أحمد عليبه
تتجاوز تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا حدود الأراضي الأوروبية، لتطال مصر التي تحاول منذ فترة استعادة دورها القيادي في المنطقة. وقد دعت القاهرة الجامعة العربية إلى اجتماع عاجل، وهي تسهر في نفس الوقت على المحافظة على جميع مصالحها، دون أن تضع نفسها في موقف حرج مع أي من الطرفين.
لا تزال الأزمة الروسية الأوكرانية في بدايتها، ولا يزال الوقت مبكرا للتنبؤ بمآلاتها، وبالتالي فإن حسابات أي طرف في المرحلة الحالية لا تزال تنطوي على التفكير في انعكاسات هذه الأزمة، وليس التفكير في اتخاذ موقف استراتيجي حيال العلاقة مع أي من الطرفين، خاصة إذا كانت هذه الأطراف ليست منخرطة في الأزمة بشكل مباشر.
قد تكون الانطباعات الأولى لانعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا على مصر من جوانب اقتصادية كتأثيرات إمدادات القمح، أو تراجع الحركة السياحية إلى مستويات دنيا، اختزالاً لتأثيرات استراتيجية أخرى -مباشرة وغير مباشرة- محتملة لهذه الحرب على الشرق الأوسط بشكل عام، وعلى مصر بشكل خاص، نظرا لدور الأخيرة الإقليمي وموقعها كقوة مركزية في المنطقة، علما وأنها أدارت خلال السنوات السابقة نمطا متوازنا في السياسة الخارجية تجاه كل من روسيا والقوى الغربية، كما أدارت علاقات جيدة مع كل روسيا وأوكرانيا فى الوقت ذاته.
ومن المتصور -وفقا للتطورات الجارية- أن الأزمة الأوكرانية ستفرض منظورا جديدا للتعامل معها، بالنظر إلى معطى رئيسي وهو صعوبة التسليم بأن أوكرانيا ستكون دولة مستقرة في المستقبل، وفقا للسيناريوهات المتوقعه لمسار الأزمة، الأمر الذي سيفرض بالتبعية إشكاليات جديدة.
مخزن الحبوب
أولت خلية الأزمة الحكومية المصرية برئاسة رئيس الوزراء اهتماماً بالجانب الاقتصادي في المقام الأول. ويقول خبراء الاقتصاد في مصر إن السياسات التي اتبعهتها البلاد خلال الفترة الأخيرة ربما جعلتها تتفادى الأثر الفوري لهذه الأزمة، لاسيما فيما يتعلق بملف القمح، حيث تستورد مصر 50% من احتياجاتها من القمح الروسي و30% من القمح الأوكراني. فعلا، اعتمدت مصر خطة لتخزين القمح بالإضافة إلى الإنتاج المحلي الذي سيضاف لهذا المخزون في بداية الربيع، وإجمالاً سيلبي هذا المخزون احتياجات الأشهر التسعة المقبلة. وفى حال امتداد الأزمة، فستلجأ مصر وفقا للتصريحات الرسمية إلى بدائل أخرى، منها الولايات المتحدة والبرازيل وأستراليا.
قد تكون هذه البدائل مكلفة اقتصاديا مقارنة بنظائرها الروسية والأوكرانية، لاسيما فى ظل برنامج الدعم الحكومي للخبز لشريحة واسعة من المجتمع، ما قد يتطلب بالتبعية إعادة تقييم هذا البرنامج بما لا يؤثر على الشريحة التي تعتمد عليه. إذ يرى العديد من الخبراء أن مظلة هذا الدعم أكثر من حجمها الطبيعي، ويمكن تقليصها بشكل نسبي. لكن فى كل الحالات، ووفقا للخبراء هنا أيضاً، فستتحمّل الحكومة عبء الاستمرار فى تمويل هذا البرنامج بالنظر إلى تأثيراته السياسية، حتى لا يتحوّل إلى نقطة توتر فى المجال العام، على اعتبار أن القمح سلعة استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها في جميع الأحوال.
يمكن اعتبار أن إمدادات القمح الروسية والأوكرانية بالنسبة لمصر قد تعادل مشكلة الطاقة والغاز الروسي تحديداً بالنسبة لأوروبا، وهي مناظرة لصالح مصر فى حالة القمح. لكن الإشكالية لا تتمثل فى مقاربة القيود التي قد تفرض على روسيا أو أوكرانيا تحت المظلة الروسية، بل في مقاربة الإنتاج التي قد تُشكل تحديا. فقد تتواصل عملية إنتاج الغاز الروسي عبر الأنابيب في ظل الحرب، لكن القمح سلعة زراعية تصدر عبر وسائل نقل مختلفة، وعليه فلا شك أن الإنتاج سيتأثر، وبالتبعية عملية التوريد، وهو ما تم الالتفات إليه فى مصر بالبحث عن بدائل أخرى.
معضلة القطاع السياحي
على الجانب الآخر، ظهرت سريعاً تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية على تراجع الحركة السياحية بعد فترة انتعاشها مؤخراً مع تراجع أثار جائحة كورونا، وتجاوز القاهرة وموسكو لأزمة سقوط طائرة روسية فى نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2015، حيث قفزت عائدات السياحة من 4 مليارات دولار في 2020 إلى 13.03 مليار دولار في 2021. ومن المهم الإشارة إلى أن السياحة الروسية والأوكرانية لا تعطي فقط مؤشرا مهما على عملية ازدهار السوق السياحي خاصة فى مدن البحر الأحمر، بل تشكّل كذلك قاطرة استقطاب هامة لهذه السوق من الدول الأوروبية. فقد أعطت عودة السياح الأوكرانيين والروس انطباعا بالأمن والثقة، وبالتالي كان لها انعكاس إيجابي على عودة السياحة الأوروبية بشكل عام، خاصة من ألمانيا وبريطانيا. وبطبيعة الحال، ستتأثر هذه السوق إلى حد كبير بالأزمة الحالية، ما سيشكل عبئا إضافيا.
