إيتالو كالڤينو، ترجمة دلال نصر الله
(دار المدى، بغداد، 2021)
[دلال نصر الله، كاتبة ومترجمة من الكويت، اختارت التخصّص في ترجمة الأدب الإيطالي، وفي هذا الإطار نقلت عنواين متميزة إلى اللغة العربية، إلى جانب ترجماتها عن اللغة الإنجليزية أيضاً. من ترجماتها: "ناسك في باريس" لإيتالو كالفينو، "الملاك إزميرالدا" لـ دون ديليلو].
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
دلال نصر الله (د. ن.): اهتمامي بالأدب الإيطالي ودراسته قاداني إلى ترجمة كتاب ناسك في باريس لإيتالو كالڤينو، وهو كتاب يضم لمحة تفصيليّة حياديّة عن حياته وأسلوبه النّقدي، فأحببت التّوسع في عالمه البعيد عن الرّواية، ومن هنا وجدت أنّ لترجمة هذا الكتاب أهميّة عُظمى تُعرفنا على أهميّة الكتب الكلاسيكيّة وطريقة استكشافها بما يتناسب مع الزّمن المعاصر.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية التي يحتوي عليها الكتاب؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(د. ن.): يبدأ الكتاب بمحاولة لإشراك القارئ لإيجاد تعريف للكتاب الكلاسيكي، ثمّ يأخذنا لثلاث وثلاثين كتاباً كلاسيكيّاً من منظور إيتالو كالڤينو. أغلب الكتب أو القصص التي اختارها منتشرة بالفعل في عالم اليوم، لكنّنا سنتعرّف إلى كتب لم تترجم بعد إلى اللغة العربية، كما سنتعرّف إلى خبرة كالفينو معها وأسباب اعتبارها كتباً كلاسيكيّة تخصّه.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(د. ن.): أوّل تحد كان عدم قدرتي على ترجمة أي مقالة موجودة في الكتاب دون قراءة الكتاب كاملاً أو السّواد الأعظم منه إن كان ملحميّاً. أمّا ثاني تحد واجهته، فهو وجود كتب غير مترجمة إلى العربيّة كالأميرات السّبع للشّاعر نظامي الكنجوي. في حين أنّ آخر تحد هو إعلاء لغة النّص لتناسب الكتب النّقديّة والدّراسات التي تختلف اختلافاً تامّاً عن لغة الرّوايات.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(د. ن.): الكتاب الثّامن من الكتب العشرة التي ترجمتها حتّى اليوم.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(د. ن.): أحببت مقالتان وكان لهما وقع خاص في قلبي: الأولى عن بورخيس والثّانية عن تشيزره پاڤيزه. ربما لأنّي أحب قراءة أعمالهما. اضطررت في بعض الأحايين للاستعانة بالتّرجمة الإسبانيّة والفرنسيّة للكتاب، كما استشرت الزّميلين يزن الحاج ومحمد آيت حنّا الذين لم يبخلا علي بأي معلومة بتاتًا.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
(د. ن.): كلّ مهتم بالقراءة، والأدب الإيطالي، والمنجز الثّقافي اللاروائي لإيتالو كالڤينو.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(د. ن.): أنجزت كتابيْن بعد هذا الكتاب، وبدأت ترجمة رواية أخرى سيعقبها ترجمة كتاب أهديه إلى فلسطين.
مقتطف من الكتاب
لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكيّ؟[*]
لنحاول توحيد تعريف الكتب الكلاسيكيّة:
1. الكُتب الكلاسيكيّة هي التي يُشير إليها أغلب النّاس بعبارة: "أنا أعيد قراءة..."، وليس "أنا أقرأ..."
يُفترض حدوث هذا مع "واسعي الاطّلاع" على الأقل، وهذا ينطبق على فئة الشّباب الذين يتواصلون أوّل مرّة مع العالم، والكلاسيكيّات جزءٌ لا يتجزّأ من العالم.
