قليلة، بل نادرة جداً هي تلك الروايات التي كتبت عن انتفاضة آذار 1991 التي اندلعت في مدن جنوب العراق وأسقطت هيمنة السلطة الديكتاتورية ومرغت جبروت البعث الفاشي في وحل العار والفضيحة. رواية "أجنحة في سماء بعيدة" لجمال حيدر التي صدرت عن دار لندن للطباعة والنشر في 2021، تلامس لحظة الانتفاضة والأوضاع القاتمة التي سبقتها، حروب السلطة المتواصلة، والحرب الأمريكية من أجل تحرير الكويت التي دمرت العراق، استبداد السلطة وعنجهية حزب البعث وسفالة أتباعه، حملات الاعتقالات والإعدامات والملاحقات المتواصلة ضد كل عراقي يختلف مع النظام أو يرفض حروبه وغطرسته.
ستار، وجميل، وعبود، وجعفر، وسيد إسماعيل، شخصيات رئيسية في رواية لا تقوم على مفهوم البطولة المطلقة لشخصية واحدة. شخصيات تعيش وقائع حياتها البائسة بعد أن اختارت العيش في مقبرة وادي السلام التي تحولت قبورها ودروبها الضيقة ورمالها إلى ملاذ آمن لأشخاص يعيشون حالة من العذاب المتواصل ويعجزون عن التفكير بحياتهم القادمة. لا يجدون ما يشعرهم بوجودهم سوى سرد حكاياتهم وقصص حياتهم وما عانوه من بؤس وعذاب لبعضهم البعض. يلجأون إلى القبور وشواهدها ليبوحوا لها بكل ما يتعلق بهواجسهم وانهياراتهم والمصير الذي ينتظرهم في لحظة ما، لكنهم لا يعرفون عنه أي شيء يذكر وتركوا أمره للمجهول الذي يمكن أن يأتي في أي لحظة وينهي سيرة العذاب! شخصيات مسكونة بالخيبة والوحشة لاتجيد سوى انتظار لحظة الخلاص من واقعها المرير بعد أن عاشت تجارب مختلفة: الهروب من الجيش بكل ما يعنيه من عقوبات وأحكام بالإعدام، أو من ملاحقة شيخ العشيرة أو من العائلة والأقارب بعد فشل مشروع الزواج من الحبيبة. إنهم مجموعة من الهاربين من حتوفهم أوما سيحل بهم لو تمكنت يد من يلاحقهم من الإمساك بهم!
العذاب والأسى الذي يلف حياة هؤلاء الأشخاص يدفعهم للعجز عن فهمه وتفسيره أو سبب تواصله. لذلك يتساءلون في أمسياتهم: لماذا نتحمل كل هذا العذاب؟ (ص32). عبود الذي هرب من قريته وترك زوجته أميرة وطفلتيه فاطمة وزينب، يقول في لحظة كشف حساب مع نفسه: "لو أتيحت لي الفرصة المناسبة لكنت شخصاً آخر، غير هذا الذي ترونه أمامكم، ثمة شيء مفقود في حياتي لا أعرف ماهو.. آه لو يدلني أحد منكم عليه" (ص31). "فكر لو قدر لإنسان أن يبصق ماضيه مثلما يبصق لعابه لتخلص فجأة من كل همومه العالقة" (ص47). "لماذا يلاحقني هذا الألم طوال حياتي؟" (ص49). "اكتشفوا أن أرواحهم هشة للغاية وقابلة للانكسار" (ص144).
المقبرة التي يعيشون فيها كانت عرضة للانتهاك والغزوات الأمنية المتلاحقة لذلك كان الموت رفيقهم الدائم، الشبح الذي لا يغيب مع كل رصاصة تطلق أو قذيفة تأتي من بعيد، فيزيد من وطأة علاقتهم بالمكان. مقبرة وادي السلام في النجف التي تضم في قبورها ملايين الموتى، لكنها أصبحت مأواهم وستكون مأوى لمن يأتي لاحقاً بعد اندلاع انتفاضة آذار وعودة السلطة وحرسها الجمهوري للسيطرة على المدينة والتنكيل بسكانها وتدمير أبنيتها وشوارعها ومقبرتها وقصف مرقدها الأهم. "تذكر أن الموت مر في منامه ليلة أمس، الموت لا يأتي في الحلم مرة واحدة، بل مرة تلو أخرى" (ص41).
لم يترك جمال حيدر، وهو يكتب روايته الأولى، حياة ووقائع شخصيات روايته، قلقها، ويأسها، وخيباتها، وانتظاراتها، وهروبها المستمر، كما هي، بل منحها بعض الأمل بظهور مديحة حبيبة ستار الذي حاول الدخول إلى المدينة لكن مفرزة الأمن التي ترابط في أحد الشوارع قتلته، فجاءت مديحة للبحث عن أصدقائه من أجل الثأر لستار لكنها تُعتقل وتُعذب وتموت. وكذلك بعد وصول محمود الذي تحول إلى قائد لمجموعة مسلحة استوطنت المقبرة بعد أن تمكنت السلطة من استعادة السلطة على مدينة النجف. ظهور شخصيات مثل مديحة ومحمود، وبما تمتلكه من إرث اجتماعي وتاريخ محمل بالخطايا، همش شخصيات الرواية ودفعها لأن تكون شخصيات هشة تنتظر أن يبلغها القائد محمود بقراراته، أو أن تأتي مديحة محملة بالأسلحة أو الطعام.
الموت هو مصير كل من يستوطن المقبرة، فلا قدرة لهم على مواجهة هجمات السلطة المتكررة، ولا أسلحتها، أوعدتها وعديدها، لذلك لا بد من اختيار طريق آخر، الخروج من المقبرة وسط جموع زوار المقبرة في يوم العيد الأول وبهويات مزورة، ومغادرة المدينة باتجاه بغداد، كانوا يحسبون الدقائق واللحظات، يترقبون طلوع الفجر، من أجل الانطلاق إلى عالم الضوء والهواء والحرية. "في الليلة الأخيرة، أطفأ الرجال الشموع ورقدوا في سكون لما بقي من الليل، بعدما تبادلوا ذكرياتهم بشيء من الطرافة رغم عسرها وشقائها. في اليوم الأول لعيد الفطر، دبّت الحياة في دروب المقبرة الترابية. حشود من كتل بشرية تندفع لزيارة موتاها، لتغدو الفرصة السانحة للرجال بالهروب من المقبرة وهم يحملون هويات مزوّرة. ترك الرجال المقبرة بعدما ابتلعهم الزحام، ومضوا صوب موقف السيارات الواصلة إلى بغداد. استقلوا السيارة كغرباء بعدما نمت لهم أجنحة واسعة ليحلّقوا بها في سماء بعيدة." (ص186).