزيونية حية ولاحقاً في المحكمة في كشف الكثير من التفاصيل وإدانة الانتهاكات التي حدثت في ذلك اليوم والذي عرف أيضاً بقضية "أحداث الاتحادية".
في الختام، يعتبر هذا الكتاب إضافة قيمة للإنتاج النسوي العربي والبحث المستند إلى تجارب الأفراد وخبرتهم المعيشة، حيث يجسد بشكل صريح ومباشر قوة الشهادات كأداة لإنتاج المعرفة النابعة من التجارب الشخصية وخاصة الجسدية وحفظها في الذاكرة الجمعية للمقاومة العربية. فيغدو بذلك كتاب "الثورة المصرية ونساء يقاومن العنف الجنسي: شهادات نسويات عربيات" إضافة أساسية ومهمة إلى قائمة مراجع والباحثات/ين المعنيات/ين بنضال المرأة العربية السياسي وباستخدام وتطوير منهجيات بحثية نسوية عربية تعزز من الإنتاج المعرفي النسوي الديكولونيالي.
الهوامش:
[1]: Manal Hamzeh, Women Resisting Sexual Violence and the Egyptian Revolution: Arab Feminist Testimonies (Zed Books, 2020).
[2]: "قصص من الثورة المصرية: عُلا شهبة وياسمين برماوي" (27 يناير، 2022). مدى مصر. تم الاسترجاع بتاريخ 30 يناير 2022 (Arabic) (English).
[3]: "ما حدث لي يجب أن لا يحدث أبداً لفتيات أخريات: شهادة سميرة ابراهيم (25 أيلول 2020). ذا نيب The Nib. تم الاسترجاع بتاريخ 26 أيلول 2020.
[4]: حمزة (ص. 28، 2020).
[5]: Flores Carmona, J., Hamzeh, M., Delgado Bernal, D. & Zareer, I. (2021). Theorizing Knowledge with Pláticas: Moving Toward Transformative Qualitative Inquiries. The Journal of Qualitative Inquiry. Special Issue on Institutionalized Racism in Qualitative Inquiry: Recognitions and Challenges, 27 (10), 1213-1220.