قد يُثير فعل "أعيد" الذي يسبق كلمة "قراءة" حفيظة من يخجلون من الاعتراف بأنّهم لم يقرأوا كتابًا ذائع الصّيت. ولطمأنتهم أقول: مهما تنوّعت قراءات المرء، سيظل هنالك عدد هائل من أُمّات الكتب التي لم يقرأها.
ارفَع يدك يا من قرأت أعمال هيرودتس وثوسيديس كاملةً. ماذا عن أعمال سان سيمون؟ كاردينال ريتز؟ حتّى أعظم روايات القرن التّاسع عشر قد تحدّثوا عنها أكثر مما قرأوها. في فرنسا، تُقرأ أعمال بلزاك في سِني الدّراسة، ومن عدد الطّبعات نعرف أنّها تُقرأ حتّى بعد انتهاء دراستهم بزمن طويل. ولو أُجرى استطلاع لمعرفة مدى انتشار أعمال بلزاك في إيطاليا، فأخشى أنّه سيتذيّل قائمة الأدباء. أمّا مُحبّو ديكنز في إيطاليا فهم نخبةٌ قليلة العدد، إذا اجتمعوا في مجلس، يستذكرون شخوص رواياته، وأحداثها، وكأنّهم يتحدّثون عن أشخاص يعرفونهم على أرض الواقع. حدَثَ قبلَ أعوام أنْ سأم مايكل بوتور - أستاذ في أمريكا - من سؤاله عن إيميل زولا الذي لم يكن قد قرأ شيئًا من أعماله، فعَقَد العزم على قراءة سلسلة روجون ماكار Les Rougon-Macquart كاملة، وسرعان ما اكتشف أنّها تختلف اختلافا جذريًّا عما تصوّره؛ فهي رواية أسطوريّة رائعة تتعلّق بأصل الكون، ممّا حدا به إلى كتابة مقالٍ عنها.
نستشف ممّا سبق أنّ قراءة كتابٍ عظيمٍ للمرة الأولى في مرحلة النّضج يبعثُ في قارئه مُتعةً استثنائيّةً تختلف (يصعب تحديد مدى الاختلاف) عن قراءته في عمر الشّباب، فالشّباب يعتبرون تجربة القراءة شبيهة بتجاربهم الأخرى؛ نكهتها وأهميّتها محدودتيْن، بينما ينزعُ المرءُ في سنواتِ نضجه إلى تقدير (ينبغي أنْ يُقدّر) التّفاصيل، ومستويات التأويل أكثر بكثير. وعليه، بالإمكان صياغة تعريفٍ آخرَ للكتب الكلاسيكيّة:
2. الكتب الكلاسيكيّة بمثابة ثروة لمن قرأوها وعشقوها، قيمتها أقل لمن حالفهم الحظ وقرأوها مرّة واحدة في أفضل حال يتيح لهم التّمتع بها.
قد لا تعودُ قراءات مرحلة الشّباب بالنّفع المرجو منها على صاحبها لما جُبل عليه من سرعة الضّجر، وكثّرة السّهو، وانعدام خبرته في التّعامل معها، وانعدام خبرته في الحياة [عمومًا]. لكنّها قد تكون (لربما في ذات الوقت) تأسيسيّة من ناحية منح تجارب الشّاب المُستقبليّة شكلًا عبر: توفيرها لنماذج، ومصطلحات المقارنة، ومراتب تصنيف، وتدريجاتٍ للقيمة، وأمثلةٍ على الجمال. جميع عناصر قراءات شبابك ستترسّخ فيك، سواء أتذكرت الشّيء اليسير منها أم نسيتها تمامًا. إعادة قراءة تلك الكُتب في مرحلة النّضج يعني أنّ العناصر المُكوّنة لها ستُصبح جزءًا من كينونتك، حتّى لو نسيت مصدرها. لهذا النّوع من الكُتب قوّة كامنة؛ إنّها تُرغمنا على نسيانها في الظّاهر، وتزرع بُذورها في باطننا. ممّا يقودنا للتعريف التّالي:
3. للكتب الكلاسيكيّة وقعٌ يميّزها سواء أَدُمِغت في ذاكرتنا دمغًا لا يندثر، أو تنَكّرت بيْن تلافيف الذّاكرة على هيئة لاوعي جمعي أو فردي.
