دينو بوتزاتي
[دينو بوتزاتي (١٩٠٦- ١٩٧٢) روائي وكاتب قصة قصيرة وشاعر وصحفي ورسام إيطالي تُرجمت أعماله إلى جميع لغات العالم تقريباً].
في أحد الأيام قرابة الساعة العاشرة تجلت قبضة يد ضخمة في سماء المدينة ثم بدأت تنبسط تدريجياً، وبقيت على حالتها هذه دون حراك كأنها ظلة هائلة من الخراب. بدت كصخرة إلا أنها لم تكن صخرة. بدت وكأنها من لحم بيد أنها لم تكن من لحم، حتى كأنها بدت مصنوعة من الغيم غير أنها لم تكن من غيم. كانت يد الله تنذر بالقيامة. واللغط الذي توزع أنيناً وصراخاً انتشر في أرجاء المدينة بصوتٍ مفردٍ واحدٍ مريع تصاعد بحدةٍ كأنه صوت بوق.
كان بيترو ولويزا يستمتعان بدفء الشمس بعد أن تجولا في أماكن غريبة، وأمضيا جزءاً من وقتهما في الحدائق. لكن في السماء، وعلى ارتفاع شاهق، كانت اليد معلقةً. وبينما كان صراخ المدينة يهمد تدريجياً انفتحت النوافذ على آخرها وسط البكاء المخيف، والنساء اللواتي لم ينهين ارتداء ملابسهن نظرن ليراقبن الحدث العظيم، وغادر الناس منازلهم راكضين. شعروا بحاجةٍ للحركة، لفعل شيء، أي شيء، بيد أنهم لم يعرفوا إلى أين يذهبون.
انفجرت لويزا بالبكاء فاقدة السيطرة على نفسها: ”عرفتُ ذلك. عرفت أن العالم سينتهي بهذه الطريقة. ليس أبداً عندما تكون في الكنيسة أو أثناء الصلاة. . . لم ألعن. ولم أكترث إطلاقاً والآن أشعر أن الأمر سيتم بهذه الطريقة. . . !“ وما الذي يستطيع بيترو فعله ليواسيها؟ بدأ يبكي مثل طفل صغير. كان معظم الناس غاصين بالدموع أيضاً، خصوصاً النساء، ما عدا راهبين عجوزين رشيقي الحركة، صغيري الحجم، كانا يعبران بسعادة كأنهما في طريقهما لحضور حفلة. قالا بفرح: ”الآن جاء ميعاد المستكبرين“، وتابعا طريقهما بخطواتٍ سريعة ملتفتين نحو عابر طريق: ”إيه! انتهى غرورك. أليس كذلك؟ نحن من يجب أن يشعروا بالغرور!“ ومرا بين الحشد المتنامي مبتهجين كصبية المدارس، هذا الحشد الذي نظر إليهما دون قدرة على المقاومة. بعد دقائق اختفيا في أحد الأزقة. اندفَعَ أحد الأشخاص وراءهما غريزياً كأنه فوّت فرصة ثمينة. صرخ وهو يضرب جبهته: ”يا إلهي! كان بوسعنا أن نعترف لهما، اللعنة!“ أضاف أحد الأشخاص: ”يا لنا من بلهاء، مرا أمام أنوفنا وتركناهما يذهبان. . .!“ لكن من يقدر أن يلحق بالراهبين الرشيقين؟
الفاسدون من الرجال والنساء والذين كانوا من مرتكبي الخطايا سابقاً عادوا من الكنائس بأمل خائب ونفس محبطة، إذ إن كهنة الاعتراف الأكثر ذكاءً اختفوا، بل قيل إنه تم شراؤهم من قبل العائلات ذات النفوذ الأكبر، والصناعيين ذوي السلطة الأقوى. كان شيئاً غريباً أن تحافظ النقود على هيبتها يوم القيامة بعد أن شاع أن العالم سينتهي بعد بضع دقائق أو ساعات أو بضعة أيام، لكن من يعرف؟ أما بالنسبة لبقية كهنة الاعتراف الذين يمكن الوصول إليهم فقد ضاعوا وسط الحشد المذعور للناس الذين تدفقوا إلى الكنائس. وقيل إن حوادث حقيقية حصلت بسبب الحشد الهائل وإن المحتالين الذين يرتدون ثياب القساوسة وجهوا دعوات منزلية لسماع الاعترافات مقابل أجور باهظة. من ناحية أخرى انسحب العشاق الشباب بسرعة ليمارسوا الحب للمرة الأخيرة على أعشاب الحدائق دون أدنى تحفظ، أثناء ذلك، ورغم شروق الشمس، اكتست اليد لوناً رمادياً جعلها مصدراً أكبر للخوف. وبدأت الشائعات تنتشر بأن الكارثة محدقة. أكَّد بعض الأشخاص أنهم لن يلمحوا الظهر. بعد ذلك بقليل شوهد قسيس على شرفة قصر أنيقة مرتفعة قليلاً عن مستوى الشارع، رأسه غائص بين كتفيه، يتأرجح وكأنه خائف من الهرب. كان من المستغرب أن يرى المرء قسيساً في هذا الوقت داخل منزلٍ مترفٍ تسكنه عاهرات. تعالى صراخٌ من مكانٍ ما: ”هناك قسيس، هناك قسيس!“ وبسرعة البرق نجح الناس في إيقافه قبل أن يهرب. صرخوا به: عليك أن تسمع اعترافاتنا. وبعد أن أنهك سحبَ إلى موضع ناتئ من الشرفة يشبه منبر الوعظ وكأنه مصنوعٌ لهذا الغرض. تجمعت أعداد كبيرة من الرجال والنساء بسرعة مندفعةً من الأسفل، متسلقةً النتوءات المزخرفة، متعلقةً بالأعمدة وبحافة الدرج، بحيث لم تعد الشرفة مرتفعة جداً.
وبدأ القسيس يصغي للاعترافات، للأسرار التي يبوح بها أشخاص مجهولون، غير مبالين فيما إذا كان الآخرون يستمعون إليهم. وقبل أن ينتهوا كان يرسم علامة صليب بيده اليمنى موحياً أنه خلصهم من ذنوبهم لينتقل إلى المذنب الذي جاء دوره بسرعة. إلا أن العدد كان كبيراً. نظر القسيس حوله محصياً بحر الذنوب المتصاعد والذي يجب أن يمحى. وبعد جهد عظيم استطاع لويزا وبيترو أن يقتربا ليحصلا على دوريهما. تكلمت الفتاة الصغيرة بسرعة وتشنج وذل خائفة من أن لا تقول كل شيء في الوقت المناسب: ”لم أذهب أبداً إلى القداس. أكذب كثيراً. ارتكبت الكثير من الذنوب. . أضفها كلها إلى القائمة. . ولا أقول ذلك لأنني خائفة من حضور جميع هؤلاء البشر. صدقني! السبب هو أنني أرغب بالمكوث قرب الله، أقسم لك“. كان القسيس متأكداً من إخلاص لويزا لهذا قال: ”ليغفر الله لك ذنوبك“، واستدار إلى بيترو.
نما توقٌ وحشيٌ بين الرجال. سأل أحدهم: كم تبقى من الوقت ليأتي يوم الحساب؟ نظر رجل حسن الهيئة إلى ساعته وكأنه عالمٌ بالغيب: عشرُ دقائق. سمع القسيس الجواب فحاول الهرب. إلا أن الناس أمسكوا به. بدا كأن الحمى دبت في جسده. كان واضحاً أن موجة الاعترافات المتصاعدة إلى أذنيه ليست إلا ثرثرةً مشوشةً جوفاء. رسم إشارة الصليب مرةً تلوَ أخرى. وكرر بآلية: ”ليغفر الله لكم ذنوبكم“. وجاء صوتٌ يُحذّر: ”بقيت ثماني دقائق!“ ارتجف القسيس وخبط بقدميه على الرخام كطفل يتآكله الغضب: ”وأنا. ماذا عني أنا؟“ بدأ يتوسل وقد أكله اليأس. خدعوه بحيث فوتوا عليه خلاص روحه. أولئك البشر الملعونون. ليأخذهم الشيطان جميعاً! لكن، كيف سيخلص نفسه؟ كيف سيتدبر أمره؟ كان على وشك أن يبكي: ”وأنا؟ وأنا“ سأل آلاف المرشحين المتعطشين للفردوس. مع ذلك لم يعره أحد انتباهاً.
[ترجمة أسامة إسبر، المصدر: Great Short Stories of the World, Reader's Digest].