على المستوى السياسي، يمكن التمييز بين مسارين انتهجتهما السياسة الخارجية المصرية عموماً فى التعامل مع الأزمات المتفجرة. أما الأول، فهو مسار “التكيف”، وينطبق على الأزمة الأوكرانية الحالية، فالبنظر إلى المؤشر الزمني للعلاقات المصرية الأوكرانية، يظهر أن مصر أدارت علاقات متميزة مع أوكرانيا بغض النظر عن الاستقطابات الخارجية للأنظمة السياسية الأوكرانية المتعاقبة، سواء قبل 2014 فى ظل نظام مقرّب من روسيا، أو بعد هذا التاريخ في ظل نظام مقرّب من الغرب. لكن واقعياً، ستعترض هذه السياسة أكثر من إشكالية، ذلك أن التقلبات السياسية في أوكرانيا لم تكن مصحوبة بحالة حرب على نحو ما يجري اليوم.
فى الوقت الحالي، لا يوجد بديل لهذا النمط، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصر لن تغيّر نهجها المتوازن في السياسة الخارجية بالنسبة لعلاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة، لاسيما وأنه لدى مصر علاقات تعاون عسكري متميزة مع الجانبين، وليست فى معرض الاستغناء عن طرف مقابل الاستقطاب لصالح الآخر. صحيح أنه سيكون للحرب تداعياتها في إطار تحولات النظام الدولي، لكن هذه التحولات ستستغرق سنوات طويلة حتى يأخذ النظام الدولي شكله الجديد، مع الوضع فى الاعتبار أن عقارب الساعة لن تعود إلى نظام ثنائي القطبية. فعلا، يجب ألاّ ننسى الصين التي تمثل قوة عظمى في مرحلة الصعود حالياً، وهي تسعى إلى إظهار سلوك رشيد حيال الأزمة الروسية الأوكرانية، الأمر الذي سيخلق هامش حركة أوسع في العلاقات الدولية. وربما بتطور المواقف الدولية سيتعزز نمط التكييف فى السياسة الخارجية المصرية بشكل عام.
مزايا التسليح المتنوع
من جانب آخر، فإن مقاربة التعاون العسكري تظل مهمة في إطار التوازن ومجال مكافحة الإرهاب، وهي معطيات لصالح السياسية الخارجية المصرية بالنظر إلى وضوح موقف القاهرة المبني على عدم الانحياز أو الانخراط المباشر فى الأزمات التي لا تتصل بها مباشرة. يتجلّى هذا الموقف إذا نظرنا إلى السياسة الخارجية التي انتهجتها مصر في السنوات الماضية، حيث لم تنخرط عسكريا في الأزمات الإقليمية إلا بمقدار الحفاظ على أمنها القومي، كما امتلكت وسائل الردع الاستراتيجي للحفاظ على هذه السياسة. ففي ليبيا، ومن منطلق جيوسياسي، رسمت مصر خطوطها الحمراء. أما دوليا، فقد تمكنت من كسب ثقة مختلف الأطراف المعنية بالأزمة الليبية رغم تباين وجهات نظرها.
كذلك، لا تمثل ورادت الأسلحة المصرية من روسيا إشكالية فى الوقت الآني، إلى حد ما ستتأثر سلاسل التوريدات لقطع الغيار، شأن القاهرة في ذلك شأن باقي القوي الإقليمية التي لديها مصالح من هذا النوع مع الجانب الروسي. بل على العكس، قد تكون دولة مثل الجزائر التي تعتمد بشكل رئيسي على السلاح الروسي عرضة للتأثر بالقيود التي قد تُفرض على روسيا. أما بالنسبة لمصر، فلن تكون المشكلة استراتيجية نظرا لوجود تنوع واسع للتسليح المصري، وعدم توقفها على اتجاه بعينه، على عكس التعاون مع الأطراف الأخرى سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو أوروبا الذي يمثل تعاونا استراتيجيا.
على المستوى الإقليمي، تسعى مصر بلا شك إلى إظهار دورها كلاعب محوري في المنطقة. وقد دعت لاجتماع طارئ على مستوى مندوبي الجامعة العربية بهدف استقراء مواقف الأطراف العربية الأخرى. صحيح أن هذه المؤسسة لم تعد تشكّل رافعة للسياسية العربية منذ فترة طويلة، لكنها تظل آلية لتنسيق المواقف. وعلى الأرجح، فإن تبني سياسة عدم الانحياز، والمطالبة بوقف العمليات العسكرية، والدعوة للخيارات الدبلوماسية كوسيلة أفضل للتعامل مع الأزمة، سيكون أفضل لبناء موقف عربي شبه جماعي.
فى الأخير، يمكن القول إن حسابات مصر هي محاولة تقليل أثار الانعكاسات الاقتصادية والبحث عن بدائل ممكنة حتى يتسنى العبور من هذه الأزمة. أما سياسياً، فمن المتصور أن مصر تنطلق من مبدأ أنها لا تخوض حروب الأخرين. لكنها فى الوقت ذاته تسعى إلى بناء سياسة متوازنة لا تؤثر على مصالحها وعلاقات التعاون مع أي طرف على حساب الآخر، خاصة وأنها بعيدة عن الساحة الجيوسياسية لهذه الأزمة، وبالتالي لديها هامش حركة أفضل فى مساحة التوزان.
[تنشر المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع موقع أورنيت]