هذا يعني ضرورة تخصيص وقت في سِنِي النّضج لإعادة قراءة أهم الكتب. سيكونُ الكتاب كلاسيكيًّا إذا شعرنا أنّ قراءتهُ تجربة جديدة كُلّيًا؛ الكتاب ثابتٌ بطبيعة الحال (سيتغيّر من المنظور التّاريخي حتمًا)، ونحن من نتغيّر.
نستخلص هنا أنّ تعويلنا على فعل "قرأت" أو "أعدتُ قراءة" لا يُشكّل فارقًا كبيرًا. بالتّالي يُمكننا أنْ نقول:
4. الكتاب الكلاسيكي هو الذي تكتشف جديدًا فيه كلّما أعدتَ قراءته.
5. الكتاب الكلاسيكي هو ذاك الذي إذا قرأته للمرّة الأولى، ينتابُك شعورٌ بأنّك قد قرأته من قبل.
يمكن اعتبار التّعريف الرّابع أعلاه نتيجةً حتميّةً للتّعريف التّالي:
6. الكتاب الكلاسيكي هو كتابٌ لا ينضب مُحتواه.
يُرجّح التّعريف تعليلًا على النّحو التّالي:
7. الكتب الكلاسيكيّة هي تلك الكُتب التي نُلاحظ فيها تأثّرها بكُتبٍ سبقتها من ناحية، ونلمس تأثيرها في ثقافة أو مجموعة ثقافات (العادات أو اللغة لمزيد من التّبسيط) من ناحية أخرى.
ينطبق هذا على كلّ من الكلاسيكيّات القديمة والحديثة. إذا قرأتُ الأوديسة لهومر، لن أنسى غاية جميع مغامرات يوليسيس على مر القرون، وأتساءل عمّا إذا كان النّص يحمل هذه التّأويلات فعًلا، أم أنّها قشور تراكمت عليه، أمْ أنّه ممسوخ. وإذا قرأتُ كتابًا من تأليف كافكا، أجدني بيْن الرّافض والمُؤيد لاشتقاق نعت "كافكوي" الذي نسمعه كثيرًا باستخدامات قد تجانب الصّواب أحيانًا، أمّا إذا قرأتُ آباء وبنون لتورغينيف أو الشّياطين، فأتفكّر في كيفيّة تناسخ هذه الشّخصيات وصولًا إلى الزّمن الحالي.
ينبغي أنْ يُباغت العمل الكلاسيكي تصوّراتنا المُسبقة عنه. ولهذا السّبب أنصح بقراءة النّصوص الأصليّة مُباشرةً؛ أي تجنّب قراءة التّحليلات النّقديّة عنه، وحواشيه، وشروحه. كما ينبغي على المدارس والجامعات تعليم الطّلاب أنّ الكتاب الذي يناقش كُتبًا أخرى لن يقول أكثر ممّا قاله الكتاب الأصلي الذي يدور حوله النّقاش. ناهيكَ عن انتشار مفهوم سلبي يشجّع على قراءة تمهيد الكتاب، وتحليله، ونقده بأدوات؛ تمهيدُ الكتاب ليس إلّا ستارًا يحجب معنى النّص الذي لن تُدركه إيّاه عبر وسيط يَدّعي أنّ علمه يفوق ما يُريد الكتاب قوله. نستنتج ما يلي:
8. الكتاب الكلاسيكي هو الكتاب الذي يُثير قَتامَ نقد الآخرين له، ثمّ يزيحه.
قد لا يأتي المُنجَز الكلاسيكي بجديد؛ وقد يؤكّد أمورًا نعرفها بالفعل (أو اعتقدنا أنّنا نعرفها)، لكنّه حتمًا تطرّق لها أولًا (أو أنّ الفكرة تتّصل بالنّص بطريقة معينة). وهذا الاكتشاف بمثابة مفاجأة أيضًا، ويبعث في [القارئ] مَسَرَّة كالتي يبعثها اكتشاف أصل فكرة ما، أو علاقتها بالنّص، أو أوّل من كتب عنها. وممّا سبق يمكننا اشتقاق التعريف التالي:
9. الكتب الكلاسيكيّة هي التي نعتقد أنّنا أحطنا بمضمونها ممّا قيل لنا عنها، لكنّنا نكتشف أنّها أكثر أصالة، ومُبتكرة، وتُنافي توقّعاتنا، بعد قراءتها.
ويحدث طبعًا حين يؤدّى الكتاب الكلاسيكي "كلاسيكيَّتَه"، أي عندما يؤسّس لعلاقةً شخصيّة مع القارئ. إذا لم تُقْدح شرارة الحب بينهما، فليس بوسعنا فعل شيء؛ لا فائدة من قراءة الكلاسيكيّات بدافع الواجب أو الاحترام، يجب أن نقرأها حُبًّا فيها، وهذا لا ينطبق على قراءتها في المدارس التي من واجبها لفت انتباهك – شئت أم أبيْت – إلى وجود أُمّاتٍ للكُتب، قد تكتشف من بينها (أو من خلال استخدامها كمعيار) كُتُبًا كلاسيكيّة "تخُصُّك". تزوّدكَ المدرسة بأدوات تعينك على اتّخاذ القرار، لكنّ أهمّ اختياراتك في الحياة هي التي تصطفيها بعد أو خارج محيط الدّراسة.
لن تعثُر على الكتاب الذي سيصبح "كتابك"، إلّا بقراءة طوْعيّة. أعرفُ باحثًا مُتخصّصًا في الفن، واسع الاطلاع، والذي من بين كل مجلدات الكتب التي قرأها، لم يُعجَب إلّا بكتاب مذكّرات بيكويك، فبات يقتبس منه في كل أحاديثه، ويربط حوادث حياته بالكتاب، حتّى أصبح تدريجيًّا هو بذاته، والكون، والفلسفة الحقيقيّة في تماهٍ كُلّي مع مذكّرات بيكويك. يقودنا هذّا المسار نحو إلى فكرة سامية ومُتطلّبة:
10. الكتب الكلاسيكيّة صِنْو الكون، إنّما تُنعَت بالكلاسيكيّة لأنّه تشبه الطّلاسم الأثريّة.
تعريفٌ كهذا يُقرّبنا من فكرة الكتاب الشّامل الذي حَلم مالارميه به، لكنّ العلاقة المُكافئة التي يُنشئها الكتاب الكلاسيكي ليس لها هُويّة، بل تكون مُعارِضة أو مُناقِضة. جلُّ أفكار جان جاك روسو وأفعاله قريبة من قلبي، لكنّها أيقظتْ فيني حاجة لا يمكن كبحها لمخالفته، ونقده، ومُجادلته. شخصيّته لا تناسب مزاجي، كنتُ لأقاطع كُتبه لهذه الأسباب لولا أنّي أعتبره أحد كُتّابي المُفضّلين. إذن:
11. كُتُبك الكلاسيكيّة تهمُّك، وتُعينك على تعريف ذاتك على ضوء تآلفك واختلافك عنها.
أعتقد أنّ عليّ إيجاد المُسوّغ لاستخدام مصطلح "كلاسيكي" عبر إيجاد الفارق الدّقيق بيْن القِدَم، أو الأسلوب، أو النّفوذ. (لمزيد من المعلومات حول مرادف هذه الكلمات، أنصحكم بقراءة مدخل شامل عن مصطلح الكلاسيكيّة، للكاتب فرانكو فورتيني في موسوعة أينودي، الجزء الثّالث). الفارق الدّقيق بيْن الكتاب الكلاسيكي بمعنى القديم، والكلاسيكي الذي أقصده في هذا المقال هو دوره في الامتداد الثّقافي. لنا أنْ نقول أنّ:
12. كتابك الكلاسيكي يتصدّر بقيّة الكلاسيكيّات، لكنّك لن تُدرك مكانته بمعزلٍ عن قراءة الكلاسيكيّات الأخرى.
بات من الصّعب الآن تأجيل التّطرّق لمُشكلة شائكة تتعلّق بالرّبط بين قراءة الكلاسيكيّات وكتبٍ أخرى ليست كلاسيكيّة. تتعلّق الإشكاليّة بالتّساؤلات التّاليّة:
"لماذا نقرأ الكُتب الكلاسيكيّة عوضًا عن قراءة الكتب التي تعيننا على فهم زماننا؟"، "كيف نجد هدوء البال، والفراغ لقراءة الكلاسيكيّات، خاصّة مع وجود سيل يغمرنا من الأخبار المطبوعة اليوم؟"
يمكننا طبعًا افتراض وجود قارئ محظوظ يجد متّسعًا من الوقت لقراءات خصّصها فقط لقراءة كتب: لوكريتيوس، لوتسيانو، مونتين، إراسموس، كيڤيدو، مارلو، ومقال عن المنهج لديكارت، ورواية ڤيلهيلم مايستر لغوته، كولرج، رَسكن، پروست، ڤاليري، مع شيءٍ من التّبحّر في [كتابات الأديبة اليابانيّة] موراساكي أو الحكايات التّراثيّة الأيسلندية. وبافتراض أنّ ذات القارئ ليس مُجبَرًا على كتابة المُراجعات عن آخر كتاب قرأه، ولا كتابة الأبحاث للحصول على مقعد جامعي، ولا تحرير الكتاب نظرًا لوجود عقد عمل قصير المدى، فإنّ عليه الاستمرار في روتينه دون تدنيس لأيّامه، وعليه تجنّب قراءة الصّحف اليوميّة، وعدم الاستسلام لأحدث رواية أو استبيان سوسيولوجي. لكن من اللّازم التّمعّن في مدى نفع هذا المنهاج. قد يكون العالم المعاصر تافهًا سخيفًا، لكنّه ما يزال نقطة ثابتة نقارن بها تقدّمنا أو تخلّفنا. تستوجب قراءة الكلاسيكيّات تحديد "إحداثيّاتها" في زمن قراءتها، وإلّا سيضيع كُلٌّ من الكِتاب وقارئه في متاهة سرمديّة؛ بإمكان القارئ استخلاص أقصى منفعة من الكتاب الكلاسيكي إذا قرأه بتبادل ماهر وبجرعات دقيقة من الكتابات المعاصرة. لا أفترضُ وجود توازنٍ داخلي في قارئ من هذا النّوع؛ إذْ قد يُشيرُ إلى مزاجٍ عصبي، قليل الصّبر، صعب الإرضاء.
لعل من الأمثل تلقّي أخبار الحاضر على أنّها ضوضاء خارج نافذة تقينا من الازدحام وتقلّبات الطّقس في الخارج، ونحن [نستمتع] بتدفّق الخطاب الكلاسيكي بصفاء ونقاء في غرفنا. يستحيل فهم الكلاسيكيّات بمعزلٍ عن ضجّة الأحداث الرّاهنة كضجّة التّلفاز مثلًا، ولهذا أضيف ما يلي:
13. الكُتب الكلاسيكيّة هي التي تحوّل متاعب الحاضر إلى خلفيّة صوتيّة، ولا يمكن الاستفادة من تلك الكتب دون تلك الخلفيّة.
14. الكتُب الكلاسيكيّة هي التي تستمر في عملها كموسيقا خلفيّة [في ذهنك]، مهما اشتدّت نوازل الدّهر.
الحقيقة الخالدة هي أنّ الكلاسيكيّات تبدو في ظاهرها متعارضةً مع وتيرة حيواتنا التي تخلو من فترات الرّاحة الطّويلة، أو أوقات التّرويح عن النّفس، كما يبدو أنّها تتعارض مع ظاهرة الانتخاب الثّقافي الذي يعجز عن إيجاد دليل أو قائمة للأعمال الكلاسيكيّة المناسبة لنا.
عاش [الشّاعر الإيطالي] جياكومو ليوپاردي في قصر والده، حيث درس العلوم الإغريقيّة واللاتينيّة القديمة في مكتبة والده مونالدو، ثمّ أضاف عليها كل كُتب الأدب الإيطالي الصّادرة آنذاك، وكلّ مُنجزات الأدب الفرنسي، عدا الرّوايات والأخبار بشكل عام التي أزاحها للهامش لتسلية أخته (ذيّل ستندال إحدى رسائله الموجّهة لها بعبارة "ستندال الخاص بكِ"). كما أشبَع جياكومو اهتماماته التّاريخية والعلميّة بكتب لم تكن "حديثة"؛ قرأ عن عادات الطّيور في بوفون، عن فريدريك روش ومومياواته، وعن أسفار كولومبوس في كتب روبرتسون.
التّعليم الكلاسيكي [المنزلي] الذي حظي به ليوپاردي غير قابل للتطبيق اليوم، خاصّة وأنّ مكتبة والده الكونت مونالدو قد تلفت حرفيًّا؛ ما عاد للعناوين القديمة وجود، وتضاعف عدد الكتب الحديثة لتشمل آدابًا وثقافات في كلّ المجالات. على كل شخص منّا إنشاء مكتبته الأمثل للكلاسيكيّات؛ وأقترح أنْ يتكوّن نصف كتبها من الكتب التي قرأناها وعنت لنا شيئا ما، وأنْ يتكوّن نصفها الآخر من التي ننوي قراءتها ونعتقد أنها قد تعني لنا شيئًا، وينبغي تخصيص مساحة للاكتشافات المفاجئة.
ألاحظ أنّ ليوپاردي هو الأديب الإيطالي الوحيد الذي أشرت إليه. هذا تأثير تلف مكتبته علي. سأُعيد كتابة هذه المقالة من جديد لتوضيع أهميّة الكتب الكلاسيكيّة دون لبس؛ سأحرص على تبيان أنّها تساعدنا في فهم ذواتنا، والمرحلة الزّمنيّة التي نعيشها، وتبعا لذلك فإنّ من واجبنا، نحن الإيطاليّون، قراءة الكلاسيكيّات الإيطالية بهدف مقارنتها بالكلاسيكيّات الأجنبيّة، ومقارنة الكلاسيكيات الأجنبيّة بالإيطاليّة.
ثمّ سأعيد كتابة المقالة للمرّة الثّالثة، حتّى أتأكّد من عدم قراءة النّاس لها لأنّها "تخدم" غرضًا معينًا في أنفسهم. السّبب الوحيد لقراءة الكتب الكلاسيكيّة هو أنّ قراءتها أفضل من عدم قراءتها. وإذا اعترض أيّما شخص على قراءة الكتب الكلاسيكيّة بحجّة أنّ قراءتها لا تستحق بذل الجهد، فأقول له ما قاله سيوران (لم يُصبح كلاسيكيًّا بعد، حيث تُرجمت أعماله إلى الإيطالية مؤخّرًا):
"كان سقراط يتمرّن على عزف النّاي أثناء استخلاص السّم من الشّوكران[**]، فسُئل: "فيم سينفعك العزف وأنت هالك لا محالة؟"، فأجابهم قائلًا: "يكفيني عزفُ هذا اللحن قبل مماتي".
هوامش
[*]: من مقالة بعنوان: "أيّها الإيطاليّون، أحثُّكُم على قراءة الكلاسيكيّات"، نُشرت في صحيفة لسبرسّو، بتاريخ 28 يونيو 1981.
[**]: تنفيذًا لحكم إعدامه، كما ورد في كتاب محاكمة سقراط لكاتبه زينوفون. [المُترجمة].